لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله معضلة ما بعد الاخلاق
ماذا يعني عدم قدرة أي إنسان مهما ادعى الإلحاد على نفي الوظيفة التي ينسبها المؤمن إلى ما يسميه إلها سواء كان قائلا بأن للعالم نظاما أو نافيا.
فكل إنسان وخاصة المتحير الباحث عن علل لتدعيم الحادة لا يصدق نفسه لما يعتبر هذه الوظيفة محايثة في الطبيعة عامة سواء تصورها مادة أو روحا.
وأسخف المهارب هي التي نجدها في يمين الهيجلية ويسارها: الإنسان خلق الله لاستكمال ذاته (اليمين) والماوراء كله مجرد افيون يخفي حقيقة المادية.
والحصيلة هي أن كل ملحد مهما تحايل يعترف بقوة فاعلة في الوجود ولا يهم الاسم الذي يطلقه عليها والمحل الذي يحايثها فيه: تنوع تصوري لهذه القوة.
ويمكن تعريف عموم القول بالقوة الناظمة (الفلسفة اليونانية) أو الخالقة والنظامة (الاديان السماوية) بأنه وعي بالنسبة بين عالمين: مقدم وتال.
والمقدم هو الوعي بأن الموجودات لا تبدو كافية لتعليل ذاتها ووجودها يتصف بالإمكان مرتين: وجوده وكيفه لا يتصفان بالضرورة. فغيرها ممكن عقلا.
والسؤال إذن هو ما طرحناه من البداية: لماذا لا يرضى الإنسان بالأمر الواقع ويطلب مبدأ وراءه ليضفي عليه خاصية الامر الواجب ليتحرر من الإمكان؟
لماذا يعتقد الإنسان بأن للعالم نظاما من القوانين التي تصل عناصره وصلا فيه نظام عقلي ومن ثم فهو يفترض قوة عاقلة تعلل الوجود ونظامه له كعاقل.
لذلك فعندي أن الحضارات لا تختلف إلا بتصور هذه القوة. أما وجودها فلا تخلو منها حضارة إنسانية لأن كيان الإنسان نسخة من المعادلة الوجودية.
الفرق بين الحضارات ليس في وجود قوة منظمة أو خالقة ومنظمة بل في محل تحيزها: هل هي محايثة في العالم أو هي تمثل عالما متعاليا عليه “ماوراء”.
وحينئذ فالحضارات تختلف باختلاف تصورها لهذه القوة المؤسسة للوجود نظاما فحسب أو خلقا ونظاما وتأسيسا للقيم عامة لتأسيس العلم والعمل وفلسفتهما.
وهي تختلف كذلك بالمقابلة بين القائلين بمحايثة هذه القوة أو بمفارقتها للطبيعة والتاريخ خارج الإنسان أو فيه: فالأديان الطبيعية تحيثها.
وهي نوعان: ما قبل الأديان المنزلة القائلة بالمفارقة وما بعدها أي الأديان البدائية والنظريات الحديثة في فلسفة الطبيعة والتاريخ والإنسان.
وهذا النوع الثاني هي التي توصف بكونها ملحدة. لكنها في الحقيقة مجانسة للأديان الطبيعية البدائية وتفاخر بالإلحاد لمجرد كونه موضة “تحررية”.
وإذ قد بينت كذبة الإلحاد وخاصة كذبة دعوى التحرر من الماوراء بالمفارق بالماوراء المحايث حتى لو نفينا النظام وقلنا بالفوضى الخلاقة في العالم.
فتكون المعادلة الوجودية إما تامة بعناصرها الخمسة أو مبتورة لأن أحد عناصرها أدغم في عنصر آخر. لكن من يلغي الله ينتهي إلى إلغاء الإنسان.
لذلك فالإلحاد مستحيل: تلحد لتحرر ذاتك من سلطان خارجي فإذا بك تلتغي معه لأن السلطان الذي يعوضه أكثر تحكما منه: فالطبيعة لا تعترف بغير القوة.
وما يعيدني إلى قضية “الاستخلاف هل هو الحل” لمعضلة ما بعد الاخلاق التي انطلقت منها هو أن القرآن يتجاوز بها قضية مفارقة الإله ومحايثته.
وهو يضعها بمنطق القرب والبعد وبمنطق {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} وأخيرا بمفهوم “نفخنا فيه من روحنا”. وكلها بين المحايثة والمفارقة.
فهو يصور لنا الله بكونه أقرب إلينا من حبل الوريد. وما يكون بهذا القرب دون محايثة لا يتصوره العقل إذا قاس الغيب على الشاهد. لكن القرآن يمنعه.
إذن هو قرب دون محايثة رغم أنه في الشاهد لا يمكن فصله عنها. فحبل الوريد يصل سر الحياة بين البدن وجهازه المسير إنه وصل بين العضوي والروحي.
ومن يرمي إذ نرمي بشرط أن نرمي هو قوة نجاح الرماية وهو إذن ما به تكون أفعالنا فاعلة. وتلك هي معضلة المعضلات: للإنسان نزر من صفات الله الذاتية.
واستنادا إلى حيازة هذا النزر والوعي بنزريته وضعت نظرية أدلة وجود الله وكان البادئ فيها هو ديكارت استنادا على الوعي بنقص هذه الصفات لدينا.
فشرط وعينا بنقص صفاتنا وعينا بكمال هذه الصفات في غيرنا: وعيي بنقص صفاتي متلازم مع وعيي بكمالها في ما أسميه الله وهو جوهر وعيي بذاتي.
وهذا التلازم هو مفهوم الاستخلاف بوصفه تكليفا من الكامل للناقص ليحصل على بعض الكمال: في الصفات التي منها وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
وهذه الصفات الخمس هي: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. فالإنسان يعي أن له هذه الصفات وأنها كلها نسبية ومتناهية لمقارنته بكمالها.
فيكون كمالها صفات لما نسميه إلها له الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود الكاملة واللامتناهية والتي نحدس وجودها بهذا التناسب مع صفاتنا.
حدس التناسب بين حدين لا يعني العلم بالحدين أو اعتبار الحدين من طبيعة واحدة. وهو ما يحررنا من سخافة الحقيقة والمجاز. وقد بينت ذلك سابقا.
الحدان من طبيعة واحدة وبينهما نسبة ما هي هنا نسبة المتناهي إلى اللامتناهي وهي ليست نسبة كمية بل هي نسبة كيفية: اللامتناهي ليس متناهيا أكبر.
والخليفة يشبه المستخلف: الخلاف من الخلف عضويا وسياسيا. فعضويا الخلفاء هو الخلائف وهم النسل وهذه استعارة عضوية لا تليق بمن نسميه إلها.
لكن الخلافة لها دلالة سياسية: أي إن صاحب السلطان الاكبر يمكن أن يكلف غيره بوظيفة السياسة التنفيذية دون التشريعية فيقيم التنفيذ بالتشريع.
وهذا يشترط حيازة شروط نبية وغير مطلقة لأداء وظيفة التنفيذ أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود التي تعي التشريع وتستخلف لتطبيقه.
والتشريع نوعان: الطبيعي أو القوانين الرياضية والخلقي أو السنن السياسية المبينة على الإيمان والعمل الصالح فرديا وعلى التواصيين جماعيا.
وتلك الشروط هي التي سمتها سورة العصر شروط الاستثناء من الخسر: الوعي بالخسر الممكن وعدم الوقوع فيها بالأعمال الاربعة الضرورية للاستثناء منه.
فالإنسان الخليفة هو كل فرد إنساني عمل صالحا في مجموعة إنسانية تتواصى بالحق شرط العلم تتواصى بالصبر شرط الاخلاق مع شرطي أداة وشرطي غاية.
فشرطا البداية هما الإرادة والقدرة وشرطا الغاية هما الحياة والوجود. وتلك هي الصفات الخمس التي من الله بنزر منها للإنسان من حيث هو إنسان.
ومن الله عليه كذلك بالتكليف وشرطه الحرية التي تجعله يستعمل إرادته وقدرته أداتين لغايتين هما حياته ووجوده والوسيط بينهما هو العمل على علم.
والعلم على علم يمكن أن يكون به للخير وأن يكون به للشر لأن الإنسان استعمر في الأرض حتى تمتحن أهليته في للاستخلاف: فيحاسب على عمله على علم.
هذه هي نظرية الاستخلاف التي يقدمها القرآن حلا لمعضلة “مابعد الأخلاق” أي دور الكائن الحر الذي يعمل على علم إما خيرا أو شرا: حقيقة الإنسان.
المسلم يرضى بهذا الحل فيرضى عنه الله إن عمل به خيرا ولا يرضى إن عمل شرا ويبقى الباب مفتوحا للتوبة والعفو: تلك هي صورة الله عند المسلم.
وهي الصورة التي يعيبها الفكر المسيحي على الإسلام: ما يعيبه لوثر هو تحديد منزلة الإنسان عند الله بأعماله بدل التفضل الإلهي “Heilslehre”.
وما لا يفهمه علم الكلام المسيحي وخاصة الإصلاحي هو أن الله نفسه قد قال في القرآن إنه يكتب على نفسه كما يكتب على مخلوقاته سننا لا يعدوها.
وذلك هو نموذج السلطان العادل بالمعنى القرآني: فالتفاضل يكون بالتقوى أي باحترام القانون. والعدل الإلهي يجعل الله نفسه خاضعا لما وضعه من شرع.
لذلك فأي مدع للإلحاد يهرب مما يدعي طلبه: يلحد لعدم عدل في الوجود الطبيعي (الأمراض والعاهات) والتاريخي (الظلم والعدوان) ولا يسهم بدوره لمنعه.
كل الملحدين جبناء: يعلمون أن لهم دورا في وجود الشر إما مباشرة بفعله أو بصورة غير مباشرة بعدم منع فاعليه من فعله: يرفض الأمر والنهي رمز حريته.
الإلحاد والتصوف من طبيعة واحدة: كلاهما يفر من المسؤولية التي هي المشاركة الفعلية في معركة الخير والشر بتباكي الجبناء أمام الشر بدل مقاومته.
فيتبين أن معضلة ما وراء الأخلاق هي الجواب عن سؤال الاستخلاف هل هو حل مرض أم هو غير مرض. قبوله شجاعة المؤمنين ورفضه جبن الملحدين والمتصوفة.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها