**** مفارقات محيرة في مادة الوجود الجمعي وصورته الفصل الثالث
أمر الآن إلى بعدي قاعدة الهرم الثانيين-بعد بعديه الأولين أي المقوم الوجودي المحدد للرؤى الدينية والفسفية والمقوم الذوقي التشكيلي والأدبي-أي مقوم العلم ومقوم الإرادة. وسأتكلم في العلمي أول.فحداه هما التجربة والنظرية. والتجربة فيه تجانس الفن التشكيلي والنظرية تجانس الفن الأدبي.
فكل الذين يتوهمون التجربة تصل إلى نتائج تفرضها الظاهرة التي يجربها العالم لم يفهم معنى التجربة العلمية وتوهمها من جنس التلقي في التجربة الإنسانية الغفلة.التجربة العلمية تشكيل عقلي للمعطيات التي يتلقاها العالم كالتشكيل الفني للعطيات التي يتلقاها صاحب عين الرسام وأذن الموسيقار.
المجرب في العلوم هو من يشكل المعطيات بصورة تجعلها تصبح ذات صورة لا تحاكي “الواقع” الذي هو دائما مجهول بل تكتشف فيه ما يمكن من “السلطان” على الظاهرة سلطانا يجعلها قابلة للصوغ العلمي وهو النظرية والتي هي رياضية دون أن يكون الرياضي مقصورا على الكمي بل هو شبكة مفهومية بنيوية.
وهو المعنى الثاني للرياضي في التعريف الديكارتي “القيس والترتيب”. فالقيس كمي والترتيب كيفي وهما وجها الرياضيات التي تستمد منها التجربة العلمية صيغها لما “أُسلبت”a été stylisée به المعطيات التي لا تكاد تحصى والتي يختار منها العالم ما يعتبره ممثلا لـ”الجوهري” من الموضوع لتعليل البقية.
فإذا فهمنا هذه العلاقة أدركنا أن معنى قول القرآن إن كل شيء قد خلق بقدر وإن علمه لا يمكن أن يستغني عن المعطيات التجريبية (كثرة الإشارة إلى الاعتبار بمجرى الأحداث ما يعني الملاحظة العينية والمدارك الحسية في المعرفة العلمية) وأدركنا خاصة أن العلم يقتضي نوعي الفنون التشكيلي والأدبي.
فهو يعتمد على المكان والزمان ومن هنا طابعه التشكيلي ويعتمد إلى “المقدرات الذهنية” (بلغة ابن تيمية) ومن هنا طابعة الادبي لأن النظرية مثل الأدب تبدع موضوعها وشكله والفرق الوحيد هو أن الدراما الأدبية تتعلق بتفاعل البشر و”الدراما” العلمية تتعلق بتفاعل القوى الطبيعية.
لكن العملية من حيث مجرياتها وإجراءاتها من طبيعة واحدة: لا بد من تشكيل موضوع معطى في التجربة وهو دائما مردود للمكان والزمان وما فيهما من تفاعل القوى (في العلم) أو البشر(في الأدب). لذلك كانت العلوم الإنسانية بخلاف العلوم الطبيعية عصية على الصوغ الرياضي لأن الدرامي فيها من النوعين.
فالدرامي في العلوم الإنسانية دراما الافعال البشرية ودراما القوى التي تعود إلى ما فيهم من طبيعي بمعنى أن الإنسان قوة طبيعة طبيعية وقوة من جنس آخر علتها عودته على ذاته ولنسمها قوة روحية ومنها اشتق الألمان اسم العلوم الإنسانية Geisteswissenschaften بالمقابل مع Naturwissenschaften
ويمكن أن نستنتج من ذلك نتيجتين: 1-العالم هو قبل كل شيء فنان تشكيلي للمعطى التجريبي وفنان أدبي للتعبير الرياضي عنه. فتكون الرياضيات أرقى الآداب أو الإبداع الرمزي الذي يتكلم في دراما المفهومات المجردة دون تحديد لطبيعة معينة فتسميها بحدود رموزها وتنظم علاقاتها بقوانين موضوعه.
فهي إذن لغة صناعية لمعان مجردة يشار إليها بحدودها وتوضع لها علامات هي الرموز من جنس رموز المتغيرات وتضبط علاقاتها الأساسية بقوانين تمكن من استنتاج كل ما هو ممكن من علاقات فرعية مستمدة من العلاقات الأساسية فلكأن الحدود هي المفردات والقوانين هي سنتكاكس تأليف الجمل منها.
ما يعني أن الرياضيات لها خاصيتان واحدة تشبه اللسان الطبيعي من حيث التقطيعين إلى مفردات وإلى جمل والثانية تختلف عنها بكونها ليس لها مرجعية خارجة عن ذاتها مثل الادب أي إنها تنتج مرجعية دلالاتها من حيث إحالتها إلى علاقات الرموز لتسمية ما أبدعته من مفردات الموضوع وقوانين جملها.
وتلك هي علة المقارنة مع الادب: فهو يستعمل اللسان بالتقطيعين ويبدع دلالاته لأنه لا يرجع إلى موضوعات خارجية بل موضوعاته من إبداعه. ولذلك فأفسد أشكال الأدب وكذلك أشكال العلم ما كان منهما مجرد كلام في الموجود ومحاكاة له توهما بأن “الواقعية” الادبية والخبروية العلمية إبداع حقيقي.
الرياضيات التي هي دراما رمزية والأدب الراقي الذي هو رياضيات ذات دراما إنسانية عند جمعهما بتقديم الأولى تحصل على الفلسفي وبتقديم الثانية تحصل على الديني وبالجمع بينهما تحصل على القرآن الكريم الذي هو ديني وفلسفي في آن كما هما في المسارين الديني والفلسفي بين العالمين وما ورائهما.
ومثلما أن للعلم كاريكاتور هو العلم الخيالي وهو أدبي متعالم فإن للأدب كاريكاتور هو الأدب الواقعي وهو تاريخي متآدب. فلا العلم الخيالي علم ولا الأدب “الواقعي” أدب. وقد نقول إن العلم الخيالي من فروع الادب الأرقى من الأدب الواقعي والأدب الواقعي من فروع العلم الأقل من التاريخ.
وغالبا ما يخلط الناس بين العلم وكاريكاتوره والادب وكاريكاتوره والفن وكارياتوره فينتج من ثم خلط بين الفلسفي وكاريكاتوره وبين الديني وكاريكاتوره وغالبا ما يكون التوظيف لأي منها من أحصاب الكاريكاتور لأن العالم والأيب والفنان والفيلسوف والمتدين يعبدون ما يؤمنون به الحقيقة والحق.
ويمكن لهذه الكاريكاتورات أن تؤثر على من لم يطلع على هذا الفروق الدقيقة واللطيفة فيكون تابعا للكاركاتورات ويفضلها على الحقائق تماما كما تكون العملة الفاسدة أبرز من العملة الحقيقية والكلمة الكاذبة أبرز من الكلمة الصادقة. وسنرى أن الامر كله متعلق ببعدي الجل الذهبي وخواره.
لا يمكن أن تجد عالما بحق وفنانا بحق وفيلسوف بحق ومتدين بحق لا يؤمن بالإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميلة والوجود الجليل. أما من كان زائفا من كل هؤلاء فهو من وصفه ابن خلدون ب”فساد معاني الإنسانية” فلا يكون حرا ولا صادقا ولاخيرا ولاجميلا ولاجليلا.
ولا أعتقد أن ذلك عملية اختيارية أعني أن العالم والفنان والفيلسوف والمتدين إذا كانوا بحق متصفين بهذه الصفات ليسوا مختارين في الاتصاف بالحرية والصدق والخيرية والجمال والجلال بل إن وجودهم لا يكون إلا كذلك وهو الأصل ويمكن أن يفسد بما بينه ابن خلدون أي بالتربية والحكم العنيفين.
وذلك هو الرد أسفل سافلين بعد أحسن التقويم. وأحسن التقويم هو الميزة الغالبة من المقومات الخمسة: فأحسن التقويم يتعلق بالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود فيكون من غلب عليه أحد هذه المقومات لا يستطيع أن لا يكون متصفا بها بالفطرة لكنه يمكن أن يفقدها بالاكتساب إما تربية أو حكما. وهنا يكون العلاج للخروج من الخسر هو ما حددته سورة العصر:
1-الوعي بالوقوع في الخسر بعد التقويم الأحسن
2-الإيمان الصادق
3-العمل الصالح
4-التواصي بالحق
5-التواصي بالصبر.
وتلك هي قابلية الإنسان للعلاج الذي هو عين موضوع الرسالة الخاتمة والتي تهدف لتحرير الإنسان بالتربية والحكم غير العنيفين.
وعنف التربية يتمثل في الوساطة بين الله والإنسان. وعنف الحكم يتمثل في الوصاية بين الإنسان وشأنه العام. فيكون العنف وساطة تفقده الحرية الروحية ووصاية تفقده الحرية السياسية. وهذان الحريتان هما هدف الإسلام., لذلك قيل للرسول “إنما أنت مذكر” في التربية و”لست عليهم بمسيطر” في الحكم.
فيكون رسول الرسالة الخاتمة سقراطي التربية و”سقراطي الحكم” بمعنى أنه أضاف إلى السقراطية في التربية (التذكير) أمرا لم يكن يعرفه سقراط السقراطية في الحكم (الوازع الذاتي الحاد من دور الوازع الأجنبي). بطريقتين: جعل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وسياسة الجماعة أمرها بالشورى.
وبذلك نصل إلى الركن الرابع بعد الوجود والحياة والعلم أي الإرادة. والإرادة هي مجال السياسة. وبها يكتمل المربع أو قاعدة الهرم الذي قمته هي غايته وأداته أعني القدرة ببعديها المادي (الاقتصاد) والروحي ( الثقافة). لكن ا لاقتصاد والثقافة يمكن أن يتحولا إلى بعدي العجل: معدنه وخواره.
وذلك هو الداء العضال الذي يمثل الخسر والذي يعسر التغلب عليه لأنه هو عين التحريف الفلسفي والديني. فالمعدن يرمز إلى سلطان العملة التي تنتقل بالتحريف من أداة تبادل إلى استعباد المتبادلين والخوار يرمز إلى سلطان الكلمة التي تنتقل بالتحريف من أداة تواصل إلى استعباد المتواصلين.