لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله معضلة ما بعد الاخلاق
الفصل الاول
استعملت في محاولاتي الاخيرة حول الترميز ودوره مفهوما يحتاج إلى مزيد شرح: مفهوم الأحياز الذاتية أو كيان الفرد المناظر بأحيازه لأحياز الجماعة.
فالجسد هو مكان الفرد الأول والروح زمانه الاول وأثر جسده في روحه أصل تراثه أو زاده الروحي وأثر روحه في جسده أصل ثروته أو زاده المادي.
أما مرجعيته في رؤيته لذاته التي تبدو نتيجة لزاده الروحي (تراثه في ذهنه وسلوكه) وزاده المادي (ثروته في جسده وسلوكه) وهي تناظر أحياز الجماعة.
وأحياز الجماعة هي:
قسطها من المكان (جغرافيتها)
وقسطها من الزمان (تاريخها)
وحصيلة فعل1 في 2 تراثها
و2في 1 هي ثروتها.
والمرجعية أصل وحدتها
وانتساب الفرد للجماعة هو التناظر المضموني لأن التناظر الشكلي كوني: كل إنسان كيانه وعلاقة كيانه بكيان الجماعة واحد. والاختلاف مضموني.
الاختلاف المضموني:
– جغرافي: الثروات الطبيعية والمنزلة الاستراتيجية في المعمورة.
– تاريخي: علاقات الجماعات التمانعية والتنافسية حول مضمون المكان.
وقد حدد ابن خلدون هذه العلاقة التي تجمع بين كونية الشكل وخصوصية المضمون فحدد مبدأها وقسمها إلى نوعين: “اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم.
إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط قبل الحاجي والكمالي”: نحلة المعاش.
وبهذا المبدأ قسم ابن خلدون بين نوعين من العمران:
البدوي
والحضري.
وهما نواة ما سميناه في تصنيفنا مستويي الذوق غاية ومستويي العلم أداة.
وقلت بداية لأن “نحلة المعاش” لا تقتصر على سد حاجة الغذاء كما في نظرية ابن خلدون بل هي تشمل كذلك حاجة الجنس: شرطا البقاء للفرد والجماعة.
وليس من شك في أن بقاء الفرد شرط بقاء الجماعة وسد حاجة الغذاء متقدم على سد حاجة الجنس. لكنهما مترابطان لأن التكاثر شرط تحصيل نحلة العيش.
ورغم هذا الغياب فإن المبدأ الخلدوني يبقى منطلقا أكثر صوابا في تأسيس فلسفة التاريخ والسياسة من المبدأ الأفلاطوني والأرسطي كما نبين هنا.
فأفلاطون يؤسس فلسفة التاريخ والسياسة على نظرية قوى النفس الثلاث والمعادن البشرية الثلاث تقييما للأولى بالثانية: العقل والغضب والشهوة.
والأول مقامه معدن الذهب والثاني معدن الفضة والثالث القصدير. ومنها طبقات الجماعة الثلاثة ونظام الدولة. العقل حاكم والغضب حام والشهوة عامل.
نموذج الدولة الأرسطي الجماعة الأولى أو الأسرة وهي مثلثة: فيها الأب “والأم والأطفال” والعبيد. والدولة فيها الحاكم والمواطنون والعبيد.
والاقتصاد والثقافة مؤممان عند أفلاطون لكنهما خاصان عند أرسطو لأنه يرفض اشتراكية الثروة والمرأة ويبقي على النموذج الأسري سياسة واقتصادا.
ما يشترك فيه أفلاطون وأرسطو هو ما يختلفان به مع ابن خلدون وتلك هي علة ثورته التي تمثل بداية الفكر الحديث في تأسيس فلسفة التاريخ والسياسة.
فهما ينطلقان من علم النفس وهو ينطلق من شروط البقاء وكيفية تحصيلها: أي من أساليب علاج الإنسان لعلاقته بمحيطه الطبيعي والتاريخي لسد حاجاته.
وهذا بين من باب المقدمة الأول: فبعد الجغرافيا الطبيعية لتحديد شروط العيش ينتقل إلى الثقافة البدائية لعلاج معضلاتها ثم التفاعل بين الامرين.
فيدرس في نفس الباب فعل الطبيعة في جسد الإنسان وروحه وفعل جسد الإنسان ورحه في الطبيعة وما ينتج عنهما من تراث وثروة يحددان مراحل العمران.
وقسم العمران إلى نوعين كلاهما ذو مرحلتين: البدوي والحضري كلاهما ذو مرحلتين. ويوحد بينها جميعا مفهوم العمران نفسه: الاجتماع للتعاون.
والتعاون ذو هدفين: التعاون لسد حاجات الرعاية والتعاون لسد حاجات الحماية.
وهما إذن مفهومان خلدونيان رغم أنه لم يستعمل إلا مبدأ “نحلة العيش”.
وهو بنحو ما محق. فإضافة البعد الثاني من نحلة العيش أي الحماية بعد الرعاية إذ هو يعلل به وجود الوازع الخارجي أو الحكم وليس لتعليل الاجتماع.
فتكون نحلة العيش هي علة الاجتماع ونحلة الحماية هي نتيجة الاجتماع: لما يجتمع الناس يحصل العدوان المتبادل على نحلة العيش (ونحلة الجنس).
أصفت “ونحلة الجنس” حتى يكتمل المبدأ الخلدوني لأن النزاعات بين البشر لا تقتصر على الملكية بل تشمل كذلك الجنس مع ما يصبحهما من معان ومنازل.
فأما مرحلتا البداوة فهما ما يسميه بداوة العرب أي البداوة الأولى في كل شعب وليس خاصة بالعرب كعرق: بداوة الصحراء ونحلة العيش برعي الجمال.
وبداوة الزراعة وتربية المواشي. تلكما هما نحلتا عيش العمران البدوي. والثانية مستقرة ومتنامية عمرانيا فتؤسس شرط العمران الحضري: الدولة
والعمران الحضري:
نحلة العيش تجارية وصناعية مع استتباع العمران البدوي الزراعي ومربي المواشي
ترف استهلاكوي وفساد سياسي تربية وحكما
وفيها تفسد معاني الإنسانية كما وصفها وكما بين ما يفسد في الإنسان وأهمه خاصة: تحوله إلى عالة على غيره وانحطاطه أسفل سافلين بوهن روحه وبدنه.
وما يحيرني في وضع العرب والمسلمين حاليا: هو أن معاني الإنسانية فسدت فيهم دون أن يكونوا مصابين بما يفيد ضعف القوى الحيوية: شباب لا شيخوخة.
لكن الترف بالمعنى الخلدوني أي ما يقتل الحضارات روحيا وجسديا يسيطر على نخب العرب الحاكمة بحيث يصدق كلام ابن خلدون عليهم لا على الأمة كلها.
أعود إلى مفهوم أحياز كيان الفرد لمزيد شرحه: علاقة الإنسان بمحيطه الطبيعي والثقافي في الأعيان لا تكون إلا بتوسط جسده من خلال حواسه.
لكن دلالات إدراكاته الحسية ولمعاني المدركات إدراك نسبته إلى نظائر للحواس سميتها حوادس من جنس علاقة البصيرة بالبصر والمعاني توجد في الأذهان.
وما يجعل الأذهان التي هي بعدة أفراد الإنسان تتواصل لتعبر عما فيها هي ما سميته وظيفة الترميز. وإذن فلنا عالمان: الطبيعة والتاريخ وترميزهما.
لكن الطبيعة والتاريخ هما مجال الأحياز الخارجية التي تؤثر فينا ونؤثر فيها من خلال رموز العلاقتين العمودية بيننا وبينها والأفقية فيما بيننا.
والتاريخ تأثير متبادل بين أحياز الفرد (الجسد وذخيرته أو الثروة والروح وذخيرتها أو التراث والمرجعية رؤية الذات لذات) وأحياز الجماعة الخارجية.
وعندما نحلل هذا التأثير المتبادل نجد انه لا يفهم ولا يعلل من دون افتراض قطبين أحدهما وراء أحياز الوجود والثاني وراء الإضافة الحضارية.
فماوراء الطبيعة والتاريخ عالمان مجهولان هما الفعل والانفعال المتبادلان بين ما ينسب إلى الله وإلى الإنسان: تفاعل تواصلي رمزي ووجودي بينهما.
فتكتمل صورة ما سميته بالمعادلة الوجودية: الله الطبيعة التاريخ الإنسان والتواصل بين الله والإنسان تواصلا وكأنه في الوجود وفي الفعل متمانعان.
لكأن ما ينسب إلى أحدهما ينفى عن آخرهما. فيتبادلان دور الألوهية والإنسانية: لا تأليه للإنسان من دون تأنيس للإله. فهل حل الاستخلاف حل؟
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها