**** مفارقات محيرة في مادة الوجود الجمعي وصورته الفصل الرابع
والأداتان لا يكون الحكم والمعارضة إلا بهما إذ الإرادة من دون القدرة ببعديها المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة)لايمكنها أن تصبح إرادة فاعلة حماية ورعاية.فلا بد للإرادة ماديا ورمزيا من مقومات القوة الاقتصادية والقوة الثقافيةوقد بينا سابقا دورالعلم بداية والذوق غاية فيها.
لكن فاعلية الحاكم تتميز عن فاعلية المعارض وكلتاهما سياسية بأن الأولى “مادية” بمعنى أنها من جنس الفلسفي والتشكيلي والتجريبي في الأزواج السابقة والثانية “رمزية” بمعنى أنها من جنس الديني والأدبي والنظري.فالأولى لها الإرادة وقدرتها بالفعل والثانية لها الإرادة وقدرتها بالقوة.
لكن المعارضة مثلها مثل الحكم لا بد أن يكون لهما رؤية وذوق وعلم أو بصورة أدق لأنها حكم بالقوة بمعنى أنها كحزب أو كجبهة أحزاب لا بد أن تكون قادرة على إدراة القدرة الفعلية لما تصبح حاكمة فتكون مستعدة بما يشبه حكومة الظل. لكن الجماعة تسهم في الحكم والمعارضة بميولها الانتخابية.
وحتى تكون الدولة مستقرة ويتم فيها التداول على الحكم دون أن يكون التغيير التداولي مزعزعا للوظائف العشرأعني لوظائف الحماية الخمسة والرعاية الخمسة فلابد من أن تكون هذه الوظائف في عمومها شبه محايدة بمعنى أن التغيير لن يمس إلا قياداتها الكبرى للتعبيرعن تمثيل ارادة الأمة التي بالفعل.
الآن وقد أنهينا الكلام على قاعدة الهرم المربعة: 1-الوجود أو الرؤى 2-الحياة أو الذوق 4-العلوم وتطبيقاتها 4-الإرادة ودور الحكم والمعارضة في تسيير الدولة ووظائفها نصل إلى الأداتين الأداتين اللتين تعمل بهما كل هذه العناصر القاعدية ليقوم الهرم ويتحد في القدرة المادية والروحية.
وهو شيء عجيب ذو رأسين كلاهما رمزي مطلق. وأولهما يمثل القوة المادية للجماعة أي اقتصادها وهو رمز الفعل عامة أو القيم الاقتصادية أي العملة التي هي أداة التبادل. والثاني يمثل القوة الروحية للجماعة أي ثقافتها وهو فعل الرمز عامة او القيم لمعنوية أي الكلمة التي هي أداة التواصل.
والمعلوم أن التبادل موضوعه البضائع والخدمات بتوسط رمز الفعل أو العملة التي هي أداة تقييم كل شيء اقتصادي بضاعة كانت أو خدمة.والتواصل موضوعه القيم غير المادية التي تصحب التبادل وقد تكون من دونها وتكون بتوسط فعل الرمز أو الكلمة (اللغة) التي هي أداة تقييم كل شيء ثقافي معرفي أو فني.
ورغم أن رمز الفعل أو العملة لا قيمة لها بذاتها فإنها بشيء من المواضعة الجماعية وبإرادة الدولة التي تمثل الجماعة هي الحامل لقيم البضائع والخدمات في الاقتصاد وشرط التعامل الأعم المغني عن المقايضة بين البشر وهي ثمرة العلم والعمل المنتجين للبضائع والخدمات في الجماعة.
ومثلها فعل الرمز أو الكلمة. فهي في حد ذاتها لا معنى لهابل هي تستمد المعنى من المواضعة المضمرة التي تمكن من التواصل في الجماعة ليس الحية فحسب بل هي تمكن من التواصل مع كل الاجيال السابقة واللاحقة ما ظلت تلك اللغة لغتها وهي التي تحدد المعاني رغم أنها لا معنى لها عند من لا يتكلمها.
فأي لغة إذا فصلت عن الإحالة أو الدلالة من خلال الممارسة الجمعية في التداول الحي والتراثي المعبر عن الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة المحيطة بالجيل الحالي الذي يتكلمها فإنها لا يبقى فيها إلا أصوات قد لا يبقى لها إلا التأثير الموسيقي إن كان لها انتظام انغومي كالحال في الإنشاد.
وهذان الرمزان يمثلان في كل جماعة الكلي المادي والكلي المعنوي المشروطين في كل تبادل وكل تواصل. وهما في علاقة البشر بعضهم البعض يدوران حول التبادل والتواصل بينهم بخصوص علاقتهم العمودية بالطبيعة وما وراءها وبالتاريخ وما ورائه ومن ثم فهما شارطان لكل شيء آخر في حياة الجماعة.
ولأن الرمزين-رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة-لهما هذه الفاعلية التبادلية والتواصلية الكليتين في الجماعة فإنهما سرعان ما يتجاوزان وظيفتيهما من حيث هما أداة تبادل وتواصل إلى وظيفة خطيرة هي التي تجعلهما بعدي دين العدل: فالعملة هي معدن العجل والكلمة هي خواره.
والمعدن في القصة ذهب مسروق والخوار كلام مغشوش. ولذلك فالعملة هي الذهب المسروق وتنتقل من أداة تبادل لتصبح أداة سلطان على المتبادلين وأبرز أشكاله الربا والاستغلال. والكلمة هي الخوار المغشوش وتنتقل من أداة تواصل لتصبح أداة سلطان على المتواصلين وأبرز الشكل تزييف المعاني والغش.
وهذان هما التحريفان المفسدان لحياة الجماعة لأن الاول هو أساس الاستغلال والظلم والثاني هو أساس التخدير بتزييف المعاني سواء بالإعلام المغشوش أو بالملاهي وكلها لتبرير هذا النظام الذي يستعبد الإنسان بالسلطان على ما يسد حاجة العضوية والروحية من حيث هو إنسان.
ودين العجل هذا بهذين النقلتين من أداة التبادل إلى أداة السلطان على المتبادلين (على الأبدان مباشرة من أجل السيطرة على الاذهان) ومن أداة التواصل إلى أداة السلطان على المتواصلين (على الأذهان مباشرة من أجل السيطرة على الأبدان) هو البنية العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا.
فهذا النوعان من النظم السياسية يبدو أولهما حكما باسم الله والثاني باسم الإنسان.وهما بنية سطحية لأن البنية العميقة هي الحكم باسم العجل الذهبي.وثورة الإسلام بينت هذه البنية العميقة التي تنتج عن الوساطة في التربية (تحريف وظيفة الكلمة) والوصاية في الحكم (تحريف وظيفة العملة).
فإلغاء الوساطة في التربية “إنما أنت مذكر” والوصاية في الحكم “لست عليهم بمسيطر” هو العلاج الذي يحرر القرآن الإنسان به من العبودية الروحية لكنسية تتوسط بينه وبين الله ومن العبودية السياسية لاستبداد وصي بينه وبين أمره (أمرهم شورى بينهم): تحرير التربية والحكم من هذين التحريفين.
وقد بينت في محاولات سابقة أن هذين التحريرين ممكنان وأنهما ليسا يتوبيتين وأن الاقتصاد يمكن أن يتحرر من الربا والاستغلال والثقافة من التزييف والغش بل وأكثر من ذلك أن الإسلام هو العلاج الوحيد لهذين الدائين حتى وإن كان المسلمون أنفسهم قد وقعوا في التحريفين كما يبين تاريخ حضارتنا.
والتحريف مطلق عند الشيعة والباطنية بمعنى أن الثيوقراطيا خيار عقدي وهي مبنية على الوساطة (المرجعية) والوصاية (الحق الإلهي في الحكم لآل البيت) وهو نسبي عند السنة بمعنى أن الوساطة لم تصل إلى التحول إلى كنيسة كما عند الشيعة والوصاية أمر واقع وليست من العقيدة.
ومعنى ذلك أن السنة ليست قائلة بالثيوقراطيا ولا الانثروبوقراطيا مبدئيا حتى وإن كانت ترواح بينهما في الممارسة بخلاف التشيع الذي هو ثيوقراطي المنزع مبدئيا وبمقتضى عقيدته. لكن الرؤيتين لم تتحررا من تحول العملة سلطانا على المتبادلية والكلمة على المتواصلين وهو جوهر الاستبداد والفساد.
والإسلام لن يسترد دور بمقتضاه يحقق قيم الرسالة الخاتمة التي تضفي المعنى على دور المسلمين في النظام العالمي الجديد وما آل إليه نظام العولمة من حرب على الإنسان وشروط قيامه السوي المادية والروحية فماره هو هذان الحريتان اللتان فقدتهما البشرية واكتفت باسميهما في عبودية العولمة.
تلك هي الغاية من هذه المحاولات التي تعيد تصويب فهمنا للقرآن وللانحرافات التي جعلت الديني والفلسفي في صدام لا يتوقف حال دون المسلمين وتعمير الأرض ومن أفقدهم كل قيم الاستخلاف لأن من فشل في تعمير الأرض لا يمكن أن يكون سيدا رعاية وحماية بل هو تابع يعبد من يسيطر على سد حاجاته.