لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمفارقة الفتنتين تقابل البنية السطحية ووحدة البنية العميقة
في محاولة سابقة بينت وحدة البنية العميقة للفتنتين الكبرى (نكوص التشيع للوساطة الروحية والوصاية السياسية أي نفي الحرتين الذي حاول الإسلام تحرير الإنسانية منه بتأسيس هاتين الحريتين في منظوره الروحي والسياسي) والصغرى (أو ما يسمى بالعلمانية). فبدا الامر غريبا لأني لم أثبت الفكرة جيدا. لذلك فلا بد من العودة إليها والتدقيق في القصد بوحدة البنية العميقة الواحدة بين الفتنتين رغم ما يبدو من تقابلهما في البنية السطحية: فالفتنة الكبرى نكوص إلى الثيوقراطية (الوساطة الروحية أو الكنسية والوصاية السياسية أو الحكم بالحق الإلهي) والصغرى تبدو تخلصا منها بالانثروبوقراطية. فالثيوقراطية تعني الحكم باسم الله والانثروبوقراطية تعني الحكم باسم الإنسان. وهما يبدوان متقابلين تمام التقابل لأن الأولى تجعل الفاعل هو الله من ثم فضمنيا فيها نفي لدور الإنسان لأن الوسيط والوصي يبقى إنسانا لكنه لا يفعل بل الله بفعل بواسطته والثانية صريحة الإنسان وحده هو الفاعل. وطبعا قد ينتظر القارئ أن يسمعني أؤيد الفكرة السخيفة لأدعياء التوسط بتعريف الإسلام بالنهجين السلبيين: لا هو ثيوقراطي ولا انثروبوقراطي. فتكون الفضيلة مجرد سلب لرذيلتين ككل من فهم نظرية ارسطو في القيم هذا الفهم. وهذه قضية تكلمت فيها ولن أعود إليها اريد أن اثبت وحدة البنية العميقة. الثيوقراطية والانثروبوقراطية متقابلتان في السطح متطابقتان في العمق تلك هي الفكرة التي أريد اثباتها وبيان جدوى إثباتها النظري لفهم ما يجري في الاقليم لأن كل ما يعنيني من هذه المحاولات فضلا عن متعة النظر هو علاج القضية التي تجعل الإسلام مهدد من أصحاب هذين الرؤيتين. والرؤيتان ليستا مجرد فكرتين -الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا- بل هما تعينتا في ذراعي القوى التي تحارب الإسلام ليس كدين فحسب بل كوجود تاريخي لحضارة وأمة ودولة كانت ثم زالت وهي بالقوة قابلة لأن تستأنف دورها ومن ثم فالحرب كلها هي لمنع هذا الاستئناف الممكن والخطير في آن. فالذراع الممثلة للثيوقراطيا هي إيران والذراع الممثلة للأنثروبوقرطيا هي إسرائيل وهما ليسا ذراعين فحسب بل لكل منهما ثأر مع الإسلام وكلاهما يريد استعادة امبراطورية وسلطان كان لهم في الإقليم قبل الإسلام ويقبلان بتوظيف مؤقت في استراتيجية أجوار الإسلام الذين من لهم معه تاريخ صراع طويل. وكل من يغيب عن ذهنه هذه المعطيات التاريخية التي لا يمكن تصور استراتيجي حقيقي غافلا عنها لأن الحاضر الذي يعد للمستقبل يعتمد على الماضي حدثه وحديثه ليؤسس لحدث المستقبل بحديثه أو استراتيجيته: فيكون حديث الأعداد للمستقبل دائما في صلة مباشرة بحديث الماضي عن حدثه. ولعل كل الايديولوجيا الصهيونية واستراتيجيتها في إنشاء دولة إسرائيل مبنية على هذه البنية العميقة بين الفتنتين: فهي تدعي تمثيل العلمانية والديموقراطية في الإقليم لكنها تتأسس على حديث ماضي ميوثولوجياها التي تعتبر ربها قد جعلها شعب الله المختار وأورثها دولة داود من النهر إلى البحر. وكانت مستعمراتها حوالي المدينة المنورة موضع قدم مؤقتة مع ما لها من سلطان في جاهلية العرب مالي وروحي مع بداوة وأمية عربية مهينة ترشحهم لأن يستعيدوا سلطانهم الماضي فعليا بعد أن حققوه روحيا قبل نزول الرسالة الخاتمة التي أنهت كل اساطيرهم وكانت النهاية الروحية والمادية بعدها. فلا ينبغي أن ننسى هذه الهزيمة الروحية لمشروع من يعتقد نفسه شعب الله المختار من قبل من كانوا يتصورونهم عبيدا لهم -ينبغي لكل مسلم يريد أن يسهم في الاستئناف أن يتدبر التوراة حتى يفهم هذه النقطة الأساسية في فهم أحداث الحاضر وحديث المستقبل في صلتهما بأحداث الماضي وأحاديثه. ولأذكر القارئ بمفهوم الزمان التاريخي الذي أبني عليه فهم ما يجري في تاريخ الإنسانية كلها وليس تاريخنا وحدنا: الزمان التاريخي مخمس الأبعاد فالماضي مضاعف حدث سابق وحديث لاحق وهذا أفعل من ذاك. والمستقبل حديث سابق وحدث لاحق وهذا أفعل من ذاك. أما الحاضر فمعركة حديثي حدثين بالفعل وبالقوة. وهزيمة مشروع الشعب الذي كان يتوهم أنه شعب الله المختار في قلب الجزيرة في حياة الرسول الخاتم اضاف إليه صاحباه الاقربين الصديق والفارق هزيمة شعب آخر كان كان يحتل شرق الجزيرة وجنوبها ثم جاء من بعدهما خلف مكنوا لدولة الإسلام من إخراج المستعمر الثاني لشمال الجزيرة وكل محيط المتوسط. فكان طبيعيا أن يصبح الإسلام محوطا بالأخطار من وراء الحدود المتحركة وفي داخلة لأن من هزيمتي يهود الجزيرة فرس ما وراء النهر من دخل الإسلام وفي ضميره فهمه واستعماله لتهديمه من الداخل. وقد بدأ الامر من البداية (قائد المنافقين) ثم خاصة منذ اغتيار الفاروق وذي النورين. وإذا كان ابن خلدون لم يعلق على اغتيال الفاروق بصورة تحدد ما وراء الاغتيال فإنه قد فعل بالنسبة إلى ذي النورين. فهو نسب الأمر إلى كراهة القبائل العربية الكبرى سلطان قريش عليها وسعيها لافتكاك الحكم منها وليس بالصدفة أن انتقلت الخلافة من المدينة إلى مراكز العرب “المتحضرين”. الانتقال إلى الشام ثم إلى العراق لا يمكن ألا يكون ذا علاقة بدور العرب الذين تفرسوا وتبزنطوا ومن انتقل من قبائل العرب لاحقا إلى هذه المدائن المتحضرة وما فيها من مزايا بالقياس إلى شظف العيش في الجزيرة عملا بمبدأ ابن خلدون: الدولة تقتضي المدينة وطلب الراحة وشروط العيش الأفضل. وقد أطال ابن خلدون في بيان كل الأكاذيب حول ذي النورين وما يتهم به من محاباة وفساد ليس بسبب عقدي وخيار إيديولوجي بل هو شرح كل المحاولات للمحاسبة التي أمر بها عثمان وتقرير اللجنة التي كلفها للبحث في التهم وكانت من أفاضل الصحابة ومن ثم فالتهم كلها باطلة. لكني لا أعتقد علاج ابن خلدون حاسما لأن ذلك كله تغلبت عليه أكاذيب المتآمرين الذين قاموا بالانقلاب واغتالوا عثمان. أما الدليل الحاسم والذي لا نقاش فيه والذي أضيف أنا من عندي: لو كان ما يتهم به عثمان صحيحا لما استطاع قلة ليست من المدينة تتمكن من اغتياله بهذه السهولة. لو كان عثمان فاسدا كما يزعمون وليس تقيا كما تثبت تضحياته وهو من اغنى أغنياء الصحابة من أجل الرسالة لكان حريصا على تكوين حامية تحول دون الزعران وقتله بهذا اليسر. والدليل أن الذين اغتالوه لم يكونوا قوة هو أن عليا وأبنيه كانا قادرين على حمايته لكنهم خذلوه ما يعني بعض التواطؤ. أكاد أقول إن الحرب بين علي ومعاوية هي الحرب بين حلف علي مع بقايا المناذرة ودهاة الفرس واليهود من جهة وبين حلف معاوية بين بقايا الغساسنة ودهاة البيزنطيين وحماة دولة الإسلام التي رفض علي اتباع قائديها الأول والثاني وهو رفض لأجله لم ينتخب ثالثا ولم ينل الاغلبية حتى رابعا. وكان طبيعيا أن ينتصر حلف معاوية على حلف علي. فأولا القرآن في سورة الروم يثبت تفضيله المسيحية على الفارسية وثانيا لم يكن بوسع جل الصحابة أن يسكتوا على دم عثمان وطبعا مع فضل الله على الإسلام لأنه لو انهزم معاوية لزالت دولة الإسلام لأن محالفي علي كانوا أعدى أعدائه وهو غافل. وابنه الحكيم فهم ذلك وكان متحرزا. ثم إن ما ينسب لعلي من كلام في من كانوا معه أكبر دليل على أنهم كانوا خونه ولم يكونوا بحق مؤمنين بشيء بل كانوا يريدون استعماله لضرب وحدة المسلمين وهو ما حصل منذئذ وكل الصائب جاءت من هناك لأن الخوارج من جيشه فضلا عن محاولات تأليهه (خبث معلوم صاحبه). هذا الاستطراد ليس خروجا عن الموضوع بل هو محاولة لبيان العلاقة الوطيدة بين أحداث اليوم وحديث الماضي المزيف عن أحداثه تزييفا قلب كل الحقائق وجعل المسلمين السنة يخلطون بين أمرين مختلفين تماما: فالمرور إلى الملك العضوض شيء والاختيار الصائب شيء ثان: دلالة الدولة الأموية. نعم الدولة الأموية نقلت الخلافة إلى ملك عضوض. لكن اختيارها كان صائبا وكان يمكن أن يراجع بعد أن تكون قد حققت ما كان ينبغي تحقيقه في ظرف الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الأربعة التي تلتها. فهي دولة تأسست في حالة طواري بعد انقلاب دموي قتل خليفة منتخب شرعيا من كبار البناة. فذو النورين الذي دنسوا ذكراه وكذبوا عليه حقق الشروط الخمسة للحاكم الصالح بل والأصلح على الإطلاق: 1. وحد المرجعية 2. وقبل بتواصل سياسية الخلفتين الاولين 3. وواصل الفتح 4. ولم يقبل أن يصبح طاغية فيكون جيشا يحميه 5. ولم يأنف من تكوين لجنة تقصي حقائق في اتهام ولاته. وما كان ليقبل تكوين لجنة تقصي حقائق-شهادة ابن خلدون لا اشكك فيها أبدا-لو كان يعتقد أنه ملك معصوم أو يحكم بالحق الإلهي وليس بالتكليف الشعبي والانتخابات الحرة بعد أن اقترحت اسمه لجنة ترشيح عينها الفاروق وعرض اسمه على الشعب في المدينة وبعد أن رفض علي مواصلة سياسة الخليفتين الاولين. تشويه الفاروق واغتياله ليس أدهى من تشويه ذي النورين واغتياله والقتلة هم نفسهم بأيد عربية تماما كما يحصل الآن نفس القتلة بأيد عربية ولست بحاجة لمزيد التوضيح. سأعود في الفصول اللاحقة للكلام على وحدة البنية العميقة إن شاء الله وهي ظاهرة ينبغي فهما بكامل الدقة والوضوح. ولأختم هذا الفصل الاول بملاحظة اساسية: ما كنت لأتكلم على ماض حاول ابن خلدون طي صفحته بوضع مبدأ عدم التأثيم في الصراع السياسي وتعدد الاحزاب وخاصة إذا كان المتصارعون فيه من جنس الصحابة الذين هم جميعا أبعد ما يكون على التدني إلى الصراع من أجل الدنيا بل كان دافعهم دينيا. ورغم أني شخصيا لا أنزه أحدا باستثناء الرسول الكريم لأن الله اختصه بالاصطفاء فإني مع ذلك اقبل بأن جيل الصحابة الذين لم ينتبذهم الرسول هم أقرب ما يكون للنزاهة دون إطلاق. ودون إطلاق تعني كذلك دون استثناء علي والقلة التي معه وتفضيلهم على الأغلبية التي مع عثمان.