ه
– القسم الأول –
تنبيه:
نشر هذا المقال بغير عنوانه المذكور أعلاه بل بعنوان “الحروب الصليبية لم تتوقف” في صحيفة الوسط التونسية بتاريخ 16 – 07 – 2007 ونعيد نشره رغم أنه نصف البحث لأننا لم نجد بعد نصفه الثاني. وقد نتمكن من ذلك لاحقا خاصة إذا كان من بين القراء من حصل عليه سابقا. فقد بحثت عنه في وثائق الوالد ولم أجد له أثرا.
قبل هجرتي الطوعية إلى جنوب شرقي آسيا (19 جويلية 2002) كنت لا أنظر إلي الأوضاع الإسلامية إلا من منطلق الوضعية العربية الحديثة. لذلك فإن التشخيص قد مر عندي بمرحلتين لعل من المفيد عرضهما عرضا سريعا. فقد كنت اعتبر أوضاع المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ ما يسمي بالاستقلالات العربية يحددها بالأساس الاستقطاب الدولي الذي قسم الأمة إلى صفين أحدهما اصطف مع أمريكا وكان شعاره الإسلام والليبرالية والثاني مع الاتحاد السوفييتي وكان شعاره القومية والاشتراكية.
وفي هذا الاصطفاف كان كل منهما مخربا لفعل الآخر برعاية حركة سياسية معارضة جعلت الاسلاميين في حرب علي القوميين في البلاد العربية التي تحكمها أنظمة بشعارات قومية واشتراكية بزعامة مصر خاصة وبحماية سوفييتية وجعلت القوميين في حرب علي الاسلاميين في البلاد التي تحكمها أنظمة بشعارات اسلامية بزعامة السعودية خاصة وبحماية أمريكية. وقد أنتج ذلك ظاهرتين محددتين للأوضاع الراهنة في الوطن العربي بما ولدتاه خلال الصدام وبما خلفتاه بعده منذ ما يسمي بنهاية الحرب الباردة:
فأما الظاهرة الأولي فقد جعلت كل مقدرات الأمة المادية والروحية في خدمة استراتيجيات قطبي الصراع الدولي بدل التعاون علي بناء الأمة. ويبرز ذلك خاصة بحربي بداية هذا الصراع وغايته حربية اللتين أدتا إلى النكبتين الكبريين في تاريخنا المعاصر. فحرب اليمن بين الصفين ممثلين بمصر والسعودية أدت مباشرة إلى هزيمة 67. وحرب الكويت بينهما ممثلين بالعراق والسعودية أدت بصورة غير مباشرة إلى هزيمة 2003.
وإذا كانت الهزيمة الأولى قد أبقت على حشاشة من حياة الرابطة العربية حشاشة مكنت من انقاذ ما يمكن انقاذه فأوصلت إلي نصر 1972 النفسي والرمزي على الذات دون نصر عسكري على العدو فإن الهزيمة الثانية أنهت الرابطة العربية وقد تفتت أقطار الأمة الرئيسية بدءا بالعراق وختما بالله اعلم بأيها رغم بينونة الاتجاه عند علم العامل المستعمل للتفتيت: الصراع العرقي والطائفي في كل بلد عربي كبير مستعد لذلك بسبب سوء التدبير السياسي وضيق الافق الثقافي. والأمل هو ألا يكون انفصام الرابطة إلى الأبد وألا ينجح التفتيت: فالحرب الأهلية العربية لم تعد عربية ولم يبق بعدها الدولي توظيفيا فحسب بل هي أصبحت كونية جوهريا. ففيها داخليا سيحسم الخيار بين محاولات استئناف الحضارة الاسلامية دورها التاريخي الكوني بقيادة عربية ذات منظور اسلامي وبين مجرد الاندراج في الحضارة الغربية. وفيها خارجيا ستتحدد شروط دور المسلمين في العالم بقيادة عربية ذات منظور اسلامي لما سنري من العلل إذا حققنا ما نشير إليه من الشروط.
وأما الظاهرة الثانية فهي بقايا معولي التخريب اللذين استعملهما الصفان في خدمة استراتيجية القطبين: أعني نوعي الإرهاب العلماني والأصلاني. فالمعارضة اليسارية بعد نهاية القطب الذي كان يوظفها وضعف الأحزاب العربية القومية التابعة لهذا القطب ذهبت مباشرة للقطب الباقي للاحتماء به ولتبني ايديولوجيته بديلا من ايديولوجيتها التي كانت مقابلة لها تمام المقابلة فأصبحت معول تخريب مطلق لمقومات روح الأمة وثقافتها باسم الحداثة والعلمانية الليبرالية. والمعارضة الدينية بعد استغناء القطب الذي كان يوظفها عنها وبعد ضعف الأحزاب العربية الإسلامية التابعة لهذا القطب لم يبق لها من تذهب إليه فارتدت على نفسها وعلى من أوجدها لتهديم مقومات محاولات البناء الحضاري الحديث باسم الأصالة والدين.
كلا الارهابين العلماني والأصلاني أصبح معول تخريب لشروط استئناف الأمة دورها. فالأول يهدم الشروط الروحية بالإرهاب الإيديولوجي والعمالة الصريحة والثاني يهدم الشروط المادية بالإرهاب التكنولوجي والمقاومة النطيحة. لذلك وجدت أمريكا فيهما وسيلتيها الرئيسيتين لتحقيق استراتيجيتها. فالإرهاب اليساري يساعدها في نشر أفكارها وربح المعركة الإيديولوجية بما يضفيه على ما تبشر به من إيديولوجيات من وهم النبع المحلي للإصلاح المغشوش الذي تريد فرضه. والإرهاب الديني يساعدها لأنها تخيف به رأيها العام من العدو الخارجي الذي يهدد رفاهية الغرب وحريته وأمنه فيحقق لها التأييد الكافي من رأيها العام لحروبها فضلا عما يقدمه من تخريب يطيح بكل ما بقي موجودا من الشروط الدنيا للكيانات الإسلامية والعربية حتى تكون الفوضى أهم شروط اعادة البناء بحسب الخطط الأمريكية.
ذلك هو توصيفي للوضع قبل هجرتي إلى ماليزيا واتصالي بطلبة من جل بلاد جنوب شرقي آسيا الإسلامية: من الصين وفيتنام والفلبين واندونيسيا وتايلاندا وأجوارهما فضلا عن الهند وباكستان مع بعض طلبة البلقان من أوروبا الإسلامية المضطهدة. عندئذ بدأت اكتشف أبعادا أخري تتجاوز المشهد الذي تحدد من منطلق الوطن العربي. وأهم عناصر هذا المشهد ظاهرتان كذلك.
فأما الظاهرة الأولي فهي تكذيب فكرة شائعة في الوطن العربي. فقد كنت أتصور الحروب الصليبية قد انتهت باسترداد القدس ومستعمرات الساحل الشامي. لكني اكتشفت أ أثرها ما يزال موجودا إلى الآن وأنها تحرفت قلب العالم الإسلامي أو الوطن العربي الحالي لتتناهش أطراف دار الإسلام خاصة بعد ما فشلت في استرداد المغرب العربي بفضل الصمود العثماني أمام محاولات شارل الخامس الذي أخرجت الدولة العثمانية جيوش امبراطوريته من تونس في الربع الأخير من القرن السادس عشر للميلاد بعد احتلال دام أكثر من نصف قرن.
وأما الظاهرة الثانية فهي بداية عرض خطير علته سوء فهم طبيعة الشكل الذي اتخذته الحرب في العدوان على دار الإسلام بعد هذا التحريف وما تلاه من افتكاك الغرب مشعل الحضارة من المسلمين بعد صدامه بهم وتعلمه منهم تعلما مكنه من اصلاح العلاقة بين الدين والدنيا في تجربته الصراعية التي جرت في داره وفي دارهم مرتين في كلتا الحالتين: في حروب الفتح وفي حروب الاسترداد عنده وفي الحروب الصليبية المباشرة في الوطن العربي وفي حروب التحريف في العالم الإسلامي عندنا.
فهذه الحرب لم تعد حرب نزال يكفي فيها الحماس الديني وحركات الجهاد الفوضوي التي لا تختلف كثيرا عن محاولات الرد بالفوضى القرصانية التي لجأ إليها المسلمون في العصر العثماني المتأخر. إن هذا النوع من الجهاد يفسد الشأن الداخلي أكثر مما يحارب العدو بل هو أهم العوامل التي تعد للعدو أرضية الغلبة النهائية تماما كما حدث عند انفراط عقد الخلافة الأخيرة. فهو جهاد يلغي شروط بناء الدولة القادرة على تمكين المسلمين من أدوات الصراع الفعلية التي تمكن الغرب بفضلها من افتكاك مشعل الحضارة وربح كل الحروب منذئذ: إنه ينتهي إلى أفغنة كل دار الإسلام التي تصبح مؤلفة من رؤساء عصابات أول ما تسعي إليه هو استعباد شعوبها التي تتبدي بزوال الشروط الدنيا للدولة الحديثة. فكل من اصطدم مباشرة بالغرب من دون الأدوات التي لا يمكن أن تتحقق من دون الدولة الحديثة والتعليم الحديث ساعد هو نفسه الغرب على ارجاع المسلمين إلى القرون الوسطي فزاد تبعيتهم له رغم وهم الانتصار في حركات التحرير التي أصبحت في الحقيقة حركات تغريب وتبعية مطلقة للمستعمر الذي حاربته باسم الاسلام ثم صارت حربا على الإسلام أكثر مما كان يستطيع الغرب أن يفعل.
لم نفهم ما فهمته الصين التي تحاور الغرب وتداوره لكي تعطي الوقت للوقت فيفعل مفعول التراكم الكمي والتغيير الكيفي الذي يجعلها قادرة على المقاومة المغنية عن الحرب مع حلبه إلي العظم وتكوين ابنائها في مدارسه لافتكاك الريادة العلمية والتقنية منه. وعند الضرورة فإنها ستحارب بعد أن تكون قد استعدت لها بشروطها الحديثة. ولكن قبل ذلك هي تلهي أمريكا بحروب مع الاجوار حيث تساعدهم على اضعاف أمريكا استعدادا ليوم الفصل فلا يكونون عندها إلا ادوات مناوشة لأمريكا ومن ثم فهم أكثر استعمارا لهم من امريكا التي تحاربهم مباشرة. لذلك فمن السخف تصور فيتنام قد حاربت أمريكا أو هزمتها: إنما هي كانت أداة روسية وصينية لمشاغلة أمريكا تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى كوريا الشمالية حاليا.
وتحاول إيران الآن نفس اللعبة باستعمال العراق وافغانستان. لكن النخب الإيرانية واهمة: فما هو ممكن للصين غير ممكن لإيران لأن المسألة مسألة حجوم. الصينيون وحدوا المجال الحضاري الصيني ثم لعبوا هذه اللعبة. والإيرانيون والعرب والأتراك والبربر والأكراد الخ… يهدمون المجال الحضاري الذي يمكن أن يمدهم بالحجم المؤثر فيكون لعبهم سخافات صبيان! وكل الذين يظنون أنهم انتصروا في حروب التحرير انهزموا فعلا لأنهم لم يفكروا لحظة واحدة في طبيعة الحرب التي يخوضونها وفي شروط النصر فيها.
فيتنام سيبقي إلى الأبد في ما هو عليه من حاجة إلي أمريكا حتى في خبزه اليومي لكونه قصر الجهاد علي القتال ولم يفهم أن النصر في الحروب العصرية ليس بالجيوش وحدها. وكذلك الجزائر التي تعيد في المغرب العربي نفس الاخطاء الناصرية في المشرق بخلق كيانات قزمية تحتاج إلى حمايتها وهي لا تعلم أنها ستصبح حصان طروادة الذي يقضي على الجميع بمجرد أن يستعيض علي الحامي العربي بالحامي الأجنبي. وهذا لا يحتاج إلى توضيح أكثر. لذلك فأنت تري جل البلاد التي تدعي أنها استقلت تجري وراء الاستعمار لتعيده إليها فتفتح حدودها لكي يأتي الامريكان سواحا والفرنسيين والانكليز يتمتعون بمناخهم ويتذكرون مغامراتهم في بلادهم التي صارت مفتوحة دون قتال!
والحقيقة أن الجميع وقع في هذه الأخطاء لأنه لا يعمل بما أشار إليه القرآن الكريم عندما قدم عامل القوة العام على القوة العسكرية في آية الاستعداد الرادع فاضطروا بعد الاهمال الذي أوصلهم إلى الحال التي هم عليها إلى حلول تكون نتيجتها مساعدة للعدو لتحقيق النصر المطلق:
- ما استطعتم من قوة
- ومن رباط الخيل.
لذلك فكل الذين تصوروا أنفسهم انتصروا في حروب التحرير اكتشفوا بعد أمد قصير أن التبعية ازدادت وأن نشر ثقافة المستعمر قد تسارعت بصورة جنونية باسم تحديث غبي.
ومثال واحد يكفي لفهم ذلك. فقد بقيت فرنسا في الجزائر ما يقارب القرن والنصف وبقيت في تونس ثلاثة أرباع القرن. فلم يتفرنس من ثقافة المغرب العربي أكثر من واحد إلى خمسة في المائة ممن استعملهم الاستعمار في ادارته. لكن الدولة المزعومة وطنية بدأت فأزالت كل مقومات الوطنية واستبدلتها بما حلم الاستعمار كامل حياته أن يحققه وعجز دونه. حققه هؤلاء القلة الذين كونهم الاستعمار وترك لهم مهمة الفرنسة بشعارات تخادع الجماهير حتى اكتشفت بعد ثلاثة عقود أن ما حاربت من أجله قد قضي عليه الاستقلال أعني: الهوية واستقلال الإرادة.
ولم يسأل أحد منهم عن الفائدة من تعميم الثقافة الفرنسية لان ذلك كان هدفهم إذ لا يمكن أن يكونوا جاهلين بأن الأمم لا تتقدم بمجرد اخذ عرضيات الأمم المتقدمة والتخلي عن هوياتها واستقلال ارادتها. كما لا أظنهم لا يرون كيف أن الذي يبني حقا يستطيع أن يبعث لغة ميتة بعد ثلاثة آلاف سنة ليسهم في الإبداع العلمي والتقني (النخب اليهودية) والذي يهدم يقضي على لغة كانت إلي عهد قريب لغة العلم والفلسفة العالميتين (النخب العربية)!
إنها حرب صليبية ما في ذلك من شك. لكنها حرب صليبية من نوع فريد لا يمكن الرد عليه بنفس الرد الذي استعمله المسلمون في الحرب السابقة خاصة إذا علمنا أن جدودنا لم يربحوها كما يصور لنا الفهم الرديء للتاريخ: فلو ربحوها لما آل أمرنا إلى ما نعلم في عصر الانحطاط ولما انتقل مشعل الحضارة إلي الغرب الذي نتصور أننا هزمناه. لم يكن هدف النخب المسيحية التي قادت الحروب الصليبية احتلال الأرض العربية والبقاء فيها: فذلك لم يكن إلا الشعار التجنيدي لشعوبهم إيهاما لهم بأن الهدف تحرير الارض المقدسة. أما الهدف الحقيقي فكان محاولة القضاء على الفعالية الحية وافتكاك مشعل الابداع الحضاري من المسلمين حتى تنبعث أوروبا: وقد حققوا الهدفين. ونفس الخطة التي تطبقها أوروبا الحالية: فالهدف المعلن هو الديموقراطية والرفاهية والسلم في اوروبا لكن الهدف الحقيقي هو تحقيق الشروط التي تمكن أوروبا من استئناف دورها العالمي بعد أن قضت عليه الحربان العالميتان.
فمن يا تري ربح الحرب الصليبية في القرون الوسطي؟ ومن سيربح الحرب الحالية (والتي كان من المفروض أن تكون المبادرة لنا وأن تسمي حربا هلالية بنفس استراتيجية الحرب الصليبية الخفية التي وصفنا: أعني التحرير وافتكاك مشعل الابداع الحضاري تماما كما فعلوا لما تصدوا لنا في القرون الوسطي: استعمال العقيدة من اجل هدف سياسي حقيقي لتوحيد الامة شرطا في كل ابداع حضاري بات مستحيلا من دون حجم بشري يقاس بمليارات النفوس) فضلا عن كونها تتميز عن الحرب السابقة بالخصائص الثلاث التالية: - فهي ليست مواجهة مباشرة بين طرفين يلعبان وهما متخارجان بل إن ما يحارب به العدو من جيوش من أهل البلد أكثر مما يحارب به من جيوش غازية.
- وهي ليست حربا بين لاعبين منفردين في الركح العالمي أي انها ليست حربا رأسا برأس بيننا وبين عدو واحد بل هي حرب تتعدد فيها الاطراف فلا تعرف فيها العدو من الصديق.
- وهي أخيرا ليست حربا عسكرية بالأساس بل هي حرب تنافس على أدوات السلطان والقوة التي لا يمثل الوجه العسكري منها إلا قمة الجبل الجليدي.
حصيلة التشخيصين بحسب التجربتين
فماذا كانت حصيلة التشخيصين؟
سؤال ظل يحيرني طيلة السنوات التي عشتها في ماليزيا. وقد حاولت صياغة جوابي عليه في عدة محاولات صحفية أهمها مقالان كتبتهما لمناقشة بعض آراء الاستاذين حسنين هيكل (وخاصة في محاضراته التي أذاعتها قناة الجزيرة وصلاح المختار وخاصة في ما يكتبه حاليا عن الحرب الامريكية العراقية). آراؤهما الاستراتيجية التي ما يزالان يبنيانها على مسلمات مستمدة الحرب الاهلية العربية العربية ومن منطق قطبي الحرب الباردة اللذين غذياها أعني من منطلق خاطئ حول طبيعة اسرائيل وسر قوتها والدور الذي تؤديه في العالم الحالي.
وأول أخطائهما الاستراتيجية ظنهما مفهوم الشرق الاوسط الموسع مجرد خدعة أمريكية لمحاربة العرب ومساعدة اسرائيل لكأن اسرائيل التي صيرتها حنكة نخبها قوة عظمي تتعامل مع القوي العظمي الصاعدة معاملة الانداد لما لديها مما يمكن أن تطمع فيه (الصين والهند وأوروبا). اسرائيل ليست بحاجة إلى المساعدة أمام نخب عربية فاسدة وجامعات عربية لا يتجاوز العلم فيها مستوي الثانويات في العالم وقبائل بدوية ومافيات عسكرية تتناحر ولا يهمهما من شؤون الدنيا ولا الآخرة شيء: فهذا النوع من النخب من أفضل المساعدين للإسرائيليين. لم يفهما بعد أن ذلك تسمية دبلوماسية للجزء المفيد من العالم الإسلامي في الخطة الأمريكية، تسمية تساعد علي تجنب شعارات الحرب الحضارية والدينية لكنها تعينها في العمق ليس بدوافع دينية أو حضارية حقيقية بل لأن هذين العاملين هما العاملان الوحيدان المتبقيان للصمود أمام السيطرة الأمريكية المطلقة علي دار الاسلام، تسلحا أمريكيا بوسائل الصمود أمام الاقطاب الصاعدة والتي يمكن أن تنافسها عليها وعلي ما فيها من ثروات ومن موارد طاقة خاصة فضلا عن الموقع المتوسط بين الغرب والشرق غير الاسلامي الذي يتوقع أن يخرج منه القطبان المقبلان من خارج الغرب (الصين والهند) فضلا عن القطبين الغربيين الآخرين (روسيا وأوروبا الموحدة).
إن دار الإسلام تتناهشها كل الاقطاب الحالية والمقبلة. وأمريكا تستعد للوقت الذي يعلن فيه هذا التناهش بالقول والفعل وهو ما لن يتأخر كثيرا لان شح الطاقة وازدياد استهلاك الصين والهند والحاجة المطلقة لأوروبا أمور لا يغفل عنها إلا فاقد البصر فضلا عن البصيرة. والمسلمون ليس في طوقهم محاربة العالم كله فضلا عن كون ذلك من علامات الغباء الذي يثبت فساد الاستراتيجية التي تتوخاها الحركات الاسلامية الحالية. علينا أن ندرس رقعة الشطرنج العالمية لان تاريخنا بدأ عالميا وسيظل كذلك. ولا بد من خيارات استراتيجية واضحة تحول دون المسلمين والتحول إلى مجرد حطب المعركة بين الاقطاب الصاعدة. ويقتضي ذلك تحقيق شرطي البقاء فضلا عن استئناف الدور الكوني:
الأول أن يزيلوا علل غلبة قوة الدفع على قوة الجذب بين القوميات الإسلامية وذلك بالتخلص من الإيديولوجيات التي أخذتها الحركات القومية العنصرية وخاصة بين قوميات الإسلام الرئيسية الأولى أي العرب والفرس والترك والكرد والبربر ثم بين قومياته الموالية أي سود افريقيا والهنود والمالويين والقوقازيين والبلقانيين. فما ظل المسلمون مقدمين لما بينهم من خلافات وشقاق على ما بينهم وبين العدو المشترك من خلافات فإن أمرهم لن يعتدل. ولن يستطيعوا ربح أي حرب: ذلك ما فهمته أوروبا فقدمت شروط النصر في المستقبل على حزازات الماضي وتوحدت لكي تستعيد دورها التاريخي الكوني. وطبعا فمثلما أن اوروبا توحدت تقريبا بحسب حدودها المسيحية دون أن تبني ذلك بالضرورة على شعارات مسيحية فإننا ينبغي أن نجد شعارات تمكن من التوحيد في نفس الحدود الاسلامية دون أن تكون الشعارات بالضرورة اسلامية. وتلك هي وظيفة الخيال السياسي المبدع لو كان لنا نخب غير فاسدة.
الثاني أن يرتبوا اعداءهم بحسب فرص التغلب عليهم وبحسب درجات الخطر الذي يمثلونه كما هو شأن كل الامم التي تقودها نخب حكيمة أي بحسب ما يتصورونه مآل معركة بروز الاقطاب المقبلة. وذلك هو شرط اختيار الحليف من بين الأعداء. ففي التاريخ البشري ليس الحليف إلا العدو الذي يري من مصلحته ألا يعاديك مؤقتا لاستعمالك في حربه ضد عدو أكثر تهديدا وأخطر عليه منك. وهذه القاعدة يمكن للمسلمين أيضا أن يستعملوها في تحديد تحالفاتهم بشرط أن تكون جماعية لئلا تتحول إلى طلب حماية كما هو شأن كل الانظمة العربية الحالية: كلها تحتمي بأمريكا لكونها فرادي وكان يمكن ان تكون في عقد جنيس لعقد أوروبا معها لو اجتمعت كلمتها على الحد الأدنى من مصالح الامة الرئيسية وهي نوعان أحدهما يخص الحصانة الروحية أو حماية الثقافة الاسلامية والثاني يخص الحصانة المادية أو حماية دار الاسلام. فيمكن للمسلمين أن يستنبطوا خطة تجعلهم يحالفون من يبدو ألد الاعداء حاليا لعلمهم بحاجتهم إليه في المعارك المقبلة التي هي أخطر على المسلمين من الحرب الحالية تماما كما فعلت أمريكا عندما حالفت ستالين ضد هتلر واليابان. ذلك هو منطق التاريخ: أما أن نبقي نتباكى على الاطلال تشبثا بما فقدنا دون أن نفكر بما يمكن أن نفقد إذا واصلنا هذا السلوك الصبياني فإننا سنفقد كل شيء.
فإذا لم يفهم المسلمون تركيبة رقعة الشطرنج في شوط الحرب الجاري حاليا ولم يدركوا أنه لا معني له إلا من حيث هو معد للأشواط المقبلة وإذا لم يتوقعوا طبيعة المعارك المقبلة كما حصل للعرب عندما غفلوا عن طبيعة الصراع بين القطبين إلى ان خسر كلا الحزبين بعد فقدان الدور فإنه سيحصل لهم ما حصل للعرب الذين كانوا حطب المعركة أو أداتها بيد القطبين. فأمريكا استعملت الانظمة ذات الشعار الاسلامي لحرب الاتحاد السوفياتي. والاتحاد السوفييتي استعمل الانظمة ذات الشعار القومي لحرب أمريكا. فخرج الصفان العربيان صفري اليدين هما وما أحدثاه أعني حصاني طروادة للاقتتال الداخلي في خدمة العدو أو نوعي الارهاب اليساري المهدم لمقومات روح الامة والارهاب الديني المهدم لمقومات جسد الامة. والخوف هو أن يخرج المسلمون أصفار اليدين من المعركة الدائرة بصمت بين اقطاب العالم الاربعة الرئيسيين الذين سيتقاسمون أرضه وينتهكون عرضه: أمريكا والصين وأوروبا وروسيا فضلا عن الاقطاب الثانوية مثل قطب جنوب أمريكا وقطب شبه الجزيرة الهندية وقطب الجزر اليابانية؟
مقومات الخطاب الإسلامي ومفارقاته.
تلك هي الأوضاع كما أراها من خلال الجمع بين التجربتين اللتين حللت بعد أن عشتهما فعلا في مرحلتي حياتي المتقدمة على الهجرة والموالية لها. ومنهما استخرجت التشخيص الذي قدمت منه هنا هذه العجالة. فكيف عالجها الخطاب الإسلامي؟ ولنبدأ بتعريف المقصود بالخطاب الاسلامي. فهو يقبل الحصر بين حدين أقصي وأدني يمكن أن يكونا منطلق تعميق التحليل لفهم خصائصه:
- فأما الحد الأقصى فهو كل خطاب يتعلق بهذه الاوضاع يصدر عن منتسب إلى دار الاسلام حتي لو كان علماني التوجه. وهذا الحد أقصn كما لكنه أدني كيفا: أي أنه لا يمثل عمق المنظور الاسلامي رغم كوننا ندمج فيه كل المسلمين.
- وأما الحد الأدنى فهو حصر الخطاب الاسلامي في خطاب الحركات الاسلامية بكل أطيافها في مذهبيها الرئيسيين سنة وشيعة.. وهذا الحد أدني كما لكنه أقصي كيفا: أي أنه يمثل عمق المنظور الاسلامي رغم كوننا نستثني منه النخب العلمانية.
والواقع أن هذين الحدين متداخلان ويتحادان بالتناظر العكسي. فكل خطاب علماني اسلامي بالسلب أي أنه يتحدد أساسا بما ينفيه مما يثبته الاسلامي. وكل خطاب اسلامي علماني بالسلب إي أنه يتحدد أساسا بما ينفيه مما يثبته العلماني. فيكون كلا الخطابين سلبيا بالأساس لكونه أهم ما فيه هو مسلوب ضدّه الذي بات ندّا تمثيلا لحال الفكر الاسلامي الراهن. لذلك غلب عليهما كليهما طابع التهديم أكثر من طابع البناء: أحدهما يهدم الماضي باسم ما يتصوره مستقبلا حقا والثاني يهدم المستقبل باسم ما يتصوره ماضيا حقا.
فإذا اعتبرنا خطاب المسلمين غير الاسلامي ممثلا لحد الخطاب الأقصى أي الخطاب المعبر عن محاولات فهم أوضاع المسلمين وعلاجها دون تقيد بالمنظور الإسلامي فكيف يمكن تعريفه؟ هل هو خطاب فكر يعالج أوضاع المسلمين حقا أم هو خطاب فكر أشبه ما يكون بسلوك من لا يفهم في اصلاح السيارة التي يركبها فضلا عن ابداع بديل منها فيكتفي بتعويض القطع مستوردا إياها من دكان قطع الغيار (الذي هو سوق الفكر الغربي الماضية أي أيديولوجيات القرون الثلاثة السابقة من الأنوار إلي البوار) كلما توقفت عن الاستجابة لحاجته الملحة؟
هل يمكن عندئذ أن نسمي ذلك فكرا وهو يقتات من فضلات دكاكين قطع الغيار القديمة في الاغلب: ذلك هو شأن كل الايديولوجيات المستوردة التي هدمت أهم معالم الحضارة الاسلامية فضلا عن ثروتها المادية التي تحولت إلى هشيم عمراني لا ينتج بل يستهلك؟
وإذا اعتبرنا خطاب المسلمين الإسلامي ممثلا لحد الخطاب الأدنى أي الخطاب المعبر عن محاولات فهم أوضاع المسلمين وعلاجها بالتقيد بالمنظور الاسلامي فكيف يمكن تعريفه؟
هل هو خطاب فكر يعالج أوضاع المسلمين حقا أم هو خطاب فكر أشبه بما شبهنا به الفكر السابق ولا يختلف عنه إلا بالدكان التي يستورد منها قطع الغيار القديمة أي سوق الفكر الاسلامي الماضية: ذلك هو شأن كل التقاليد المستوردة من الماضي التي هدمت روحانية الاسلام فأعادته إلى تقاليد الجاهلية العربية والافغانية؟
كلاهما يتصور الاستجابة الحينية للحاجة الملحة لخطابه الدعائي فعلا فكريا في حين أنها ليست إلا رد فعل سطحيا ليس له من الفكر ادني ذرة. لذلك فهو خطاب مرتجل لا يماثل فعل المهندس المبني على نظريات رياضية تعالج الظاهرات الطبيعية بمقتضي قوانينها بل هو جنيس لفعل مصلحي السيارات الرعوانيين الذين تعلموا استبدال قطع الغيار السريع لفرط ما أفرطوا في افساد سيارات الحريف الوديع.
ذلك تقريبا ما يسمي خطابا عند المسلمين الحاليين سواء كانوا علمانيين أو اسلاميين: فلا يأخذنك العجب إنما هم كل من دب وهب فحمل الحطب وتدفأ بكل خشب!