لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله معضلة ما بعد الاخلاق
في الفصل الثالث من هذه المحاولة المتعلقة بـ”معضلة ما بعد الاخلاق: هل الاستخلاف تجاوز للتمانع بين الله والإنسان؟” جوابنا الإيجابي ليس الوحيد.
لا بد من الكلام على الأجوبة السالبة في الفكر الحديثة وهي كثيرة سأكتفي بذكر أهمها وبيان أعماقها وصلتها بما سميته تمانعا بين الله والإنسان.
والتخلص من التمانع هو الذي أدى إلى موقف يمر مباشرة إلى بتر المعادلة الوجودية الاكتفاء بفلسفة تاريخ ووجود تقتصر على دور الإنسان الغني عن الله.
فيكون سؤال المعضلة وكأنه فر من التمانع بين القطبين في المعادلة والإبقاء على قطب الإنسان بعد شطب قطب الله بعبارة رد أحد العلماء على نابليون.
فقد عرض عليه تفسيرا لنظام العالم ولم يرد ذكر الله في تفسيره فسأله نابليون: أين الله في تفسيرك. فرد عليه: هذه فرضية لم أكن بحاجة إليها.
ما أخصص له هذا الفصل ليس محاولة في إثبات وجود الله فنفاته يحتاجون إلى بديل لكأنه يترك خانة خالية لا بد من ملئها وذلك هو مشكل بنية المعادلة.
المعضلة في مسألة ما بعد الأخلاق هو هذه الخانة التي توجد عند المؤمن بوجود الله والنافي لوجوده للحاجة إلى هذه الخانة. وسأقتصر على أهم النفاة.
ينقسم النفاة إلى مجموعتين آخذ مثالين من كل واحدة:
– النفي من منطلق فلسفة الوجود عامة.
– والنفي من منطلق موضوع علم معين كمجيب نابليون.
فمن فلسفة الوجود عامة مثال ملتبس هو أصحاب القول بوحدة الوجود الطبعانية (ابن عربي وسبينوزا أوضح) وأصحاب الوجودية الملحدة وهو (سارتر مثلا)..
والمثالان ينطلقان من موضوع علم معين: من نظرية التاريخ المادية (ماركس) ومن نظرية البايولوجيا التطورية (داروين) والمثال الخامس هو أصلها جميعا.
وهو المثال الأكثر التباسا وصراحة في آن: الانثروبولوجيا الجامعة بين الوجودي العام والوجودي الخاص بموضوع أحد العلوم (نيتشة وفرويد مثلا).
وهذا الصنف الاخير أصل لأنه جامع بين الطبيعي والتاريخي والوجودي العام ومن ثم فلكأن كل المواقف فروع من الموقف النيتشوي طبيعي نفسي بنيوي.
ولأبدأ بوحدة الوجود الملتبسة: فعندما يقول ابن عربي إن العالم هو عين الله. فعين ملتبسة فهو يقصد كونه هو إياه دون تصريح برد وجوده للطبيعة.
لكن يمكن أن يكون القصد عين قصد سبينوزا بمجرد قلب العلاقة ورد الطبيعة لله فيكون هو هي من حيث فاعليتها وتكون هي مجرد ظهوره: الطبيعة الطابعة.
الالتباس هو عين نوعي فهم وحدة الوجود إذ قد يكون الفهم من جنس مفهوم نفس العالم أي إن الله موجود لكنه حال في العالم وي ذروته الإنسان.
وفي كلتا الحالتين لا يوجد نفي صريح للقطب الأول الله بل هو حال في الوجود الطبيعي الذي يتبعه الوجود التاريخي. أما الوجودية الملحدة فصريحة.
لا تطرح في شكل تمانع بين الله والإنسان بل بين الماهية Essence والتعين الوجود الصائر Existence. فسارتر يقدم الثاني على الأولى حرية مطلقة.
ومعنى ذلك أن الإنسان لا ماهية له أو هي حصيلة تعينه الصائر الذي يبدعه بوصفه مطلق الحرية ومن ثم فلا وجود لخالق ومن ثم عدم ذكره حتى سلبا.
وأكثر من ذلك فحتى الطبيعة التاريخ فهما ظرف فعل هذه المطلقة ولا دور لهما في كونها ما هي ولا في صيرورتها ولا في حصيلتها إلا كمعيقين خارجيين.
وطبعا فتقديم تعين الموجود الصائر على ماهيته يعني أنه لا طبيعة له وأنه مبدع ذاته بإطلاق وطبعا فهذا كلام لا يقبله العقل وهو مراهقة تحررية.
لكن دلالته العميقة هي أن التمانع بين الله الخالق والآمر والإنسان الذي يدعي هذين الدورين حسم نهائيا في الوجودية الملحدة لصالح الإنسان.
وقد خصص ابن خلدون لظاهرة التأله التي يعتبرها ابن خلدون ملازمة للسلطتين السياسية والثقافية وتنتج عن رؤية الإنسان لنفسه ذا سلطان مطلق.
وقد سبق أن خصصت محاولة من عدة فصول لمفهوم التأليه بمعنييه المتقابلين عند ابن خلدون: التأله بمعنى التمحض للعباد والتأله بمعنى أقصى تجبر وعجب
والأمر في الحالتين الخلدونية والسارترية يتعلق بأحوال نفس ولا صلة له بأنطولوجيا الإنسان (الانثروبولوجيا الفلسفية) لتناقض مفهوم التأله.
ففي الحالتين خضوعا لإرادة الله (التمحض للعبادة) أو نفيا له ولإرادته (التجبر والعجب بالنفس) يكون الامر متعلقا بتقمص الألوهية كما في التصوف.
يبدأ عبادة وعبودية وينتهي تقمص صفقات المعبود فيصبح طغيانا وادعاء القدرة الخالقة وهي الحرية المطلقة إذ يدعي الخلق(معجزات) والأمر(التشريع).
فما يدعيه ابن عربي كخاتم أولياء (لبنة الذهب) لم يدعه خاتم الانبياء الذي لم ينسب إلى نفسه أدنى معجزة والمعجزة متلقاة وليست بطلب منه.
والحالات الثلاث (الماركسية والفرويدية والنيتشوية) كالحالات السابقة تثبت أن التحرر من المعادلة الوجودية ممتنعة على أعتى الملحدين: بترها مستحيل.
إنها نظرية تغني عن كل محاولة لإثبات وجود الله أو ما ينوبه وثنا علته تصور قاصر: قلبت المسالة بدل التدليل على وجوده أثبت استحالة الإلحاد.
وقبل الكلام في الأمثلة الثلاثة الباقية وهي من نفس الطبيعة لا بد من الإشارة إلى أمرين بخصوص ما تقدم: كلهم يقولون بنظرية المعرفة المطابقة.
أي إنهم يعتبرون تصوراتهم هي عين حقائق الموجودات التي يتصورونها فتكون كلها خاضعة لمبدأ النقد الخلدوني أي رد الوجود إلى الإدراك: علم محيط.
وإذن فهم يتصورون علمهم محيط وهو تأله ضمني المعنى الخلدوني يفيد أنهم لا يعتبرون معرفتهم نسبية وغير مطابقة لموضوعها مهما دققوها: حقيقة تألههم.
فهم ضمنيا يعتبرون ما ينسبونه للإنسان من علم محيط مغن عن إله محيط العلم: فالإنسان يؤمن بالله في المعادلة إذا درك أن علمه نسبي وليس محيطا.
فالقول بوحدة الوجود تعني أنه يوجد جوهر واحد وما عداه أحواله (سبينوزا) أو ثوابت في العدم تصبح موجود لما يحل فيها الرب (ابن عربي) لتصبح موجودة.
فتكون الثوابت في العدم هي أحوال سبينوزا والواحد فيها هو الوجود أو الجوهر أو الله. ولهذه العلة اعتبرت هذا النموذج الاول متشابه وملتبس.
نمر الآن إلى ماركس وداروين وفرويد: يردون الوجود إلى موضوع اختصاصهم: ماركس المادة وجدلها التطوري وداروين الحياة وانتخابها الطبيعي.
ففلسفة ماركس التاريخية ترد كل شيء إلى المادة فتنسب ما ينسبه المؤمن بالله إلى الله. وإذن ففي الطبيعة المطبوعة طبيعة طابعة هي حصيلة فعلها.
ولها “قدرة” خالقة غير شخصية. والقول بالإله ليس دائما قولا بكوه شخصا منفصلا عن العالم. كل القائلين بحلوله لا ينفون “الوظيفة”: أديان طبيعية.
فالقائلون بالأديان الطبيعية كجل اديان الشرق الاقصى يؤلهون قوى طبيعية سواء في الطبيعة نفسها أو في بشر مرفوعين إلى درجة الآلهة كالبوذية.
والتشيع قريب من ذلك فتأليه الأئمة ليست فكرة بعيدة عن حقيقة عقيدتهم حتى وإن كانت حيلة التقية والسعي إلى مغالطة السنة تحول دونهم والتصريح.
وهيجل لا يبتعد كثيرا عن ماركس: لأن ارواح الشعوب (والروح الأسمى الإله المسيحي) متعينة في الشعوب ولا وجود لإله منفصل عن الطبيعة والتاريخ.
وداروين وفرويد لا يختلفان في شيء بخصوص نسبة ما ينسبه المتدين للإله إلى الطبيعة العضوية والنفسية بوصفها ذاتية الفاعلية والتطور الخالق لذاته.
مفهوم الخلق الذاتي مفهوم صرح به شلنج ومثله فشت في نظرية العلم حتى يوقف التسلسل الذي ينتج عن التعليل السببي في نظرية العالم: طبيعة طابعة.
وهذا من الأسباب التي جعلت ابن خلدون في عرضه لعلم الكلام يضع مبدأ ينفي فيه فائدة التدليل على وجود الله بها تحصيل حاصل تحكمي.
فمن يتوقف عند الله بوصفه الخالق دون أن يكون مخلوقا يمكن أن يتوقف عند الطبيعة بوصفها خالقة دون أن تكون مخلوقة: يبقي على الوظيفة دون الذات.
ونيتشة لا يختلف عن هيجل وماركس وفرويد وداروين: قوة خلاقة وهي إرادة القوة في الوجود والإنسان مبدع لذاته ولعالمه مثل تصوف الوحدة المطلقة.
وأخيرا فالمشكل لا يتعلق بوظيفة القوة المبدعة التي لا يوحد من ينفيها. النفي يتعلق بتشخص الله وانفصاله عن العالم: بتر المعادلة نفي للماوراء.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها