مفهوم الدولة المزدوج، او في التلازم بين الشرعية والشوكة – الفصل الثاني

****

مفهوم الدولة المزدوج او في التلازم بين الشرعية والشوكة الفصل الثاني

كل ما تقدم في الفصل الأول لا يكفي لفهم الحاجة إلى الجمع بين البعد اللطيف من السلطة السياسية والبعد العنيف بمعنى الذي يستعمل القوة المؤثرة ماديا وليس بالاقتصار على التأثير المعنوي القانوني والخلقي لأنها من المفروض أن تعوضهما باسم الجماعة عند غيابهما عند المعتدي عليهما.
فلن نفهم هذه الضرورة ما لم ندرك أن ما سميناه الاستعلام والإعلام الذي هو سياسي بالجوهر في حالة وظائف الحماية وعلمي بالأساسي في حالة وظائف الرعاية إلا بشرطين:

  1. بيان ما يحصل عند فسادها
  2. بيان مما تتألف لأنها تضاعف كل الوظائف الأخرى التي من دونها لا تكون عملا على علم.

وسأبدأ بالثاني لأنه هو الذي سييسر حل الأول.
ذكرنا في وظائف الحماية نوعين منها كلاهما مضاعف أعني:

  1. الحماية الداخلية
    • وهي القضاء
    • والأمن
  2. والحماية الخارجية
    • وهي الدبلوماسية
    • والدفاع.
    وقلنا إنها تعتمد على الاستعلام والإعلام.
    واعتبرناها ستة لأن كلا منها مضاعف لتلازم الشرعية والشوكة فيه.
    وكان علينا أن نميز بين الاستعلام والإعلام الذي في خدمة الحماية الداخلية التي تصبح القضاء والامن والإعلام والاستعلام الداخليين ويجمع بين هذه العناصر الأربعة ما نسميه بالسياسة الداخلية.
    هي إذن خمسة:
  3. القضاء
  4. الأمن
  5. الإعلام
  6. الاستعلام
  7. وأصل هذه المقومات هو سياسة الحماية الداخلية.
    ونفس الشيء بالنسبة إلى سياسة الحماية الخارجية.
    فعندنا:
  8. الدبلوماسية
  9. والدفاع
  10. الاستعلام الخارجي
  11. الاعلام الخارجي
  12. وأصلها جميعا السياسة الخارجية للدولة.
    فتكون أيضا خمسة.
    وإذا جمعنا بين خمسة السياسة الداخلية وخمسة السياسة الخارجية وجدنا مكونات الحماية العشرة في كل دولة ذات سيادة.
    اقلب الآن هذه الوظائف فاجعل القضاء تابعا للأمن والإعلام للاستعلام وستكون الحماية الداخلية ليست حماية للمواطنين بل حماية من المواطنين.
    بمعنى أن سياسة الحماية الداخلية ليست لحماية الشعب بل لحماية الحكام ونخبهم من الشعب الذي يفقد كل حقوقه ويصبح أداة لهم في خدمتهم لمن يحميهم هم بدورهم.
    ولذلك فالاستعلام والإعلام لن يكونا لخدمة القضاء والأمن بل لاستخدامهما في توطيد سلطان الحكم المستبد والفاسد فتكون الوظائف الأربعة وأدوات سياسة الاستبداد والفساد في دولة عديمة السيادة تستخدم لصالح حامي الحكام من ثورة الشعب الدائمة -في القلوب وأحيانا في الألسن-ضد الاضطهاد والظلم.
    فيكون القضاء أداة للأمن والدبلوماسية للدفاع وليس العكس ويكون الاستعلام على الشعب وليس له ويكون الإعلام للكذب والتزييف والدفاع عن الاستبداد والفساد ويخلقون الغول الأكبر الذي صار أداة كل الطغاة: الإرهاب الموظف سياسيا رغم كونه متحالفا من التهريب الذي هو من أدوات اقتصادهم الموازي.
    وما قلناه عن السياسة الخارجية وأدواتها الاربعة نقول مثله بل وأكثر عن السياسة الخارجية وأدواتها الاربعة مع عدم التسليم بأن للعرب سياسة خارجية لأن هذه من شروطها وجود مقومي السيادة أعني القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين وهما مفقودان في كل ما يسمى دولا عربية: بل هي بالأحرى محميات.
    تلك هي حال الحماية بوظائفها العشرة بصورة عامة عندما تكون في دولة ذات سيادة وبصورة خاصة عندما تكون في محمية تسمي نفسها دولها وهي فاقدة للسيادة. وعلينا الآن أن ننظر في وظائف الرعاية التي هي بدورها عشرة عندما نفصل وظيفة البحث العلمي والإعلام العلمي في الجماعات السوية.

ميزنا في الرعاية بين الرعاية التكوينية وبعداها هما:
• التربية النظامية
• والتربية الاجتماعية
أو:
• مرحلة تكوين الاجيال في المؤسسات التربوية
• ومرحلة استعمالهم بعد التخرج في الأعمال التي تنتج عن توزيع العمل في الجماعة.
فالتكوين متواصل طيلة الحياة المسهمة في الانتاج بنوعيه النظري والعملي.
والبعد الثاني من الرعاية هو التموين:
التكوين يكون الإنسان المنتج للتموين المادي وهو الاقتصاد والفكري وهو الثقافة.
ومعنى ذلك أن الجماعة تكون الإنسان لكي ينتج شروط:
• قيام كيانه المادي (الغذاء خاصة)
• وقيامه الروحي (العلم خاصة والتقنيات)
والثاني عند الإنسان شرط الأول.
ذلك أن ما يميز الإنسان-وهو معدوم حاليا عندنا-هو الانتقال من المرحلة التي يكون فيها مجرد مستهلك لما تنتجه الطبيعة إلى منتج لما يستهلكه وبهذا يميز ابن خلدون بين جنسين من مفهومه الثوري “نحلة العيش” وكل جنس يتضمن عدة مراحل مثل الجني والرعي في البدوي والتجاري والصناعي في الحضري.

فأغلب اقتصاديات العرب ما تزال في المرحلة البدوية وحتى ما لديهم من غيرها فهو إما استثمار لتراث ورثوه ولم يطوروه (السياحة مثلا) أو لثروة طبيعية ورثوها ولم يكتشفوها ولا حولوها بل اكتشفها المستعمر وحولها وهم يعيشون على ريعها كسالى والثقافة عندهم كلام وإيديولوجيا وليست أفعالا منتجة.
وما قلناه في الحماية عن القلب في السياستين الداخلية والخارجية قلبا يجعل اللطيف تابعا للعنيف من كل الوظائف بصورة تجعل الاستعلام السياسي الداخلي والخارجي أداة استعباد مادي والإعلام أداة استبلاه فكري في الدول عديمة السيادة لأنها محميات ينتقل إلى الرعاية بوساطة درسناها جيدا.
وهذه الوساطة سميناها “نظام الانتخاب” في التكوين وفي التموين. ففي المحميات التي انقلبت فيها الوظائف فصار اللطيف في خدمة العنيف حتى صار مقصورا على التبرير الشكلي (المثال: القاضي أداة بيد البوليس) والحاكم الفعلي هو المخابرات لا يبقى للتكوين النظامي ولا الاجتماعي دور الانتخاب.
تفسد المنظومة التربوية فلم يعد التعليم ينتخب بحسب القدرات بل بحسب الوساطات.
ولم يعد سوق العمل وتقسيمه بحسب الكفاءة والأمانة بل بحسب الوساطات.
ويصبح المفهوم المسيطر كما حدده ابن خلدون مفهوم “الجاه” أي العلاقة بصاحب السلطة التي حالها ما وصفنا في الحماية المقلوبة.
وقد لخص ابن خلدون ذلك أبلغ تلخيص: فبيّن كيف أن المستبد يستبعد العصبية التي أوصلته إلى الحكم ويستبدلها بعصية الولاء ممن لا دور لهم في إيصاله حتى يكونوا تابعين له فيستفرد بالسلطة-وقد رأينا ذلك عديد المرات في تصفية ما يسمى بمجالس قيادات الثورة من دمى عملاء المخابرات في القرن الماضي.

وطبعا فهو سيختار من هم أكثر منه خضوعا له وإخضاعا للشعب حتى يجعلوه مثلهم عبيدا له بتوسطهم.
فيتفشى ذلك في كيان المجتمع ومؤسساته التكوينية والتموينية فلا يبقى شيء في الجماعة لا يخضع للاستبداد والفساد حتى تصل الجماعة إلى ما سماه ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية”.
ومن المفروض أن يكون البحث والإعلام العلميان مثل الاستعلام والإعلام السياسيين في خدمة الجماعة حتى يكون عملها على علم بشروط العمل المحقق لشرطي السيادة أي الحماية والرعاية فيكون في هذه الحالة استعلاما على موضوع علوم الإنسان واستعلاما على موضوع علوم الطبيعة شرطين للتكوين والتموين.
والاستعلام عن موضوع علوم الإنسان وظيفته درس العلاقة الافقية بين البشر أي معرفة سنن الحياة الجمعية ليكون التكوين والتموين في صالح الجماعة والاستعلام عن موضوع علوم الطبيعة وظيفته درس العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة أي معرفة قوانين الطبيعة ليكون الإنسان منتجا لشروط حياته.
لكن إذا كانت السياسة الداخلية والخارجية هي كما وصفنا فإن المستبد بالحكم ونخبه وذوي الجاه فيها لا يمكن أن يجعلوا ذلك أول همومهم بل العكس هو المطلوب: فتفسد منظومة الانتخاب في التكوين بمستوييه أي التكوين في المؤسسات التربوية والتكوين في تقسيم العمل فيزول معيار الكفاءة والخلق.
ولا أعتقد أني بحاجة لمد القارئ بالأمثلة والأدلة.
فيكفيه أن ينظر من حوله.
وليزر الجامعات العربية وما دونها من المؤسسات التربوية في التكوين النظامي وليزر المؤسسات “الانتاجية” سواء في الاقتصاد أو المؤسسات الخدمية في أي مستوى وسيرى بنفسه ما حاولت توصيفه وأعتقد أني كنت شديد التلطف.

وختاما فلست أقول ما اقول من باب التشاؤم بل من باب الحرص على التشخيص الدقيق لأن الثورة إن كانت حقا ثورة إذا اغفلت هذه الأدواء فلن تكون دواء بل هي ستصبح داء جديد يجعل ما نراه قد بدأ يحصل في المثال الذي يظن قد نجح نسبيا أعني تونس: عادت حلمية لعادتها القديمة بل أكثر.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي