سألت نفسي البارحة في الفجر سؤالا أطار النوم من عيني منذئذ إلى الآن: عندما ينتقل الصوت بين بثه وتلقيه في شكل موجات ماذا يترجمه من صوت إلى موجة بداية ثم من موجة إلى صوت غاية؟
هل هذا الانتقال بين جهاز التصويت وجهاز السمع عند الإنسان ممكن من دون نظرية علمية تصنع آلة تحقق الترجمتين هما المصدح والمذياع؟
بعبارة أوضح هل الترجمة من الصوت إلى الموجة ومن الموجة إلى الصوت تختلف عن الترجمة الإنسانية من لغة إلى لغة إذا ما استثنينا حضور الوعي بالعملية في ذهن المترجم الإنساني وغيابه في “ما يؤدي دور الذهن” في الآلة الناقلة من الصوت إلى الموجة والآلة الناقلة من الموجة إلى الصوت (تسليما بضرورة أن يوجد ما يؤدي وظيفة الذهن فيها)؟ فعندنا ترجمتان متعاكستان.
ثم لما يوجد تنصت يتلقف الموجات المبثوثة في الفضاء بين بلد وبلد كما تفعل الاستخبارات المتجسسة بعضها على بعض في المكالمات اللاسلكية فالترجمتان الآلية التي وصفت تليها الترجمة اللسانية عندما تكون المكالمات بلغة غير لغة الاستخبارات الراصدة.
فنحن أمام ما يثبت أن الإنسان قادر على ترجمة لغة الطبيعة ولغة الإنسان.
وهذا ما فاتني عندما تكلمت على الترجمة في آخر مداخلة قدمتها في معهد ابن خلدون بالدوحة.
وعلي الآن تعريف ذلك للتدارك. فيكون البحث الحالي متمما للسابق. وسأنطلق من ظاهرة أبسط وهي ظاهرة استعمال الأجهزة التي تطبق نظريات علم المناظر أو البصريات كما حاول تطويرها ابن الهيثم انطلاقا من نظريات بطليموس حتى لا ننكر دور الثاني في دور الأول كما يزعم الكثير إذ يدعون أن ابن الهيثم هو مبدع علم المناظر.
والمعلوم أن قبل إضافة نيوتن لم تكن المناظر تتجاوز تقوية البصر ليتمكن من رؤية ما لا يرى بالعين المجردة سواء بسبب صغره أو بسبب بعده وهما أصلا المكروسكوب والتليسكوب أو النظارات المقربة في المراصد الفلكية. وبفضل نيوتن بلغت إلى الترجمة التي تكلمت عليها إلى تفكيك الأشعة الضوئية والالوان فانتقلنا إلى فهم لغة الطبيعة وطرح مشكل طبيعة الضوء هل هو ذري أم موجي.
لكننا لم نر من المشكل إلا نصفه. تكلمنا على ما بين بث الصوت وتلقيه بين متكلم وسامع وحاولنا فهم الترجمتين الأولى لبداية الانتقال بين المتخاطبين والثانية لنهايته. وحاولنا القيس على نقلة الضوء في البصريات. لكن ذلك فيه توهم أن الترجمة تقع عند خروج الصوت من المتكلم ودخوله عند السامع.
وما هذا إلا نصف المشكل.
فالصوت الذي يخرج والصوت الذي يدخل كيف تحقق عند الباث وعند المتلقي؟ فهو لا يبدأ صوتا بل له بداية من طبيعة مختلفة. أليست الحبال الصوتية تترجم هواء يحركها لتحدث الصوت؟
والأذن أليست تترجم هواء يحرك مطرقة ترجعه صوتا؟ ألسنا نجد ما يشبه الأجهزة التقنية التي تكلمنا عليها في الترجمتين الأوليين من المتكلم إلى السامع. فيكون بدن الإنسان بحواسه شبه آلة مترجمة في الاتجاهين أي تترجم ما تتلقاه ثم تبثه فتشبه الآلتين الباثة والمتلقية بعسك الترتيب.
وحتى نفهم ذلك فلنعد إلى مقياسنا الأول أعني نقلة الصورة والضوء أعني الترجمة البصرية وليس نقلة الصوت في الترجمة السمعية. فلنا في الترجمة الصوتية مستويان هما ترجمة الكلام الفورية وترجمته النصية. وقد جربت النوعين.
• الأولى جربتها في ماليزيا بمناسبة “دافوس الإسلامي” الذي عقد لأول مرة في ماليزيا
• والثانية فجربتها في ترجمة النصوص الفلسفية الألمانية والانجليزية والفرنسية.
لكننا نؤجل ذلك. ونكتفي بما يحصل بعد وصول ما سيترجمه البدن بحواسه ليصبح مقولا باللغة.
فقد نتصور أن الترجمة البصرية مثلا تحصل مباشرة بمجرد ملامسة الصورة لحاسة العين. فقياسا على الترجمة الفورية السمعية نتصور أن الترجمة تحصل مباشرة بمجرد أن يلامس الصوت الأذن.
لكن حتى في هذه فالترجمة ليست مباشرة بل الفكر يستبق المتكلم ويتابعه في آن. توهم المباشرة ينتج خطأين ينتجان عن الطابع السريع الذي يجعلنا نتوهم الأمر يحدث مباشرة. لكن الترجمة التي أضفتها اليوم منسية لأننا نعتقد أن الصوت يبقى في الاتصال البعيد صوتا خلال انتقاله من الباث إلى المتلقي.
وتلك هي الظاهرة التي أريد أن اشرحها بالنسبة إلى مقياسنا أعني الرؤية البصرية. فما يلامس العين يمر بعصب البصر وهو مرور كهربائي فيصل إلى عصابين الدماغ. وكل واحد منها له عصب وأفنان كالشجرة. فيكون النقل في العصب البصري كهربائيا وبين أفنان العصبون الأول وأفنان العصبون الموالي لقاء يكون النقل كيمياويا. وهو ما يعني ترجمة كهربائية إلى كيمياوية ثم منها إلى الكهربائية ويتكرر الأمر حتى نصل إلى محل التأويل.
والترجمة في الاتجاهين من الكهربائي إلى الكيمياوي ومن الكيمياوي إلى الكهربائي تصل إلى “حيز” معين في الدماغ هو حيز التأويل الذي يعطينا الصورة التي نراها أو الصوت الذي نسمعه. فيمكن القول إن الصوت له ما يشبه هذا المسار وإن بسرعة أقل. وحينئذ نصل إلى لغز الألغاز الذي هو “الوعي” بالحصيلة بعد ترجمتها إلى ما نراه أو ما نسمعه.
وهذا ما يوصلني إلى سؤال الأسئلة في القضية أعني أول ما حيرني في فكر ابن تيمية. فأول من اعتبر الفكر الإنساني جهاز ترجمة لغوية متعددة المستويات هو-قد لا يصدقني أحد-ابن تيمية.
فهو يعتبر المعاني الكلية التي نعبر بها عما ندركه من الأشياء ليست في الشيء الذي نصفه بها بل في اللغة التي نتكلم بها عليه. وقد قاله ردا على فلسفة عصره الذين ورثوا القول بالتقويم عن أفلاطون وأرسطو.
ورث فلاسفة العرب منهما القول إن المعاني التي نصف بها الأشياء مقومة لها -إما مبشرة عند أرسطو أو بالمحاكاة عند افلاطون-بمعنى أن الصوت الذي له القرع والإيقاع مؤلف منهما. والإنسان الذي له الحيوانية والناطقية مؤلف منهما بوصفهما جواهر ثوان هما الجنس والفرق النوعي إلخ.. ابن تيمية لا يعتبر هذه المعاني مقومة للأشياء بل هي مسمية لا غير.
ولذلك فهو قد غير نهائيا نظرية اللغة ونفى المقابلة بين الحقيقي والمجازي من الدلالات لأنها كلها عبارة عن الشيء وليست مقومة لها أو حالة فيها لتكون حقيقية أو مجازية.
وشرح المعاني المجهولة عند السائل ليس هو شيئا آخر غير ترجمتها له بمعاني أخرى معلومة لديه لأن المعاني من جنس ألفاظ اللغة ومن جنس رسوم الكتابة ولا علاقة لها بمقومات ما تعبر عنه.
فحقيقة الشيء -الصوت أو الإنسان-لا نعلمها بصورة مطابقة إلا إذا علمنا كل لوازمها ولوازم لوازمها إلى غير غاية. وذلك مستحيل على الإنسان.
ومن ثم فعلم حقيقة أي شيء لا يتحقق إلا بعلم كل شيء أي بالعلم المحيط وهو علم لا يقدر عليه إلا الخالق دون سواه. ما نعلمه هو ما نحدد به الأشياء لنتكلم عليها.
وقاس ذلك على حدود قطع الأرض للفصل بينها وجعلها “معلومة” لأصحابها.
فلو عدنا إلى أمثلتنا: فنسأل عن الصورة التي نراها هل هي ما نراه من شكلها المرسوم على الورق مثلا؟
أم هي الموجات التي أوصلتها إلى عدسة العين؟
أم هي ما يمر في العصب البصري كهربائيا؟
أو في العصبون كهربائيا؟
وبين العصابين كيمياويا؟
ما هي حقيقتها؟
هذا سؤال جوابه الوحيد هو أن هذه الصفات ليست مقومة للشيء بل هي عبارتنا عما ندركه منها.
ليس هنا محل بيان رؤية ابن تيمية.
فقد خصصت له عدة بحوث -وأهمها ضميمة ترجمة موسوعة المثالية الألمانية-وهي التي لا يريد حداثيو العرب فهمها لظنهم أنه “وهابي” بل وإرهابي بمعنى أنهم يرجعون هذا الوصف لكل مفكر سابق يحيل عليهم الوهابي في حجاجه أو المجاهد في تعليل أفعاله مثلا لكأنهم هم “ديكارتيون” في كلامهم على ديكارت.
وهم أكثر حمقا حتى من هؤلاء العامة.
ما يعنيني الآن هو الوصول إلى غاية استدراكي على محاضرتي في الترجمة.
كانت مداخلتي مقابلة بين دور الترجمة في بناء الفكر من حيث هو إبداع ودورها في المثاقفة من حيث هي اطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى.
وقد قلت إن المثاقفة ضررها أكثر من نفعها. وهي تعطل تنمية الفكر ولا تنميه. وضربت مثالين من تاريخ الترجمة من اليونانية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية.
فالمسلمون والمسيحيون كانوا مدركين لأمر أساسي أكثر منا حاليا: فاقتصروا على ترجمة العلوم خاصة.
فالمثاقفة ترجمة لكل شيء ومن ثم فغايتها محو الخصوصيات الثقافية وفرض النمط الثقافي الغالب. لكنها ليست بالضرورة ما يمكن من تنمية القدرات الابداعية في الجماعة التي تتبنى هذه السياسة لأنها ستأخذ من الحضارة الغالبة قشورها التي هي أيسر أخذا ولا تصل إلى الجوهري الذي هو كوني وهو الأعسر.
والخصوصيات الثقافية هي أساليب العيش العيني بالأساس. ولا علاقة لها بالمعاني الكونية المجردة التي يبدعها الفكر والتي من دونها ليس للإنسان سلطان لا على الطبيعة ولا على التاريخ ولا خاصة على ذاته التي هي حصيلة تفاعلهما. ولهذه العلة فعرب اليوم لم يأخذوا من الغرب بالمثاقفة إلا قشوره وحداثيوهم إلا إيديولوجياته.
ولعل أفسد خطة هي البعثات التي تؤدي إلى أن الشباب أقصى ما يصل إليه ويعود به هو أيسر عادات الشعوب التي عاش فيها وليس ابداعها العلمي والتقني وثقافة العمل والكفاءة والنظام.
ولهذه العلة فجل حداثيينا “سلفيون” غربيون وليسوا علماء. ولذلك فقد اعتبرتهم كاريكاتور الحداثة مثلما أن االأصاليين هم كاريكاتور السلفية الدينية. كلاهما مقلد لأساليب العيش ولا علاقة له بإبداع من يدعي محاكاتهم ولا خاصة بثقافة العمل والانضباط. كلاهما ليس له من نموذجه إلا قشور صفاته ينتحلها ليبدو كمثاله.
يكفي أن ترى ما فعل الكاريكاتوران بالأمة في كل شي اقتصادها وثقافتها وحرياتها السياسية والقيمية.
وسأكتفي بحال النخب بأصنافهم الـخمسة.
فلآخذ أولا نخبة الإرادة أو الساسة. فهل تجد سياسي عربي يفهم أن تفتيت احياز الأمة (الجغرافيا والتاريخ وثمرة تفاعلهما أي شروط الثروة والتراث والمرجعية) هو المانع الأساسي لتحقيق شرطي السيادة أي التنمية العلمية والتقنية والتنمية الاقتصادية الاجتماعية فيفهم أن نكبة الأمة هي سايكس بيكو وأنهم بالقومية قد جعلوها محميات وتوابع أبد الدهر؟
ولآخذ ثانيا نخبة الرؤية فلاسفة كانوا أو علماء دين. هل يفهمون علة نزع الإسلام فتيل الخلافات الماورائية بأن جعل الفصل في ما يختلف أصحابها فيه مؤجلا إلى يوم الدين (البقرة 62 والمائدة 69 والحج 17)؟
هل لو فهموه كان يمكن أن يصبح تاريخ الإسلام حروبا أهلية بين الفرق الكلامية نفيا لهذا الحكم فيدعون أنهم قادرون على الفصل في ما أجله القرآن؟
ولآخذ ثالثا من ينتحلون صفة العلماء سواء في الدين أو في الدنيا لو كانوا حقا يصدقون بأن علم الإنسان محدود كما هو فعلا أي لو آمنوا بالغيب كما ينبغي لكل ذي عقل -ولم يقولوا بنظرية المعرفة المطابقة التي ورثوها عن اليونان.
هل كان يمكن أن يوجد صراع حول النظريات والفرضيات أم كان ينبغي أن يكون الحل هو ما حددته سورة العصر: الاجتهاد بالتواصي بالحق طلبا للحقيقة والجهاد بالتواصي بالصبر لتحقيق الممكن مما يقدر الإنسان على علمه علما شديد النسبية؟
ولأمر إلى أصحاب القدرة الاقتصادية-المسيطرين على شروط البقاء العضوي للإنسان-هل كانوا يختارون سياسة أخرى غير التي أوصى بها القرآن بمعنى أن يكون الاقتصادي أداة والاجتماعي غاية وليس العكس؟
فهذا العكس هو الذي أدى إلى استعباد البشر وافساد الأرض بالتلويث المناخي المادي فجعلوا شرط البقاء عين شرط الفناء.
ولأختم بالنخبة الأخيرة وهي التي تفسد المناخ الروحي للجماعات أعني نخبة الذوق التي صارت صاحبة أفسد ذوق على الأطلاق: فما يسمى بالإبداع الفني لم يعد فنا بل أصبح ترويجا للمخدرات والمسكرات والفساد الجنسي والروحي بدلا من أن يكون تهذيبا للذوق وإبداعا لما سماه ابن خلدون الانس بالعشير.
وبعد تعريف المعاني فإن ما بهرني أكثر من ذلك في علاج ابن تيمية -ومرة أخرى ما سأقوله لن يصدقه كاريكاتور الحداثة ولا خاصة كاريكاتور الاصالة-هو أنه ميز بين علم المقدرات الذهنية الذي هو الوحيد الذي يمكن أن يكون برهانيا وكونيا ومحضا -كلها مفرداته بالنص-أما علم الأعيان الطبيعية فإنها حسب رأيه لا يمكن أن تكون برهانية لحاجتها إلى التجربة والاستقراء.
وقد حصر المقدرات الذهنية في الرياضيات والمنطق أي في العلوم النظرية.
ولم يتكلم على ما يمكن أن يجانسها في العلوم العملية.
وهو ما اضطرني إلى وضع نظرية مماثلة لنظريته في المقدرات.
لكنها عملية وليست نظرية بمعنى أني أنسب إلى نظرية القيم ما ينسبه هو إلى نظرية المعرفة العلمية. فالقيم مثل المعارف بحاجة إلى مقدرات ذهنية في علوم الإنسان مثل علوم الطبيعة.
فتكون المعاني القيمية التي تحتاجها علوم الإنسان هي بدروها مقدرات ذهنية عملية في نظرية التاريخ مثلها مثل الرياضيات في نظرية الطبيعة.
ولما كانت خاصية المقدرات الذهنية النظرية ليست موجودات في الأعيان بل هي موجودات في الأذهان فكذلك تكون المقدرات الذهنية العملية في الأذهان وليست في الأعيان.
ولا يعني ذلك أنها من طبيعة نفسية بل لنسلم مؤقتا أنها مجهولة الطبيعة.
ماذا أعني بمجهولة الطبيعة؟
كل “المعاني” الرياضية لا يمكن تصورها موجودة في الأعيان لاستحالة مطابقة أي شيء لماهياتها.
وهي لا تقبل التفسير النفسي (كما بين هوسرل الذي يسميها إدراك الماهيات في المنطق والفينومنولوجيا التي ترجمتها إلى العربية ونلت عليها جائزة الشيخ زايد) لا شيء من المعاني الهندسية مثلا لها وجود عيني حتى وإن كنا نستطيع بناء أمثلة منها في الاعيان. لكنها في الحقيقة مستحيلة التعيين المطابق لمفهومها.
فمثلا لا بد من تقدير معين لشعاع الدائرة لبنائها.
وعندما احاول فإن محيط الدائرة يكون خطا دائريا ذا سمك معين.
لكن الخط الرياضي لا سمك له.
والدليل أنه لا يمكن أن أبني خطا غير مستقيم لا يماسه المماس إلا في نقطة واحدة كما يقتضي مفهوم مماس الدائرة.
وإذن فالدائرة مستحيلة البناء في الاعيان وإذا بنيت فإنها تعين تعينا ليس رياضيا إلا في الذهن بقدر محدد للشعاع مثلا. وتلك هي علة قولي “مجهولة الطبيعة”.
وكذلك بالنسبة إلى القيم.
فلا يمكن أن أعين فعليا الخير والشر والجمال والدمامة والحر والمضطر والجليل والذليل.
وهي من جنس ما حدده أرسطو في كلامه على الفضائل عندما عرفها بما لم يفهمه من يتكلمون على “الوسطية” إلى الحد الممجوج كلام الحمقى بوصفها وسطا بين تطرفين.
وأرسطو لم يقل ذلك ابدا في الاخلاق التي أسيء فهمها من المقلدين والعجلى بالفهم التقريبي.
والقرآن لما يحدد القيم بوصفها وسطا لا يعني أن الوسط يعرف سلبا بنفي التطرفين إلا بوصفهما تحريفا لمفهومه. لذلك فهو يعرفهما به بوصفهما تحريف مفهومه وبابتعادهما عن الوسط الذي هو الاستقامة ما يعني أنه يقصد بالضبط ما يقصده أرسطو عندما يعرف الوسط بين الزاوية الحادة والزاوية المنفرجة بكونه القائمة التي هي الأصل الذي يعرف الطرفان به بوصفهما الابتعاد عنه وليس فيهما شيء منه ولا هو حصيلة التوسط بينهما. فلا يمكن أن يكون الخير وسطا بين شرين أو حصيلة الحل الوسط بينهما.
فيكون الوسط والاستقامة القرآنيين مقدرين ذهنيين معياريين من جنس مفهوم الزاوية القائمة التي هي الأصل والتطرفين انحرافا عنه وليس العكس.
فهو لا يعرف بهما بل هما يعرفان به.
وهو إذن شرط العمل من جنس المقدرات الذهنية الرياضية شرط النظر.
وتلك هي علة استكمالي نظرية ابن تيمية في المقدرات العملية التي هي شرط العمل. وكل معاني الإسلام هي من هذا الجنس.
ولذلك فقد أضفت أمرا فيه مغامرة لأنه يستعمل مفهوما قرآنيا يمكن من تحديد طبيعة المقدرات الذهنية بنوعيها إذا انطلقنا من اعتبارها من طبيعة الـ”لغة” المترجمة لما ندركه من الأشياء وليست مقوماتها -ابن تيمية-فتكون في آن ذات صلة بمفهوم الفطرة وبمفهوم تعليم آدم الأسماء كلها تأهيلا للاستخلاف. فكل معاني القرآن القيمية لا توجد في أعيان عالم الشهادة وهي لا توجد إلا في الآخرة.
فتكون معاني المقدرات الذهنية النظرية ما حصل منها وما هو ممكن الحصول ومثلها معاني المقدرات الذهنية العملية ما حصل منها وما هو ممكن الحصول هما ما سماه القرآن فطرة وتعليم الأسماء كلها وهما ما به يكون الإنسان أهلا للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
وذلك ما علينا الشروع في تحقيقه.
سيقفز من يلومني على نفيي الاعجاز العلمي في القرآن بل واستحماقي كل من يقول به ليقول ها أنت صرت تقول به مثلهم. وهذا هو عين الحمق. فشتان بين القول إن الإنسان جهز بما يجعله قادرا على ابداع شرط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها وبين القول إن القرآن يتضمن ما على الإنسان ابداعه فيغنيه عن البحث علمي بحيث يمكنه الاكتفاء بتأويل نص القرآن ولكن بشرط أن يبحث غيره فيكتشف القوانين ثم هو يأتي ليقول “اوريكا” بالكذب على القرآن والزعم بأنه يتضمن كل العلوم.
ثم إن المقدرات الذهنية التي اتكلم عليها ليست علما بالأعيان -إذ كلمة جاذبية ليست نظرية الجاذبية-بل هي علم بمقدرات ذهنية مشروطة في علم الأعيان التي لا تعلم بمجرد ابداع المقدرات الذهنية بل لا بد منها لتعبر عن التجربة العلمية التي لا تحصل من دون ملاحظة الأعيان الطبيعية والتاريخية ملاحظة فعلية بأدوات تبدعها العلوم ولا تكفي فيها الحواس.
وإذن فالمقدرات الذهنية تشبه اللعبة اللغوية التي تنتج مضمونا مجردا ليس طبيعيا ولا تاريخيا. وهو من جنس لعبة الشطرنج. فهي التي تحدد معاني مجردة ليس لتعينها في مادة دخل في معناها لأن الملك والوزير والفرس والبيدق فيها يمكن أن يكون من خشب أو من حديد أو من ذهب أو حتى ورقة مكتوب عليها اسمه. فهويته هي عين تعريفه وقواعد حركته على الرقعة: وهو معنى مقدر ذهني.
لكن هذه الألعاب المقدرة ذهنيا شرط ضروري للعلم النظري وللعلم العملي. وهي ليست كافية.
لأنها تبقى رهن التجربة العلمية المجهزة بالأجهزة التي قدمت منها مثال المصدح والمذياع اللذين يترجمان الصوت إلى موجات والموجات إلى صوت أو مثل الدماغ في علاقة بالحواس التي تقوم بما يشبه ذلك.
وبذلك تكون اللغة التي يبدعها الرياضي مثلا قابلة للعبارة على الحصيلة التجريبية القابلة للتحديد الكمي والتنظيم الكيفي المحاكي لما تمدنا به التجربة العلمية.
وحينها يمكن أن نقول إن علما ما قد تحقق وهو ما يمكن أن يسمى ترجمة أمينة للأعيان بلغة الاذهان.
وقياسا على فكرة ابن تيمية في العلاقة بين المقدرات الذهنية النظرية والمعرفة الطبيعية العينية حاولت وضع فكرة في العلاقة بين المقدرات الذهنية العلمية والقيم الإنسانية العينية حتى نستطيع تأسيس علوم الإنسان كما تأسست علوم الطبيعة.
وأعتقد أن ابن خلدون قد استعمل ما يناظر هذا المعنى حتى وإن لم يصغه نظريا لأن لغته في العمران والاجتماع لا يمكن ردها إلى القول بالمقومات حتى وإن استعمل الكلمة لأن من ينفي مثله المطابقتين في النظر والعمل لا يمكن ان يقول بالمعاني المقومة بل بالمعاني المعبرة.
وقد كتب في فصل المنطق ما يفيد هذا المعنى ما جعلني اعتبره مطبقا لنظرية ابن تيمية حتى وإن لم يكن واعيا بذلك الوعي التام: فهو يعتبر نفي “الذاتيات” يحول دون المطابقتين وهي “المعاني المقومة” بالمعنى الذي ينفيه ابن تيمية.