لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمفارقة الفتنتين تقابل البنية السطحية ووحدة البنية العميقة
ما كتبته عن “مفارقة الفتنتين” في فصول خمسة ليس كافيا لفهم الحل البديل لأنه لا يكفي أن أرفض الثيوقراطية والانثروبوقراطية وهما يعتبران الحلين الوحيدين الممكنين واللذين يعتبر العرب اليوم مضطرين للخيار بينهما خاصة وحكامهم ونخبهم النافذة اختاروا التبعية لمثليهما: إيران وإسرائيل. وكون الأنظمة العربية بصنفيها القبلي والعسكري ونخبهما الدينية والعلمانية توابع لهذين الصنفين فهم ليسوا بعد منهما بل هم في الطريق إلى أن يكونوا منهما لأن الحاميين مطلقا اليدين في التبشير برؤاهما وفرضهما طوعا للطامعين وكرها للكارهين فيما احتلوه من البلاد بحضورهما أو بتأثيرهما. وبذلك فنحن أمام أربعة أنظمة اثنان في الطريق إلى الاثنين المسيطرين: القبلي والعسكري التابعين والثيوقراطي والانثروبوقراطي المتبوعين معن نخبهم جميعا والخامس هو نظام غير محدد يعلل الرفض للتابعين وللمتبوعين وهو الذي يتعرض لحرب من الاربعة. ويمكن أن نقول إنه بديل سلبي ما لم يدرك حقيقته. وتعريفه السلبي هو كونه من منظوره ثورة على الأنظمة الأربعة التابعين والمتبوعين ومن منظور الثورة المضادة هو العدو الذي يتحالفون عليه تحالفا لم يصبح بيّن المعالم إلا منذ أن تعين موقفه في ثورة الشباب بجنسيه وقدرته على الصمود ما ينيف على سبع سنوات رغم فقدانه للتأسيس والاستراتيجية. ولو لم يكن لثورة الشباب بجنسيه كثافة وجودية وقوة فعلية لانهار في أقصر مدة خاصة وقد تحالف عليه الأنظمة الأربعة مع من ورائهما من القوى الدولية التي هي أدرى بحقيقة الظاهرة وما تشير إليه إذا وصل الخوف من المستقبل في الحاضر بما كان مخيفا من الماضي: الخوف من الاستئناف الإسلامي. ولأشرح معنى الخوف في الحاضر على المستقبل إذا وصل ما يجري بالماضي لأنها تبدو عبارة شديدة الغموض بسبب كونها متصلة بمفهوم الزمان التاريخي مخمس الابعاد: فالخوف في الحاضر على المستقبل يجعل أي استراتيجي غربي محتل للأرض العربية بواسطة عملائه يخشى أن يفقد في المستقبل ما بحوزته حاليا. وما كان ليخشى لو كان الربيع قد أوصل من كان يعدهم ليخلفوا عملاءه الحاليين الذين بدأوا يفقدون الصلوحية لانكشافهم فلم يعد قادر على استعمالهم لمخادعة الشعوب. كان يعد لعملاء جدد بعد من اختارهم في النظامين القبلي والعسكري مثلما فعل في خمسينات القرن الماضي: الخديعة الثورية ليسوق عملاءه. لو كان الربيع كما كان يتوقع أو كما خطط له لكان أول المشجعين. لكنه اكتشف أنه حتى بآلياته التي يبشر بها لم يكن ليوصل عملاءه بل أوصل من يعتبرهم أعداءه. فكان لابد إذن من أن ينقلب على الربيع وأن يطلق أيدي الأنظمة الأربعة في ثورة مضادة هي ما يجري حاليا من الماء إلى الماء في الإقليم. لكن ما علاقة ذلك بالماضي؟ الماضي ليس ماضينا بل علاقة ماضيين: ماضي الإقليم في شقه العربي الإسلامي بداية والتركي الإسلامي غاية والإقليم في شقه اللاتيني المسيحي بداية ثم الاوروبي العملاني غاية. أي كل ما تقدم على بداية ثورة الشباب بجنسيه بعد نضوج الاستعداد للاستئناف الحضاري. ورمز النضوج لم يكن معلوما قبل الربيع. لم يصبح معلوما إلا بعده ولم يؤول هذا التأويل إلا بفضله ولذلك فهو قد صار مستهدفا بصورة مكشوفة: إنه فشل العلمانية في تركيا والسعي الحثيث لاستعادة الأتراك ذواتهم واستئناف تاريخهم الذي ظن الأعداء أنهم أنهوه بالحرب الأولى وإسقاط الخلافة. وقبل المواصلة في التحليل فلأشر إلى أن المنهجية المتبعة فيه هي بيان ما يشبه التطابق بين المفهومي والتاريخي أي إني أحاول ترجمة نظام الأحداث إلى نظام الأحاديث فأصوغ التاريخ بالمفهوم: ما يجري في الاقليم أحداث متراكمة بحاجة إلى صوغ مفهومي يجعلها قابلة للفهم والعلاج. ذلك أنه من دون هذه الترجمة ستبقى ثورة الشباب أحداث مفتتة ومشتتة لا يربطها رابط فيتعذر نقلها من الحدث إلى الحديث ويمتنع حنها أن يكون لها عمق فكري وخطة استراتيجية في العمل المسبوق بالنظر أو في العلم على علم لتخرج الثورة من التخبط بعد أن تعلم غاياتها لتحدد أدواتها وطرق استعمالها. وشرط ذلك جبر الكسور بين أبعاد الزمان التاريخي الخمسة في حضارة هي الآن بصدد الاستفاقة من سبوت دام قرون ليس في العمل فحسب بل وكذلك في النظر: فلا يوحد لا متناهي مقومات العمل إلا متناهي مقومات النظر. فالنظر يكشف البنية المجردة للأحداث فيردها إلى ما يقبل الإدراك المحلل والمعلل. من ذلك مثلا أن كل من يحلل الحاضر بنظرية الحروب الصليبية أو حروب الاسترداد يظن نفسه محققا لجبر الكسور. لكنه مخطئ رغم أن فيه شيئا من ذلك. فقد يكون للعامل العقدي دور كبير في التبرير الإيديولوجي لما حدث في هذين النوعين من الحروب بين عنصري الإقليم الواسع حول البحر المتوسط. لكن ذلك لا يصح سواء اعتبرنا الماضي أو الحاضر أو المستقبل أحداثها وأحاديها في الحاضر الذي كشف حقيقتها. فهذا الإقليم الأوسع حول المتوسط كان ولا يزال منذ بدء التاريخ خاضعا لنفس العلاقة بين ضفتي المتوسط وبين شرقه وغربه قبل دولتي الإسلام والمسيحية وبعدهما. ولا يمكن تفسير الثابت بالمتغير: الثابت هو العلاقة الدائمة حربا وسلما بين الضفتين مشرقهما ومغربهما والمتغير هو المبررات الإيديولوجية قبل الإسلام والمسيحية وبعدهما رغم أن هذين أصبحا شبه ثابتين منذ نزول القرآن إلى الحرب العالمية الاولى التي أوضحت حقيقة الثابت الفاعل في العلاقة. الثابت الفاعل هو ما لأجله تتصارع الشعوب وما به تنتصر وبعدمه تنهزم أعني شروط الرعاية والحماية التي تدين للأحياز الخمسة التي بها تتقوم الأمم والدول بوصفها أنظمة هدفها حيازة شروط الرعاية والحماية: والاحياز الخمسة هي الجغرافيا وثمرتها والتاريخ وثمرته والمرجعية التي توحدها هوية للجماعة. لذلك كان اسقاط الخلافة ليس مقصودا لذاته لأن الخلافة العثمانية كانت قد فقدت ما به يمكنها أن تحمي حتى ذاتها فضلا عن دار الإسلام والمسلمين. ما كان مقصودا هو تفتيت الاحياز التي كان يمكن أن تبقى على المرموز حتى وإن ضعفت فاعلية صاحب الرمز: ما يمسك بوحدة الاحياز الخمسة. لذلك جاء وعد بلفور وخطة سايكس بيكو ووعد العرب الذين أطمعوهم بدولة عربية كما يفعلون الآن مع الاكراد يطمعونهم بدولة كردية حتى يتحقق تفتيت الجغرافيا بوضع حدود لمحميات يسمونها دولا وهي بدأت تحت الانتداب ولا تزال كذلك بل إن الانتداب صار أمتن وأقوى لأنه صارح حاجة يطلبها المنتدب عليه. وهكذا فما حدث في الحرب الأولى بين حقيقة الثابت الذي به ينبغي أن يقرآ التاريخ ماضيه وحاضره ومستقبله بأحداثه التي يعلمها الجميع وبأحاديثه التي هي عين استراتيجية الاعداء لوعيهم بالدوافع الحقيقية لتحريك التاريخ الإنساني: الجغرافيا والثورة المادية والتاريخ والتراث الرمزي ووحدة الهوية. فإذا فتت الجغرافيا جعلت الثروة غير كافية للرعاية فضلا عن الحماية ومن نصبتهم على فتاتها يثبتون الحدود ويحتاجون لتفتيت التاريخ حتى تكون لهم شرعية خاصة بما نصبوا عليه من فتات فيصبح التراث هو نفس غير كاف للقيام الجمعي ويبقى لهذين التفتيتين أن يحققا شرط الشروط: الحرب على الهوية الجامعة. هذه هي المعادلة الثابتة في كل الصراعات بين الأمم حول الاحياز بسبب كون الجغرافيا سر الثروة المادية والتاريخ سر الثروة الروحية والهوية الجامعة هي التي توحد بين هذه الأحياز الأربعة لكل أمة ذات دور في تاريخ الإقليم والعالم. مشكل الأعداء أن الأمة الإسلامية صمدت على الاقل في الأذهان. والاعداء اكتشفوا أن هذا الصمود في الأذهان أصبح يتحرك في الأعيان: وهو ما بينته ثورة الشباب بجنسيه. ظنوها في البداية ثورة للمأجور ممن كونوه بديلا من المترهلين الذي انتهت صلوحيتهم فأرادوا بهم أن يؤسسوا لجمهوريات موزية كما فعلوا في أوروبا الشرقية. لكن اكتشفوا ما هالهم فانقلبوا عليه. ثم بعد الانقلاب اكتشفوا ما هو أشد هولا: صمود الثورة رغم الحلف العالمي ضدها حلف النظامين العربيين القبلي والعسكري وحلف الذراعين الصفوي والصهيوني وحلف الحاميين للأنظمة الاربعة ومن ثم فالتاريخ أخذ منعرجا لن يستطيعوا منعه من الذهاب إلى الغاية: الامة تستأنف دورها. وتركيز الأعداء على تركيا ليس لظنهم أنها تريد استعادة الخلافة فهم يعلمون أن ذلك ليس في متناولها. وإنما تركيزهم عليها آت من طبيعة ما تفعله: فهي أولا تستعيد هويتها فيتصالح الشعب مع ذاته وهذا يخيف مرتين لإثباته فشل الانثربوقراطيا ولإثباته إمكانية التحديث دون تبعية روحية وسياسية. ثم إن تركيا فهمت قياداتها أنها مهددة أكثر حتى من الربيع العربي ومن ثم فهي لا تساعد الربيع العربي ملجأ لقادته وثواره تطوعا فحسب بل لأنها تعلم أن الأعداء يعتبرونها نموذجا لهذا الربيع وقد صار رمزا للاستئناف فيحاولون تكرار ما حصل بعد الحرب الأولى بمبدأ: “اضرب الرأس تنشف العروق”.