مفهوم الدولة المزدوج، او في التلازم بين الشرعية والشوكة – الفصل الاول

****

مفهوم الدولة المزدوج او في التلازم بين الشرعية والشوكة الفصل الاول

كلما تابعت تحليلات المعلقين على الأزمات الدستورية ازداد تأكدي من أمرين:

  1. كتبة الدساتير عندنا يغلب عليهم التقليد والجهل بتاريخ المؤسسات حتى في حضارتهم فيغيب عن اذهانهم التعضي المفهومي للعلاقات بين مؤسسات الدولة.
  2. المحللون يقتصرون على النصوص ويغيب في تأويلاتهم لها هذا التعضي الذي يمثل قاعدة التأويل الحتمية في فلسفة القانون الدستوري.
    والأدهى أنهم يتصورون الازدواج في السلطة التنفيذية أمرا جديدا وغير طبيعي في الدساتير.
    لكنه ليس بدعة بدأت مع الجمهورية الخامسة في فرنسا.
    إنه من مقومات نظرية الدولة مفهوميا أولا ثم هو تاريخيا من أساسيات تقسيم السلطة في الخلافة الإسلامية على الأقل في شكلها النهائي كما استقر في عرض ابن خلدون لهذا التقسيم بين الخليفة والسلاطين.
    وسأبدأ بنظرية الدولة بصورة عامة: فلا توجد دولة تعتمد على الشوكة دون شرعية أو على الشرعية دون شوكة. السلطة السياسية شوكة شرعية أو شرعية ذات شوكة.
    إذا غاب أحد الوجهين لم تبق سلطة سياسية: إذا كانت شوكة دون شرعية هي سلوك عصابات إجرامية وإذا كانت شرعية دون شوكة هي سلوك دعوات أخلاقية.
    فما يضفي على الشوكة الشرعية هو ما فيها من قانون ذي أساس خلقي وما يضفي على الشرعية الفاعلية هو ما لها من قدرة على تنفيذ القانون وهو معنى الشرعية.
    ولذلك سمي تنفيذ القانون بالقوة العامة واستعمال القوة بمقتضى القانون ضد الخارجين عليه بالقوة الشرعية هو ما يسمى بعنف الدولة الشرعي.
    وتلك علة التلازم بين القضاء والأمن.
    والتلازم بين القضاء (وزارة العدل) والأمن (وزارة الداخلية) هما وجها حفظ السلم المدنية وتلك وظيفة السلطة التنفيذية.
    والسلطة التنفيذية هي في الحقيقة لها سلطة سياسية تقديرية في استعمال مؤسستين مستقلتين عن تحكمه: فالقضاء يطبق القانون والأمن ينفذه وهي منتخبة ومكلفة باستعمالهما بتقدير قبلي وبعدي لحفظ السلم المدنية.
    ولنمر الان إلى ما أثبته ابن خلدون في تقسيم العمل التنفيذي بين الخطط الخلافية (الفصل 31 الباب الثالث) ومراتب الملك والسلطان (الفصل 34).
    فالغالب على خطط الخليفة تمثيل بعد الشرعية من السلطة التنفيذية والغالب على خطط الملك والسلطان تمثل الشوكة من السلطة التنفيذية.
    والأولى مقدمة.
    ولو اقتصرنا على ما تكلم عليه ابن خلدون لأمكن لنا ذكر خمسة لكل منهما واثنتين مشتركين بينهما فتكون سبع وظائف: الخليفة له:
  3. الشعائر الدينية
  4. والتعليم
  5. حسبة المكاييل والموازين والأخلاق العامة
  6. وصك العملة
  7. والعدالة بمعنى وتوثيق المعاملات.
    ويشارك السلطان في القضاء والجهاد.
    والسلطان له:
  8. الحكومة أو منظومة الوزارات المشرفة على إدارة الشؤون العامة
  9. المالية العمومية
  10. العلاقات الخارجية
  11. الدفاع
  12. المخابرات أو البريد.
    ويشارك في القضاء بدور السلطة التنفيذية وفي الجهاد بدوره في الحماية.
    والمشاركة في وجهي الفعل وتعتمد على اعتبار الشرعية من الخليفة والشوكة من السلطان.

لكن عرض ابن خلدون كان وصفا لأمر واقع لم يقدم له تفسيرا مقبولا بمعنى أنه لم يتكشف علة هذه القسمة أي لماذا كانت كذلك؟
فلا يمكن أن تكون ما كانت بالصدفة بل لأن ذلك في صلة مباشرة مع مقومي السلطة السياسية أو وجهي الشوكة والشرعية فيها. وسأقدم هنا علة هذه القسمة في كل دولة فهي ليست بالصدفة.

لما كانت الدولة بوصفها ممثلة لإرادة الجماعة صراحة (في الأنظمة الجمهورية) ضمنا (في الأنظمة الملكية) كيانا معنويا ذا تعين مؤسسي قد يبرز طابعة المؤسسي المجرد في النظام القانوني أو طابعة المؤسسي المتجسد في القيمين عليه وكأنهم هم القانون كان وجه الشرعية المؤسسة والشوكة مجتمعين فيهم.
وتلك هي علة الشكل البدائي من الدول: فالقيمون عليها هم في آن الشوكة والشرعية ولنا من ذلك أمثلة ما تزال موجودة إلى الآن في البلاد العربية في شكلين: القبلي مثل دول الخليج العربي والعسكري مثل بقية الدول العربية وهو أن الدولة متجسدة في طبقة معينة لهم السيادة والبقية أغلبها مجرد رعايا.
وقبل هذا الشكل نجد المرحلة التي جعلت هذه الطبقة المستفردة بالسيادة شوكة وشرعية قد ألهت نفسها وصارت تعتبر من طينة مختلفة كما في حالة دولة الفراعنة في مصر ولا تخلو حضارة قديمة مثلها من هذه المرحلة. لكن الخلافة السنية تعتبر شديدة التقدم على آخر أشكال الأولى أعني الإمامة الشيعية.

لكن هذا الوصف للأشكال التاريخية التي تبدو من جنس الامر الواقع لا تعلل ازدواج المقوم في السلطة السياسية تعليلا مفهوميا يجعله من جوهر السلطة السياسية بصورة تفهما علة تعريف الغزالي وابن تيمية وابن خلدون الدولة بهذين البعدين المتلازمين: فلنورد الأساس المفهومي بصورة نسقية.
ولنبدأ بالازدواج الأول وهو ازدواج حددته سورة قريش:
• آمنهم من خوف
• وأطعمهم من جوع.
فهذان الوجهان هم السر في وجود الدول ومن ثم فهما وظيفة السلطة السياسية.
وظيفة الدولة من حيث هي تجسد السلطة السياسية هي علاج إشكالية الأمن أو الشرط الأول لوجود الجماعة وإشكالية سد حاجات عيشها.

علاج إشكالية الخوف وإشكالية الجوع يقتضيان وجود الجماعة للتعاون من أجل سد حاجات عيشها وحماية ذاتها. وإذن فالازدواج الأول هو الحماية والرعاية. ولا يمكن تحقيق شروط الثانية من دون الأولي داخليا بين أفراد الجماعة وخارجيا بينها وبين الجماعات الاخرى.
ومن دون الثانية تمتنع شروط الأولى.
فلنأخذ الأولى أي الحماية:
في الداخل لا بد من قضاء وأمن وفي الخارج لابد من دبلوماسية ودفاع.
والأربعة بحاجة للاستعلام والإعلام.
فنكون أمام ثلاثة وظائف كل منها مضاعف.
لو أخدنا اللطيف منها أي القضاء والدبلوماسية والإعلام لوجدنا مقومات الشرعية وهي قوى لطيفة.
ولو أخذنا الوظائف ذات القوة الممثلة للعنف الشرعي لوجدنا الأمن والدفاع والاستعلام. وهي أدوات تستعملها الأدوات السابقة: فالأمن يطبق أحكام القضاء والدفاع أحكام الدبلوماسية والاستعلام أحكام الإعلام. فتكون السلطة التنفيذية الحامية ذات وجهين أبعاد اللطف وأبعاد العنف التي ذكرنا.

وأبعاد اللطف هي مصدر الشرعية. وابعاد لعنف هي مصدر الشوكة. والدولة تكون عادلة إذا كانت هذه تابعة لتلك وليس العكس. ونحن نلاحظ أن الموجود عند العرب هو العكس في الداخل لأنها مستقوية على شعوبها ولا تعمل به إلا مع الخارج لأنها مستضعفة وتابعة لمن يستعملها لمصالحه وليس لمصالح شعبها.
ونفس ما رأيناه في وظائف الحماية نجده في وظائف الرعاية. ففي التكوين نجد التربية النظامية والتربية الاجتماعية. وفي التموين نجد الثقافة والاقتصاد. ولا يمكن تصور التكوين ببعديه والتموين ببعديه من دون الأعلام والاستعلام العلمي وليس السياسي أي البحث العلمي لسد حاجات التكوين والتموين.
وهنا أيضا نحد البعد اللطيف والبعد العنيف إن صح التعبير:
• ففي التكوين التربية النظامية لطيفة والتربية الاجتماعية عنيفة (بمعنى الخطأ هنا ليس كالخطأ في المدرسة)
• وفي التموين الثقافة لطيفة والاقتصاد عنيف (بمعنى أن فقدان بعد ثقافي لا يقتل الجوع يقتل)
• والبحث العلمي اعلامه لطيف وطلبه عنيف.
ولأشرح هذه الأخيرة ففهمها عسير: الإعلام متعلق بالمتوفر من العلم والاستعلام في البحث العلمي يتعلق بما ليس متوفرا أي بطلب المجهول وفيه مغامرات تماما كالاستعلام السياسي فهو عنيف لأن فيه مخاطرة بالحياة لمعرفة نوايا العدو مثلا. وفي البحث العلمي توجد مجازفة في كل تجربة علمية.
وهكذا ففي هذين النوعين من الوظائف اللذين يتألف كل منهما من ثلاثة أوجه مضاعفة لطفا وعنفا يجعل استعمالها دائما مزدوجا بين منفذ اللطيف ومنفذ العنيف. فإذا عدنا إلى التقسيم الخلدوني وجدنا اللطيف للخليفة والعنيف للسلطان ووجدنا أن العنيف تابع للطيف في الواجب والعكس في الواقع.
ومعنى ذلك أن الخليفة يمثل شرعية الدولة في التنفيذ السياسي (الحكم) والسلطان يمثل عنف الدولة في التنفيذ السياسي (الحكم) وهذا تابع لذاك في الواجب بمعنى أن العنف إذا خلا من اللطف أو الشوكة من الشرعية كان اجراما وليس سياسة. لكن الغالب هو العكس تماما أي إن الشرعية تتكيف مع الشوكة.

الثوري في السنن التي عرفتها الدولة بالمنظور الإسلامي تمثلت في جعل ما يمكن أن يعتبر علة العنف في الجماعة خاضعا للوجه الممثل للشرعية في السلطة التنفيذية: فالعملة والحسبة والقضاء والتربية والشعائر والجهاد والعدالة (توثيق المعاملات) كلها تابعة للخليفة وهي علة كل الخلافات بين البشر.
ومعنى ذلك أن السلطة التنفيذية إذا فقدت السلطة الرمزية الخلقية الدينية في النظام السياسي الإسلامي تتحول إلى الاستبداد والفساد في المجال الاقتصادي (ومراقبة المكاييل والموازين) فتصبح مصدرا لكل الخلافات في الجماعة بين الجماعات ومن ثم لا يبق إلى الشوكة. لكنها قد تصبح مشاركة في الفساد.
ثم خاصة استقلال صك العملة عن سلطة الشوكة وربطها بسلطة الشرعية -ابن خلدون على حد علمي هو أول من قال صراحة بما نسميه اليوم بالبنك المركزي- ومعها مراقبة المكاييل والمقاييس والموازين من شروط العدل والحد من الفساد والاستبداد أو من شروط تحقيق العدل في التعاوض بين الأفراد وبين الجماعات (والمعلوم أن التطفيف كيلا واكتيالا استيفاء واخسارا حكم عليهما قرآنيا بالويل).
لكن لما كانت الشرعية لا تكفي وهي بحاجة إلى شوكة لفرضها عمن يرفضها باتت الجمع بين البعدين شرط الصلاح والعدل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي