**** مفارقات محيرة في مادة الوجود الجمعي وصورته الفصل الخامس
انتهينا إلى بيان الحل الذي وضعه القرآن لتربية من دون وساطة ولحكم من دون وصاية يمكن أن يجنب الإنسان فساد معاني الإنسانية فيه لأنه يغني عن العنف فيهما فيكون الإنسان فتتحقق له شروط الاستثناء من الخسر الخمسة.لكن لا يكفي أثبات الإمكان بل لا بد من إثبات الحصول أو على الأقل وجود شروطه.
فالإمكان المرسل مفتوح على اللاتناهي ولا يمكن أن نختار قابل الحصول منه من غير القابل ومن ثم فالإمكان الذي نتكلم عليه غير مرسل بل هو محدد إجابا بما يصحبه في حالة القرآن بشروط تحصيله المذكورة فيه وبما يحصل في غيابها وذلك هو مضمون الاعتبار الطبيعي والتاريخي مرجعي الاستدلال القرآني.
وأهم علامات الوحدة بين الديني والفلسفي في القرآن هو طبيعة الاستدلال ومرجعيته وطريقته ودوره النقدي للموجود والاجتهادي لطلب المنشود بالتربية والحكم اللذين وصفنا أعني بالتذكيروالتدبير:والإشارة إلى أهل الذكر في التربية والحكم يعني الذين تذكروا أو تحرروا من النسيان ولهم قدرة التذكير.
ويمكن أن أزعم أن آل عمران تعالج هذه القضية سلبا وإيجابا بمعنى أنها تبين ما يمكن أن ينتج عن تربية بوساطة وحكم بوصاية وتثبت طبيعة التربية الغنية عن الوساطة والحكم الغني عن الوصاية. وهي بدأت بأن فصلت بين مجال المعلوم الممكن واللامعلوم بالنسبة إلى الإنسان وضعا للغيب مفهوما حدا.
وسبق أن عالجت هذه القضايا كلها في محاولات عدة. ما يعنيني الان هو البحث في شروط إمكان التربية الغنية عن الوساطة والحكم الغني عن الوصاية في المقومات الخمسة أعني في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود بالمعاني التي شرحتها في الفصول الاربعة السابقة من هذه المحاولة فضلا عما تقدم.
وما ادخل على نظرية المعرفة بهذا المفهوم الحد الذي يحرر من وهم المطابقة ويكتفي بالاجتهاد بدل دعوى معرفة الأشياء على ما هي عليه وهي الثورة القرآنية الأولى يناظرها في نظرية العمل مفهوم حد هو اعتبار ما يقيم به الله أعمال الناس ليس نتائجها بل نية صاحبها وصدقه في طلبه بسبب النسبية.
والنسبية عامة في كل مقومات الإنسان: فإرادته نسبيه وعمله نسبي وقدرته نسبية وحياته نسبية ووجوده نسبي ومعنى ذلك أن العلم والعمل المطلقين ممتنعان على الإنسان وهما من صفات الله وحده لأن إرادته مطلقة وعلمه محيط وهو على كل شيء قدير وحياته سرمدية ووجوده هو الجلال بعينه.
تلك هي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان العلاقة التي اعتبرتها قلب المعادلة الوجودية والتي تكون في شكلها غير المباشر محيطة بالجسرين الطبيعي والتاريخي بينهما كما أثبت ذلك في المعادلة. ولأعد التذكير بها: الله أولا والإنسان اخيرا وبينهما الطبيعة والتاريخ والقلب العلاقة المباشرة.
وهكذا فعندنا: {الله-الطبيعة (الله-الإنسان) التاريخ-الإنسان{. وهذه المعادلة تعني أن العلاقة المباشرة بين الله والإنسان هي عين كيان الإنسان أي إن مجرد وعي الإنسان بنسبية إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده يعي الإنسان إطلاق ارادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده.وهذا هو الدليل الوجودي.
ورغم أن هذا الدليل الوجودي هو عين كيان الإنسان ورغم أنه في وعي كل إنسان سواء كان متعلما أو غير متعلم وعيا شبه لا واعي لأنه الإنسان يدركه من خلال إدراك هشاشته الوجودية وخاصة في حالات العجز والحيرة والمرض والموت فإن اول فيلسوف بنى علي كل فكره هو ديكارت.
والعلة الأساسية التي تجعلني أرفض رفضا قاطعا التصوفل-حاشا الزهد ومجاهدة الاستقامة-لأن كل دعاويهم تلغي النسبية عن إرادتهم وعلمهم وقدرتهم وحياتهم ووجودهم والخلاصة هي كذبة القطب والإنسان الكامل.لا كامل إلا الله. وليس في الجبة إلى أوهام المتصوف الذي يتجاهل الفروق الوجودية الجوهرية.
فالبداية هنا هي:1-الكتاب 2-الحكم 3-النبوة. والغاية هي: 1-ربانيين 2-تعلمون الكتاب 3-تدرسون. والآية تبدأ بالسلب وتنتهي بالإيجاب والقلب هو تبرئة مما أضفى عليه التحريب الذي كان هدفه تأسيس سلطة التربية بالوساطة والحكم بالوصاية: الكنسية والحكم بالحق الإلهي.
“كونوا عبادا لي من دون الله”.فالوساطة في التربية والوصاية في الحكم شرطهما تأليه المسيح ولذلك انتهت الرؤية الشيعية إلى تأليه الإمام علي وآل البيت حتى يصبح من حق المرجعات الوساطة في التربية والأيمة الحق الإلهي في الحكم. وهو إذن نفس التحريف المسيحي الذي برأ القرآن المسيح منه.
وللمسيح هنا ثلاث أدوات معرفية: 1-الكتاب والحكم والنبوة. والمخاطبون بهذه الآية لهم الكتاب والحكم وليس لهم النبوة.ما يعني أن أدواتهم المعرفية دون أدوات النبي. ليس لهم إلى الكتاب والحكم. ولهم البديل من النبوة صفة خلقية وروحية هي “الربانية”التي هي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان.
الرباني هو من لا يغيب عن باله طرفة عين حضور الله معه في كل آن وفي كل مكان وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وهو حضور في علاقة الإرادتين والعلمين والقدرتين والحياتين والوجودين. وبهذه الصفة يعلم الكتاب ويدرس.ويمكن أن يكون موضوع تدرسون الكتاب باضمار نفس المفعول به لتعلمون وشيئا آخر.
وتلك هي وظيفة الحكم. فالحكم هنا لا يعني الحكم السياسي ولا الحكم الفقهي بل الفعل العقلي الذي يدرك العلاقة بين الكلي وتعينه في تجلياته الوجودية التي يدركها الإنسان كما في حالة إدراك العلاقة بين الموضوع ومحمولاته في القضية المنطقية الحملية:إدراج الجزئي في الكلي في الإدراك العقلي.
الربانية هي إذن المعرفة العقلية بالحكم في إطار الحضور الدائم للعلاقة المباشرة بين الله والإنسان كما وصفناها. وبذلك يصبح كمن يراقب تجلي آيات الله في الآفاق وفي الأنفس. والآفاق هي العالم الطبيعي والتاريخي في الأعيان والأنفس هي هما في الأذهان وتلك هي العلاقة غير المباشرة.
فإذاجمعنا بين العلاقتين كانت المعادلة الوجودية هي في آن معادلة الوجود عامة ومعادلة كيان الإنسان خاصة إذا تذكر الربانية أي لم ينس ويغفل عن العلاقة بين الإرادتين والعلمين والقدرتين والحياتين والوجودين. فيكون الإنسان هو عينه بكيانه الدليل الوجودي على التلازم بين المستخلف والخليفة.
والذهول عن العلاقة المباشرة يلغي ما وراء الجسرين في العلاقة غير المباشرة فيقع تأليه الطبيعة (وحدة الوجود الطبعانية عند سبينوزا مثلا) أو تأليه التاريخ (وحدة الوحدة الروحانية عند هيجل مثلا) وفي كل وحدات الوجود الصوفية التي تراوح بينهما فلا يكون للطبيعة ولا للتاريخ ما وراء.