تنبيه مدير الصفحة:
هذه مداخلة عرضها أستاذنا أبو يعرب في الجنادرية بتاريخ 2014.02.15 لم ننشرها حتى الآن ليدرك القارئ أن التغيير الذي حدث في بلد الحرمين فيه من الحكمة والتدارك لحظوظ نهضة الأمة ما يبشر بكل خير خاصة وقد تلا عنه التعبير البليغ عن الإرادة القادرة ممثلة بعاصفة الحزم التي هي عين العزم الدال على أهمية المنعرج الحالي في فكر القيادة ورشدها.
المداخلة
تمهيد
لا بد من تعليل لتحييز كتابة هذه المحاولة في الرياض. فقد دعيت إلى مهرجان الجنادرية في دورته لسنة 2014 للكلام على الإسلام السياسي وتجربة السلطة باعتباري قد شاركت بصورة غير مباشرة في هذه التجربة وباعتباري من المهتمين بالثورة على مستوى الفكر والتنظير.
لكن الجلسة العلمية التي كنت سأشارك فيها لم تتم لغياب جل المتكلمين فيها. والأمر مفهوم: فمن يجرؤ فيتكلم في مثل هذه القضية في مثل هذا المناخ. و لعل الغياب كان لتجنب ما قد ينتج عن الحضور من الوقوع في ما وقعتُ فيه من الخيار بين الحذر لتجنب الخفايا أو إقامة صدور المطايا؟
وطلب مني أن أقدم نفس البحث في جلسة علمية أخرى حول الإسلام السياسي والمواطنة. فقبلت المشاركة في الجلسة العلمية حول هذه الإشكالية لكني غيرت كلمتي وجعلتها حول المحور الجديد للاتساق مع موضوعها. فعرضت ارتجالا أهم الأفكار التي دافعت عنها وسيأتي إبان نشرها. وهاهو ذا قد أتى.
وأخصص هذا التمهيد الذي تضمن ردي على النقاش الذي تعلق بمداخلتي لأن أفكاره كلها مستوحاة من المناخ الذي ساد المداخلات التي تلت مداخلتي (كانت الأولى في الجلسة) والنقاش الذي دار في القاعة.
فجل المداخلات النقاشية حولت الندوة إلى عكاضية هجاء للإخوان والإسلام السياسي مع الإشارات الاتهامية إلى مداخلتي التي اعتبرها محاضران دفاعا عن الإسلام السياسي وهو شرف لم أدعه. وبدلا من أن يقدما محاضرتهما أعلنا أنهما يردان على مداخلتي فكان كلامهما رميا في عماية أو خبط عشواء.
إن كل ما استمعت إليه في محاور الندوة التي دارت حول الإسلام السياسي على هامش الجنادرية كان في مجمله مقصورا على نوع واحد منه : فالمحاكَم في هذه الندوات ليس الإسلام السياسي بإطلاق لأن الأنظمة الخليجية كلها تعلن أنها ذات مرجعية إسلامية ومن ثم فهي قائلة بالإسلام السياسي حتى وإن كان إسلامُها تقليديا بل إن بعضها لايخفي أن دستوره هو القرآن والسنة. وحتى من ضموا إليه الإسلام السياسي المحاكَم فهو أقرب إليهم منه إليه إذ إن جل الممارسين للإرهاب الفعلي ليسوا من الإسلام السياسي الذي وصل إلى الحكم بعد الثورة.
وإذن فكلامهم يقصر التهمة على الإسلام السياسي الذي تقول به الأحزاب التي وصلت إلى الحكم بفضل الثورة وبصورة أدق هم من عمموا عليهم صفة الإخوان. إنما كان محاكمة جائرة لهذا النوع الثوري من الإسلام السياسي والساعي إلى تأسيس الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية المحررة في آن من الاغتراب في الماضي الذاتي ومن التبعية للاستعمار في غياب ممثليه وفي ظرف يجعل المتعاطفين معهم ممنوعين من الكلام حتى لو افترضنا أن البعض منهم كان من بين الحضور. وكان أغلب المشاركين في هذه المحاكمة فاقدين لصفتي الحكم الضروريتين أعني إنصاف القضاة ومروءة الأحرار:
فليس من الإنصاف أن يكون المتكلمون قضاة ومتقاضين خصوما وحكاما في آن إما لأنهم من أعداء التيار أو لأنهم من المتقربين إليهم.
وليس من المروءة الانحياز إلى القوي ضد الضعيف بل وإلى الظالم ضد المظلوم في ما يجري في بلاد الربيع العربي وخاصة في سوريا ومصر وليبيا.
وهبنا فهمنا لجوء الساسة لمثل هذه المواقف لأسباب سياسية ظرفية قد تكون علة لجوئهم إلى هذه المناورات -وهي مناورات لن تفيدهم إلا باعتبارها حلولا مؤقتة لبقائهم في حكم لا يستمد شرعيته من شعوبهم بل من رضا حاميهم وكان بوسعهم تحقيق هذا الشرط والاستغناء من ثم عن الحماية الأجنبية- فإن فهم هذا السلوك لدى من يسمونهم مفكرين وعلماء يبدو لي غير معقول :
النوع الأول من المفكرين المزعومين – وهم في الأغلب من أبواق الأنظمة القومية والفاشية الفاسدة والمستبدة والمتغنين بقيم الحداثة على شرط اقتصارها عليهم هم من يمكن أن نسميهم علماء السلطان الحداثي المستبد بمعنى أبواق دعايته حول التحديث المستبد والفاسد . ومن ذلك أن أحد المبررين لمذابح السيسي والمؤسسين للحرب على الإسلام في مصر(هجرس) يزعم الانتساب إلى الفلسفة والصحافة في آن حاول أن يثبت أن الإسلام السياسي الذي وصل إلى الحكم بعد الربيع العربي بالطرق الديموقراطية قابل للقيس بما يجري في التجارب الفاشلة التي حدثت قبل الربيع العربي. وقد قدم أمثلة اعتبرها أدلة وفيها تجن يندى له الجبين: تقسيم السودان ناسيا أن مصر سبق لها أن فقدت السودان وليس جنوبه فحسب بل وفقدت سيناء بسياسات خرقاء من ثمرات ما يعتبرونه ثورتهم بل من يعتبر زعيمه السيسي صاحبها مثاله الأعلى. وكان يمكن أن يقيس هذا الإسلام السياسي الذي جاءت به الثورة إلى الحكم على نماذج أقرب إليه فعلا وقولا مثل ما يحدث في ماليزيا وتركيا. لكنه فضل القيس على أفغانستان والسودان حتى يبرر فقدانه للإنصاف والمروءة. ومثله ذلك القطري الذي صب جام غضبه على الإخوان واتهمني بالدفاع عنهم بل وبتمثيلهم حتى يبرر فقدانه للإنصاف والمروءة الفقدان الذي وصفت به جل المتكلمين قبل أن يوجه لي الكلام في رده لكأن المعركة هي مع الإخوان وليس مع من يريدون أن يحولوا دون الثورة وتحقيق شروط الحرية والكرامة في بلاد العرب والمسلمين.
النوع الثاني من علماء السلطان التقليدي يحاولون تبرير الموقف المعادي للإسلام السياسي عامة والإخواني خاصة متناسين أن ما يدافعون عنه مجرد مناورات تنتج عن قصر النظر والسذاجة لأنها من جنس اتهام بعض الأطفال للبعض الآخر للتبرؤ أمام من يخافون منه مما حصل في غيابه. وهذا الخوف من الولايات المتحدة التي قد تتهم الأنظمة العربية التقليدية بالإرهاب ومن إيران ومليشياتها التي تتهمهم بالتكفير يجعلهم بجبنهم وسعيا لحماية ذواتهم ولو لحين يتهمون اقرب الناس إليهم حتى يثبتوا لها أنهم في حل مما جرى رغم أن الجميع يعلم أن مجرد القبول بتوصيف الأفعال بكونها إرهابا تسليم بأن من حق الولايات المتحدة أن تفرض هيمنتها وأن تحدد الإسلام المقبول والإسلام غير المقبول ويصبح ليس من حق المواطن المسلم أن يتطوع للدفاع عن القضايا التي يؤمن بها أعني أنه عليه أن يتنازل عن أهم حقوق الإنسان المتمثلة في حق التطوع للدفاع عن قضايا الحرية والعدل: فهل أعدل وأكثر صلة بالحرية التطوع للدفاع عن شعب أعزل يقتله فاشي وحلفاء أكثر منه فاشية في سوريا بسلاح بقايا الشيوعية في روسيا مع تواطؤ دولي من الصين رغم علم الجميع بأن داعش هي منظمة مخابراتية صنعها النظام وحلفاؤه؟ ثم لماذا لا يصوف تدخل حزب الله ونظرائه من إيران والعراق وكل شيعة العالم إرهابا ؟ أليس لأن المستهدف هو عودة الدولة الإسلامية السنية التي تعيد الأمن والنظام لكل الهلال الخصيب بمنع التدخل الإيراني والصهيوني في مركز الإسلام الأول؟
فليس يمكن أن يكون سلوك هذين النوعين من الأبواق عن قناعة ناتجة عن بحث موضوعي عن الحقيقة ولا عن غفلة ناتجة عن جهل بحقائق الأمور. ومن ثم فلا يمكن تفسير ذلك إلا بتبعية المثقف والعالم للسلطانين السياسي والاقتصادي التابعين للمستعمر. وهذه التبعية لا تقتصر على تبعية المفكرين والعلماء لمموليهم من أنظمة الفساد والاستبداد بل هي تصل إلى تبعية مضامين التربية والثقافة ومناهجهما لأهل الحكم المستبدين بالسلطة السياسية والاقتصادية في أوطاننا.
وكما أسلفت فقد قدمت ورقتي ارتجالا. ورغم أن دافعي للكلام في هذه القضية هو الغضب للحق والعدل فإن المحاولة تظل محكومة بمنطق طلب الحقيقة ومحاولة فهم موقف المتهمين في هذه المحاكمة مع عدم حضورهم فيها وعدم توفير حق الدفاع ولا خاصة شروط الحماية من العدوان عليهم لو سلمنا بوجود من يقدم منهم على رد الحجة بالحجة. والمعلوم أن كوني لست منتسبا إلى أي حزب سواء كان إسلاميا أو غير إسلامي -دون أن أنفي أني أسعى للمشاركة في تحقيق شروط استئناف الإسلام دوره في فتح آفاق البشرية لما يحررها من الإخلاد إلى الأرض-يجعلني أقرب إلى الحكم الموضوعي في مثل هذه النزاعات التي تهمل البعد المعرفي والخلقي فلا يحركها إلا الانحياز السياسي الأعمى.
لست منحازا لأي حزب ولا أنتسب إلى أي حزب لكني لا أدعي الحياد في ما يخص شروط الطلب المعرفي المنطقية وشروط تحديد الوجهة التاريخية لفاعلية الأمة واستئناف دورها في التاريخ الكوني دورها الذي سبق أن أدته أحسن الأداء عندما حافظت على كل تراث البشرية الديني (الإسلام يعترف بكل الأديان) والفلسفي (حضارة الإسلام حافظت على كل التراث المعرفي الإنساني الذي كان في متناولها).
ففي مثل هذه القضايا لا بد من الاحتكام إلى المنطق والتاريخ بأبعاده الخمسة: أحداثه الحاصلة وما له حولها من أحاديث حالية وأحاديثه حول المستقبل وأحداثه المتوقعة ثم حاضره الذي يلغي بذلك كله غليانا تتمازج فيه الأحداث والأحاديث التي من جنس ما يدور في هذه الندوة.
فلا يمكن أن أبقى محايدا في مثل هذه الحالة مع المحافظة على شروط الموضوعية التي تمكنني من أن أفي بشروط البحث النزيه دون أن أخشى في الحق لومة لائم وخاصة عندما أرى مداخلات المشاركين تتحول إلى عكاضيات هجاء لأحد طرفي النزاع بسبب الانتساب إلى طرفه الثاني أو بسبب الطمع في ثمرات التقرب منه ومنافقته.
قدمت أفكار هذه المحاولة إذن إنصافا لطرف غائب يحاكم دون أن يسمع منه رأيه ومروءة للدفاع بقوة الحجة ضد حجة القوة الدفاع عن طرف مظلوم يبدو أن كل قوى الشر تحالفت عليه:
المحلي منها (الثورة المضادة في كل قطر من أقطار الربيع العربي).
والمنتسب إلى المجموعات العربية (الخليج والمغرب العربي مثلا).
والمنتسب إلى المنظومة العربية كلها (الجامعة التي تريد أن تعمم حكم الانقلاب على الإخوان).
والمنتسب إلى القوى الإقليمية المسيطرة على ما تقدم والمتلاعبة بممثليه السذج (الاتفاق الصريح بين الأنظمة العربية وإيران وإسرائيل).
وكل ذلك برعاية من القوى والدولية التي تتلاعب الجميع لمصالحها المعادية لعودة المسلمين والساعية إلى منع كل محاولة لاستئناف دورهم في التاريخ المعاصر (طبعا الغرب وروسيا).
كما قدمتها لأثبت أن مواقف الإسلام السياسي المنتسب إلى المشاركين في ثورة الربيع العربي مواقفه من مفهوم المواطنة يمكن أن تفهم فهما حديثا يجعل أصحابه ممثلين لروح العصر أكثر من كل خصومهم. فهؤلاء يمكن رد مواقفهم كلها إلى المحافظة على الخارطة التي وضعها الاستعمار ليبقوا على وضعهم بوصفهم محميات تحت سلطانه ولو بقهر الشعوب التي تطلب ما يمكنها من أن تتحرر من التبعية فتحقق شروط الحرية والكرامة.
لكن مناخ الندوة حول الإسلام السياسي والعداء الصريح للإخوان بصورة عامة لم يسمح ببحث مثل هذه الإمكانية حتى لمن لا ينتسب إليهم مثلي ويريد أن ينصفهم كما يقتضي ذلك واجب البحث العلمي. فهو لم يكن مناخ بحث عن الحقيقة بل كان أداة في الحرب على الإسلام السياسي الذي أتى به الربيع العربي إلى السلطة الحرب التي تخوضها أنظمة الإسلام السياسي التقليدي التي لم تدرك قياداتها بعد أن حلفها مع الأنظمة العسكرية العربية التي استبدت بالأمر منذ انقلابات القرن الماضي أخطر عليها من كل تهديد تتصوره قابلا للصدور من الإسلام السياسي الذي وصل إلى الحكم بعد الثورة عن طريق الديموقراطية.
فكلا نظامي الاستبداد والفساد يخاف من التحقيق الفعلي لقيم الإسلام التي لا تختلف عن قيم الحداثة أعني القيم التي لا معنى لكرامة الإنسان وحريته من دون انتقالها من الشعارات إلى الواقع: إنها القيم التي سماها ابن خلدون معاني الإنسانية والتي أساسها شعار الثورة الشعري أعني بيتي الشابي المترجمين شعريا لآية قرآنية حول تغيير ما بالأنفس شرطا في تغيير ما بالقوم.
لم يكن المناخ في الندوة مناخا تحدده أخلاق المعرفة ولا منهجيات البحث الذي يطلب الحقيقة بل كان بصورة عامة مناخا خاضعا لموقف سياسي حددته الحرب التي أعلنها حزبان بيني المعالم على هذا الإسلام السياسي الجديد:
حزب الإسلام السياسي التقليدي الحاكم في الخليج والذي جعل الدين والأصالة مبررين للحفاظ على الاستبداد والفساد. وبدلا من انتهاز الفرصة لتدارك ما فاته لم ينتبه إلى ضرورة تجنيب بلاده هزات آتية لا ريب فيها لأن انتشار التعليم والثقافة الحديثة لدى شبابه سيجبره على ذلك إن سلما أو حربا : فكذلك فعلت أنظمة أوروبا الملكية التي حالت دون وقوع الثورة لديها بأن أخذت قيمها الأساسية فتحررت بذلك سلميا من عللها وأصبحت أكثر ديموقراطية وعدلا من الجمهوريات التي نتجت عن الثورة الدامية.
وحزب العلمانيين والليبراليين الذين جعلوا العقل والحداثة مبررين للحفاظ على الاستبداد والفساد والذين أبعدهم الشعب من حكمه. لكن حزب هؤلاء بخلاف حزب أولئك ليس بوسعهم التدارك لأنهم يمثلون الاستعمار بحق ومهمته التحضيرية التي تعتبر الشعوب انديجان ويعاملونها معاملة الاستعمار ومن ثم فلا مستقبل لهم خاصة بعد أن أصبح الشعب يطالب بحقيقة القيم الحديثة لا بكاريكاتورها الاستعماري.
فالحزبان الأول والثاني تحالفا وحاولا إلصاق تهمة ما يسمونه بالإرهاب (تبعا للاستعمار الغربي وعملائه العرب) والتكفير (تبعا للدعاية الإيرانية وعملائها العرب) بالإسلام السياسي المشارك في الثورة رغم أن الإرهاب والتكفير ناتجان عن سلوكهما الظالم والتابع في المجال السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
إنهما يريدان إلصاق هذه التهم بالإسلام السياسي الذي اختاره الشعب ليجربه في الحكم اعتمادا على ثقة مصحوبة بالوعي الحاد بأن الشرعية تأتي منه. لذلك فقد جرى انتخابهم في مناخ حددته مطالب الشعب الجامعة بين قيم الأصالة وقيم الحداثة المتخلصتين من تأثير الانحطاطين الناتجين عن عصر الانحطاط وعصر الاستعمار وعنهما نتجت أنظمة الفساد والاستبداد التقليدية والمزعومة ثورية خلال القرن الماضي.
وبدلا من تحليل الأسباب المتعلقة بسياسات الفساد والاستبداد والحماية الاستعمارية البديلة من الشرعية الشعبية يحاول هذان الحزبان تبرئة نفسيهما أمام حاميهما وخضوعا لدعاية إيران وحزب الله مصدري الإرهاب الحقيقي في المنطقة واتهام الثورة التي تريد تخليص الأمة من الفساد والاستبداد ومن أساسهما الناتج عن عدم الشرعية التي عوضوها بالحماية الأجنبية.
وبسبب خضوعهم هذا للدعاتين الاستعمارية والإيرانية لم يفهموا:
أن ما ينبغي التنبيه إليه هو أن الإرهاب الديني المسيحي في إفريقيا والهندوسي في الهند والبوذي في الصين والإرهاب العلماني في العالم كله لم يقع تعميم التهمتين على غير الفاعلين ليشمل شعوبهم أو أديانهم. لكن أي إرهاب يقوم به مسلم ينتقل الاتهام مباشرة إلى كل المسلمين وإلى الإسلام وتجد من الحكام العرب والمسلمين ممن يدفعه جبنه أو محاولة ترضية حاميه إلى أن يصبح أول الموجهين لهذه التهم إلى جزء كبير من شبعه بل وقابلا بأن يحول نظامه التربوي وثقافة شعبه حتى لا يقع تحت غضب حاميه عليه. فالإرهاب كله ليس إلا من بقايا مرحلة الصراع بين القطبين في المرحلة السابقة على سقوط الاتحاد السوفياتي.
وأن الأحزاب القومية واليسارية والحركات السياسية والنخب التابعة لها والأحزاب الإسلامية التقليدية والحركات السياسية والنخب التابعة لها هي في مجملها مصدر الإرهاب في الداخل والخارج إما ترضية لحماتهم أو تبريرا لعنفهم واستبدادهم لديه. فالإرهاب الحالي نابع من كون كلا النظامين كان قد أوجد حركات من جنس خصيمه ليستعملها في محاربته على أرضيته الفكرية والعقدية منافسا قويا يصادمه ويخربه من الداخل. وكلاهما شجع هذه الحركات على أرض خصمه خلال صراع القطبين بل إن القطبين استفادا من هذه الحركات التي وظفت ليس في الصراع المحلي فحسب بل وكذلك في الصراع الدولي (مثال دور الإسلاميين في حرب أفغانستان التي ساهمت في سقوط الاتحاد السوفياتي). وإذن فالجامع بين الحزبين هو الخوف من شروع الأمة في التحرر من الاستبداد والفساد الأهليين الناتجين عن الانحطاطين الذاتي والمستورد وفي التحرر من التبعية لقوى الاستعمار الذي صارت توظفهما لصالح حربها على استئناف المسلمين لدورهم بتوظيف الإرهابين الرمزي والمادي.
والمعلوم أن هذين الانحطاطين هما علتا تمكنهما الأساسيتين أعني التخلف (تحويل الدين إلى مجرد مبرر للاستبداد والفساد بدعوى ضرورة طاعة أولي الأمر) والتبعية (تحويل التحديث إلى مجرد مبرر للاستبداد والفساد بدعوى ضرورة تبني قيم التنوير). إنه الخوف من دور الثورة في القضاء على أنظمة الفساد والاستبداد الخوف من زعزعة أركان الحلف المقدس بين بقايا القومية واليسارية والليبرالية والإسلام السياسي التقليدي. وهو مصدر كل محاولاتهم إلصاق تهمة الإرهاب والتكفير بالإسلام السياسي الذي تبنى القيم الحداثية غير المتنافية مع القيم الإسلامية عندما تترجم في التاريخ الفعلي لاتحادهما في تحقيق شروط الكرامة والحرية مطلبي الثورة.
وإذن فالحرب لا تتعلق بالإسلام السياسي بمعنى استعمال سياسي للمرجعية الإسلامية بل هي مقصورة على الإسلام السياسي الذي يريد تحقيق قيم الإسلام في الواقع الفعلي أعني شروط كرامة الإنسان وحريته والذي يريدون تشويهه بوصفهم إياه إسلاما إخوانيا حصرا إياه في بعض نصوصه التقليدية التي لم تعد بعد الثورة المضمون الحقيقي لمعركته.
كما أن المقصود في الندوة ليس درس العلاقة بين مفهوم المواطنة والإسلام السياسي دراسة موضوعية بل هو محاولة لتقوية صف محاربي هذا الإسلام المرفوض أعني الإسلام الذي يريد تحرير الأمة وتطبيق قيم الإسلام الكونية التي تلتقي مع حقوق الإنسان (العدل والحرية والكرامة الإنسانية) محاربته بالجمع بين حجج العلمانيين الليبيراليين الذين يدعون الدفاع عن الدولة الديموقراطية (وهم أكبر أعدائها) وحجج الإسلاميين التقليديين (وهم أكبر أعداء الإسلام) الخائفين من الثورة.
فليس المقصود من وضع مشكل هذه العلاقة بين مفهوم المواطنة والإسلام السياسي لتحديد تصور الأخير للأولى بل هو محاولة لتدعيم الحلف بين تياري العلمانيين الليبراليين و الإسلاميين التقليديين:
فالأول يدفعه وعيه بأنه مهدد بفقدان شروط الوجود بمجرد أن عاد القرار للشعب إذ هو مدين بوجوده للحلف مع العسكر والاستعمار الثقافي. فالثورة بينت أن الشعب لا يثق فيه ولا يقبل بتحديثه المستبد والمقصور على الأكل أكل الأنعام.
والثاني يدفعه وعيه بأنه مهدد بفقدان شروط البقاء بمجرد أن أصبح بوسع إسلام آخر أن يفتك منه الجماهير التي تريد تحقيق قيمه في الواقع الفعلي ولم تعد ترضى بمجرد التخريف الذي يجعل الظلم الحاصل في الواقع إرادة إلهية.
والمحاولة التي قدمتها شفويا تتألف من خمس مسائل لعلنا نعرض مضمونها تباعا في الأسابيع المقبلة واحدة على رأس كل أسبوع.
فأما الأربع الأولى منها فنخصصها لتحديد مستويات المواطنة التي من دونها يكون كل حكم على منظور الإسلام السياسي حكما جائرا وغير منصف خاصة إذا فهم حق الفهم. فهذا الإسلام السياسي في هذه الحالة يمكن أن يكون مرجعية الثورة التي تخلصت من الانحطاطين. وهو تخلص يخشاه ممثلو الإسلام السياسي التقليدي وحليفهم الحالي الذي كان عدوهم بالأمس أعني الأنظمة العسكرية والفاشية العربية التي تجمع حاليا كل الناقمين على أصل مناعة الأمة وحضارتها أعني العلمانيين والقوميين والليبراليين والصوفيين والشيعيين وكل الأقليات التي تمثل حصان طروادة أو الطابور الخامس في خدمة الاستعمار الذي لا يريد للأمة أن تستأنف دورها التاريخي باعتبارها أحد أقطاب المعمورة التي يمكن أن تفتح آفاقا جديدة للبشرية.
وأما المسألة الأخيرة فهي لبيان المناسبة بين الحلول التي يقدمها الإسلام السياسي الثوري والمعاني التقدمية التي عولجت في المسائل الأربع الأولى:
المسألة الأولى: مفهوم المواطنة لغويا وقانونيا.
المسألة الثانية: علاقة المواطنة بما يتجاوزها.
المسألة الثالثة: إشكالية تنازع الولاءات.
المسألة الرابعة: تعليل حاجة الأمم إلى تعدد مستويات المواطنة.
المسألة الأخيرة: الإسلام السياسي والمواطنة بهذه المعاني.
مفهوم المواطنة والإسلام السياسي المشارك في الربيع العربي – أبو يعرب المرزوقي