معضلة ما بعد الاخلاق، هل الاستخلاف تجاوز للتمانع بين الله والانسان – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله معضلة ما بعد الاخلاق

ختمت الفصل الاول من “معضلة ما بعد الاخلاق” بسؤال هل الاستخلاف تجاوز للتمانع بين الله والإنسان؟ واعتبرت المعضلة والسؤال معا عنوان البحث.

معضلة ما بعد الأخلاق باعتبارها ناتجة عن كون منزلة الاستخلاف حلا قد لا يرضى به الإنسان لحسم التمانع بينه وبين ربه هو جوهر مسالة الإلحاد.

وكل من يرفض وضعها والتحديق فيها لم يقرأ القرآن الكريم بوصفه محاسمة أو مفاصلة   Auseinandersetzung بين الإنسان وربه يهمل كل أوصاف الإنسان فيه.

فمسألة الإلحاد ومسألة الإيمان هي هذا التأرجح في الوعي الإنساني قبولا ورفضا رضا أو عدم رضا من الإنسان بمنزلة وجودية لا يستطيع منها فكاكا.

والقرآن لا يحرم هذه المفاصلة بين الإنسان وربه بدليل أنه يستعمل عبارة دالة عن عكسها “رضي الله عنهم ورضوا عنه”. فهذا التراضي غاية المحاسمة.

والمحاسمة هي عملية روحية تجري في ضمير أي إنسان ذي روح حي يعتلج فيه سؤال منزلته الوجودية: فمجرد الوعي بالذات معضلة وجودية يستحيل فهمها وحسمها.

كلما حاولت أن أمسك بالشيء الذي أعيه عندما أعي ذاتي لا أجد جوابا. ما هذا الذي أدركه وأسميه أنا؟ ثم ما هذا الذي يدرك الذي أسميه مدرك الأنا؟

هل هما شيء واحد؟ أنا المدرَك وأنا المدرِك هل هما شيء واحد فيكون شيئين متطابقين؟ وأي شيئين هما؟ القرآني يسميني ابن آدم من تراب وإلى تراب ويصفني بأوصاف تجعلني فوق الملائكة وبأوصاف تجعلني دون الشياطين وهو يمن علي بكونه صنعني على عينه وصورني ونفخ في من روحه لكنه ينسب إلى كل ضعف.

إذا كنت صنعته فلم أستطيع ألا أكون صنيعته؟ ما الذي يجعلني في علاقة تمانع به؟ تلك هي أسئلة أي إنسان بدأ يدرك معضلة ما بعد الاخلاق طلبا لمخرج.

وبهذا المعنى فحقيقة الروحية للقرآن-بعد أن درست دلالته السياسية كاستراتيجية لتوحيد البشرية- هي هذه المسائل تشخيصا وتعليلا وتحليلا وحلولا.

القرآن علاج لمسألة ما بعد الأخلاق ومحاولة تأسيس منزلة الإنسان كخليفة. فهل ترضيه هذه المنزلة عن الله فيرضى الله عنه فينير قلبه بالإيمان؟

من لم يحيره القرآن بهذه الإشكالية لا يمكن أن يتخيل حتى مجرد التخيل ما يدور في خلد “محمد” قبل أن تنتهي المحاسمة بتصديقه أنه يتلقى كلام الله.

وحتى بعد تلقيه فهو لم يصدق نفسه واحتاج لمن يقنعه بعلامات الحال التي عاشها فكانت خديجة آية إلهية جعلت الرسول يصدق بدلالة ما تلقاه ومعناه.

ولا أحد بعده يمكن أن يخرج من معضلة ما بعد الأخلاق من دون امر مماثل يستمده من سيرة الرسول الخاتم لأن المحاسمة بقيت دون حسمها بتلق مثيل.

ولهذا العلة بالسيرة النبوية هي الشاهد الدنيوي الذي يجعل التلقي الحاسم ينتقل من تلفظ الرسول إلى لفظ القرآن: الفرق الأساس بيننا وبين الصحابة.

القرآن كان يمشي حيا بينهم ليس بنصه فحسب بل بكل أسباب التعبير باللفظ وبالتلفظ وبرديفه الجسدي للمتلفظ والتعبير الفعل من التطبيق والإنجاز.

فذلك هو الذي كان يوقظ في المتلقين للرسالة متعينة في خطاب الرسول قوله وفعله ما وراء الطبيعة والتاريخ فيصلهم كبشر بما ورائهما: الله والإنسان.

فتكتمل المعادلة الوجودية ليس كموضوع وعي خارجي بل كبنية ذاتية للوعي: يدرك الإنسان بهذه اليقظة التي حصلت في ذاته أن المعادلة هي عين كيانه.

وحينها يعلم معنى كونه مستخلفا: أي إنه أحد قطبي الوجود بما هو تواصل حي وواع بينه قطبين أحدهما خليفة مخلوق ومأمور والثاني رب خالق وآمر.

لذلك فلست أعجب من كثرة الميل إلى الإلحاد رغم أن القرآن ما يزال في متناولنا. فمعلموه ابتذلوه فنحوا منه المحاسمة وغايتها بتين الرشد من الغيّ.

ظنوها كفرا وهي الطريق الوحيدة للإيمان الصادق. فإذا كان الرسول نفسه لم تغادره المحاسمة إلى آخر آية في القرآن فكيف بمن لم يعش تجربته عيانا.

فالشك طريق اليقين المعرفي وهو طريق اليقين العقدي أيضا. فما وراء الطبيعة والتاريخ لا يتجلى إلا كيقظة روحية للإنسان بوصفه عين الوعي بالماوراء.

ما وراء الأخلاق هو عين اليقظة بان بنية الوعي الإنساني هي المعادلة الوجودية: الإنسان يطلب قوانين الطبيعة التاريخ خارجه وفي ذاته من ذاته.

فتكون ذاته خزينة القوانين للعالمين الطبيعي والتاريخي ما يعني أنه رغم كونه طبيعيا وتاريخيا فيه ما يتعالى عنهما بوصفه ما خزينة قوانينهما.

وكونه خزينة قوانينهما إما الحاصلة بالفعل فيه هو ذاته أو التي يحصلها بما لديه من قدرات طلبها ومعرفتها يمثل علامات استخلافه تكليفا وتشريفا.

فالعلاقة بين الأنا الذي يعي ذاته ويسأل عن الأنا الذي يدركه ولا يستطيع الإمساك به هي التعالي أو ماوراء الطبيعي والتاريخي فيه وفي العالم.

وهي بينة الاستخلاف: ذلك أن الخليفة لا بد وأن يكون مثل جانوس لها وجهان: التفات إلى مصدر الوجود والتفات إلى ما يرمز إليه في وجوده الذاتي.

وذلك هو الانشداد إلى عالمين: عالم الغيب مصدر وجود العالم كله (الله)وعالم الشهادة ما من الوجود يكون مصدرا لوجوده وبقائه (الطبيعة والتاريخ).

والانشداد إلى العالمين استخلاف. فلا يمكن أن يكون التوجه الثاني ذا بعد خلقي ما لم يتأسس على التوجه الأول: معاملة الطبيعة والتاريخ خلقيا.

وهو ما لا يمكن أن يحصل في دين العجل الذهبي لأن الطبيعة والتاريخ ليس لهما ماوراء بل إن ما وراءهما من جنسهما: معدن العجل وخواره للفساد والسفك.

الاستخلاف يعني الوعي بكل عناصر المعادلة الوجودية الخمسة: الله المستخلف والإنسان الخليفة والتواصل بينهما مباشرة وبتوسط والطبيعة والتاريخ.

فإذا اكتملت المعادلة بما بعد الاخلاق كان ذلك أصلا للعرفان بالجميل للقطب الخالق والآمر فيكون الاستخلاف عمارة الأرض بقيم الإسلام الإيجابية.

فإذا بترت تصبح الطبيعة والتاريخ هما الماوراء ومن ثم فالاحتكام لمنطقهما أي القوة والعنف فيكون فعل الإنسان تدميرهما بدل تعميرهما: العولمة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي