مفارقات محيرة في مادة الوجود الجمعي وصورته – الفصل الثاني

**** مفارقات محيرة في مادة الوجود الجمعي وصورته الفصل الثاني

خصصت عدة محاولات للكلام على العلاقة بين الديني والفلسفي باعتبارهما عين ما يتميز به القرآن الكريم على كل الكتب الدينية الأخرى وجوهر ما يمكن أن ننسبه إليه من اعجاز رؤيوي في الوجود عامة وفي  الوجود الإنساني خاصة.لكني الآن أريد أن أبين نفس هذه العلاقة في المقومات الأربعة الباقية.

وسأبدأ باقرب شيء لمقوم الوجود ورؤيتيه الدينية والفلسفية أو مقوم الجلال أعني مقوم الحياة أو مقوم الذوق الجمالي لأدرس طبيعة العلاقة بين حديه اللذين وصفتهما في محاولة البارحة حول مفارقات الوجود الجمعي وطبيعة علاقتهما بمقوم الوجود عبارة بالاسلوب الجمالي على الرؤتين الدينية والفلسفية.

فقد ارجعت العبارة بالأسلوب الجمالي عن الذوق إلى جنسين أحدهما تشكيلي والثاني أدبي.. والقصد بالتشكلي العمل الفني المباشر على مادة قابلة للتكشيل واصل كل المواد القابلة للتشكيل ذي البنية الرياضية ذو بعدين هما ما ندركه بحواسنا من الوجود أعني تجليه المكاني والزماني فينا وفي العالم.

فالرسم أصل تشكيل المكان من مجرد الرسم على سطحه إلى الرسم عليه بكل ابعاده كشكل خال مما يملأه إليه كشكل مملوء كما في النحت والعمارة وأي مادة متجسمة بأبعاد المكان الثلاثة.والموسيقي أصل تشكل الزمان من الصوت والصمت الفريدين إلى التنويع اللامتناهي للأناغيم والهرمونية.

ويتفاعل التشكيلان في المادة الأسمى التي هي جسد الإنسان الحي مكانا وزمانا فيجعل التشكيل متحركا بكيان مكاني هو الجسد وزماني هو الصوت.ويكون الرسم على سطحه وشما ومساحيق تجميل وعلى أبعاده الثلاثة إبرازا للعلاققة بين الناتيء والضامر منه أو جمال الأجساد وأرقاه الرقص والغناء.

والرقص والغناء تعبيرا صامتا غير المنتسبين إلى لسان معين فاعلية تعبير مطلقة متقدمة على التعبير اللساني الذي بمجرد أن يتدخل ننتقل من التشكيلي إلى الأدبي. فالادبي لا يكون إلا ترجمة وتأويل للتشكيلي إما لتشكيل سابق وفعلي لم ينتجه الادب وهو وصفي للأحياز أو لتشكل خيالي يخلقه الأدب.

فيكون الأدب بكل أجناسه دائما مرحلة ثانية من التعبير الفني لأنه مسبوق بأحد النوعين من التشكيل الفعلي أو المتخيل والاول تعبيرمن الدرجة الثاني للموجود من المنشود الذي يعبر عنه التشكل المباشر والثاني تعبير عن الدرجة الثانية يجعل الموجود نفسه من المنشود غير الحاصل من مباشر التشكيلي.

فيكون الأدب حتما مستندا إلى وجود تشكيلي فعلي سابق وأهمه الوجود التشكيلي العام أو الحياة الاجتماعية والتاريخية التي هي تشكيل عام لحياة الإنسان يتعين في وجود الجماعة وهو التشكيل الدرامي الذي من دونه لا يمكن للأدب أن يكون عبارة درامية بالجوهر. وكل أدب يخلو منها فاقد للأدبية.

ونفس العلاقة في الاتجاه الثاني تعطينا التشكيلي الذي تكون المادة التي يشكلها هي الأثرالإبداعي الذي ينتجه الادب. فيصبح التشكيلي في نسبته إلى الأدبي مثل الأدبي في نسبته إلى التشكيلي. كلاهما ترجمان الثاني بأسلوه وبفنياته الخاصة التي تجعل المترجَم مادة والمترجِم صورة.ويتوالى التفاعل.

فالفنون المسرحية والتمثيلية والسينمائية كلها تشكيل درامي مادته تفاعلات البشر ليس في وجودها الفعلي الذي هو مجرد مادة بل في ما يشبه ما بعد الحياة الاجتماعية والتاريخية من حيث هي عائدة على ذاتها عودتها على الوجود الخارجي مكانه وزمانه وكل مستوياته الجمالية وسعيها إلى الجلالية.

وهذا هو العالم الرمزي الذي لا يقتصر على المنتج الإبداعي للفنانين بل هو عين ما به يتجاوز الإنسان الوجود العضوي في العالم الطبيعي أو هو العالم الوسيط بين الذات وذاتها وبينها وبين عالمها الطبيعي.ولذلك هو رمز الحياة من مقومات كيان الإنسان:توسيع آفاق الإنسان لإخراجه من سجن الطبيعة.

وهذا هو المعين الذي ينبع منه الديني والفلسفي قدرتين للتعبير عما يتلقاه الإنسان من العالم بوصفه عملا فنيا مشكلا ولا يستطيع إدراكه إلا بإدراكه تشكله الذي تتلقاه حواسه ما يعني أن الإدراك الاول واساس كل إدراك إدراك جمالي وتلك هي العلة في اشتقاق اسم الجماليات من الحس باليونانية.

لكن كونه نابعا عن الإدراك الحسي لا يعني أن له وجودا محسوسا “موضوعيا” بل هو أسلوب تجلي الموجود باظهار ما ليس موجودا فيه بمعنى أن الإدراك الحسي ليس علما موضوعيا لما يدركه بل هو يضفي عليه مسحة جمالية ذات دلالة متغيرة بحسب “أحوال النفس” حتى العادية ناهيك عن أحوالها عند المبدعين.

ما يعني أن نسبة الإدراكات الحسية إلى موضوعات الإدراك تشبه نسبة الإبداع الأدبي إلى الإبداع التشكيلي فيكون الإدراك الحسي وكأنه مصحوب دائما بالتدخل اللساني لكأن الاسم في اللسان هو الذي يحدد المعنى المدرك الحسي ينزله في نظام رمزي لساني متغير من ثقافة إلى ثقافة علة لاختلاف الفنون.

ويبتين ذلك في ظاهرتين عجيبتين: 1-إدراك الالوان 2-إدراك الأصوات. والأولى ذات صلة مباشرة بالمكان والرسم والثانية ذات صلة مباشرة بالزمان والموسيقى. ولما كان التمايز بين الثقافات في الألوان يتبين من أسمائها وخاصة من أسماء تقازيحها فإن الثاني يتبين من أسماء الصوت.

فالمعلوم أن أسماء الصوت عادة تكون محاكاة لصوت المصوت كنباح الكلب وزقزقة العصفور وثغاء الأغنام وعواء الذيب وحفيف الورق إلخ.. لكن الأنوماتوبي مختلفة من ثقافة إلى ثقافة. فلا علاقة بين ينبح العربية وبارك الأنجليزية وأبوا الفرنسية بالنسبة إلى الكلب وقس عليها.

قضيتي بعد تحديد المنزلة التي يشغلها مقوم الحياة متعينا في الذوق الجمالي الساعي إلى مستوى الذوق الجلالي ومنه ينبع الديني والفلسفي هي عورة ثقافتنا القاتلة. فمن علامات كون فقهائنا يصح عليهم الوصف “صم بكم عمي فهو لا يعقلون” مآل الفنون عندهم مآلا هو بمنطق سد الذرائع إلغاؤها بإطلاق.

لمن يكونوا يدرون أن انحطاط الفنون نتيجة لهذا الموقف وليس لكونها فنونا. وكذلك انحطاط الفكر العقلي علته هذا الموقف وليس لكونه فكرا. والغريب أن ذلك كله يقع باسم الدين الذي هو ذورة بلوغ الذوق إلى الذوق الجلالي والذوق الوجودي الذي عليه تتأسس الرؤى وهي ذروة المقومات الخمسة وغايتها.

وما يؤسفني حقا هو أن اصحاب ما يسمى بالفكر الفلسفي والعقلاني هم بدورهم ذوو سهم في هذه المنزلة التي جعلت الفنون والعقل يصبحان منبوذين في ثقافتنا. فهم أيضا لم يولوا أدنى أهمية للفنون المعبرة عن الذوق وقد بلغ ذلك ذروة الحط منها لما سيطر الأراذل والمتصوفة بنوعي انحطاطهما.

ونوعا انحطاط الفنون المعبرة عن الذوق الجمالي المتسامي إلى الذوق الجلالي هما التخدير المادي المصاحب للفنون عند الأراذل والتخدير الروحي المصاحب لها عند المتصوفة.فكلاهما نقلا العبارة الجمالية والجلالية من اليقظة إلى الذهول ومن معارج العقول إلى مساقط السفول المحرفة للفلسفي والديني.

والعلاقة بين نوعي الفن المعبرعن الذوق التشكيلي والادبي يخضعان لنفس البنية التي تخضع لها العلاقة بين نوعي الرؤية الوجودية فإن العلاقة بين العالمين الطبيعي والتاريخي وبين ما ورائيهما وهي علاقة تعيدنا إلى قلب العلاقة بين الله والإنسان أو اللامتناهي والمتناهي في حياة الإنسان.

فالفلسفي ينطلق من الطبيعي ويصعد إلى ماورائه طلبا لشروط إمكانه وقوانينه في رب هندسه ثم يعود منها إلى التاريخي لنيزل إلى ما دونه طلبا لشروط إمكانه وسننه في انسان عليه أن يهندسه والديني يعكس نفس المسار فيصعد من التاريخي وشروط إمكانه (الإنسان) إلى الطبيعي وشروط إمكانه (الرب).

وكذلك يفعل الفنان: فالتشكيلي بداية الفلسفي والأدبي بداية الديني. ولا يوجد نص ديني لا تتمثل أدبيته في العبارة الدرامية والذروة في ذلك القرآن الكريم. ولا يوجد نص فلسفي لا تتمثل تشكليته في الصياغة الرياضية والذورة في ذلك القرآن الكريم. فهو يعتبر الخلق رياضيا والأمر دراميا.

ومن لم يدرك ذلك من القرآن فيفهم أنه نص الديني والفلسفي في آن وأنه من عمل فني مطلق. لذلك تكلمت على العلاقة بين الشعر المطلق والاعجاز القراني. وهو ليس اعجازا بالمعنى الإضافي فيبحث فيه عن الاعجاز العلمي الذي يحط من القرآن ولا يرفع من شأنه: هو نظام الرؤيتين وليس متن علوم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي