لا أحد ينكر أن تركيا ليست بحجم أمريكا. لكن المعارك التي تمثل منعرجات في تاريخ البشرية لا تقاس بالأحجام المادية، بل بأمرين غالبا ما تغيب عن أذهان من يكتفي بالأحكام العامة. لذلك فالكثير من هؤلاء يسخرون من اردوغان ويتصورون أنه يصطدم بعملاق قد يقضي على تركيا في لحظة ما زالت فيها هشة. والامران يتعلقان بالقوة، وبظرف فعلها. فلا أحد ينكر أن امريكا الآن هي الأقوى، ليس بالقياس إلى تركيا فحسب، بل حتى بالقياس إلى الصين، فضلا عن روسيا وأوروبا. لكن هذا الاستفراد بالقوة المتضايفة للكثير من المنافسين، يمكن أن يصبح عامل ضعف كبير لما قد يجعلهم متحالفين لسوء تعاملها معهم فرادى. فتكون المقارنة ليس بين تركيا وأمريكا منفردين، بل بين مناسبة الموقف التركي والموقف الامريكي للظرفية التاريخية في كلى البلدين وفي علاقتهما بالظرفية العالمية. فما موقف الشعب الأمريكي، والغرب عامة ونخبه، من ترومب؟ وما موقف الشعب التركي، والشرق الإسلامي عامة ونخبه، من أردوغان؟ ثم ما موقف القوى الصاعدة في العالم من التجبر الامريكي ومحاولة فرض إرادتها عليهم ومن أي مقاومة تصدر أي واحد منها ضد هذا التجبر؟ بمعنى آخر، ما موقف العالم كله من سياسة ترومب العالمية؟ وما موقفه من محاولة الصمود أمام هذا التجبر من أي واحدة منها مهما بدت ضعيفة؟
وسأبدأ بأردوغان. لا أحد ينكر أن من نجا نظامه ليس ما يصفه به أعداؤه من “دكتاتورية”، بل التجربتان الاخيرتان تثبتان أن الصامد ليس أردوغان حتى وإن كان هو قائد الصمود، بل الشعب التركي: 1. فما أفشل الانقلاب العسكري هو الشعب التركي 2. وهو الذي أفشل الحملة الاولى على العملة قبل تغيير الدستور ولا أحد ينكر أن حكام العرب الخونة ونخبهم الطبالة، لم يعد أحد من شعوبهم يحترمهم أو يسمع لهم سواء كانوا ممن يتبع الحماية الإيرانية الروسية، أو ممن يتبع الحماية الإسرائيلية الأمريكية، ما يعني أن كل الشعوب العربية في الإقليم، وحتى غير العربية-مثل الفرس-فهموا الرهان الحقيقي لمعركة تركيا.
وهذا يعني أن تركيا الان ليست تركيا الحرب العالمية الاولى. وكل ما نحتاج إليه لإثبات نتيجة المعركة المتوقعة هو مدى قدرتها على الصمود في معركة ليست من معارك المدى الطويل، ولا حتى المتوسط، بل هي من مدى المعارك ذات المدى القصير نظرا لما سنراه بخصوص قائد الحملة عليها.
ودون أن أقيس أردوغان على معركة الرسول الخاتم: من كان لا يضحك عندما يقرأ رسائل الرسول لأباطرة عصره في بداية الدولة المحمدية؟ طبعا يحق للضاحك أن يضحك لو كان المعيار هو القوة التي بالفعل وليس القوة التي بالقوة. والمعيار حينها هو من يطاول أكثر إذا تجنب المناجزة. السؤال: هل تركيا تستطيع أن: 1. تطاول أكثر من أمريكا في المنعرج العالمي الذي هو بصدد الحدوث؟ 2. وهل لقياداتها القدرة على تجنب المناجزة التي يريدها أعداؤها؟ ما معنى يطاول أكثر ويتجنب المناجزة؟ يمكن فهم ذلك إذا قسنا الأمر على نوعي الحرب، لأن المفهومين خلدونيان في نظرية الحرب. لو كانت الحرب بين تركيا وأمريكا وكأنهما في صدام مباشر بين قوتين في حرب تقليدية، لكانت النتيجة معلومة مسبقا مثل الصدام بين آنيتين فخارية وفولاذية. لكنها معركة كونية بين قوتين عالميتين صاعدة ونازلة. وتركيا بين القوة الصاعدة وأمريكا بين القوة النازلة. يكفي منع الصدام المباشر والحصري. فيصبح السؤال: هل لتركيا شرط المطاولة وتجنب المناجزة؟ أي هل لتركيا ما يكفي من شروط الصمود لإطالة المعركة وتوسيعها بحيث يمتنع على أمريكا وإسرائيل والخونة من حكام العرب ونخبهم الطبالة من جعلها حرب مناجزة؟ أم هي قادرة على المناورة وجعلها حرب مطاولة؟
نظرية ابن خلدون في حرب المطاولة استراتيجية للأضعف ماديا بالفعل والأقوى روحيا، ومن ثم الأقوى ماديا بالقوة، تجعل الأقوى ماديا بالفعل والأضعف روحيا، ومن ثم الأضعف ماديا بالقوة يسعى للمناجزة حتى يحسم بسرعة خوفا من فقدان الاستدامة، وخاصة من لا مبالاة شعبه بأوهامه. وهذه المقابلة الخلدونية تصح من باب أولى عندما لا تكون المعركة منحصرة في علاقة بين طرفين في حرب مباشرة، بل تصبح كما هي الحال الآن حربا كونية بين قوة متجبرة وقوى أخرى عديدة تنافسها وتسعى إلى أن تنال منها كل على حدة، إلى أن تأتي فرصة يصبح فيها الجميع حلفاء ضدها ولو موضوعيا فحسب. وهذه هي الظرفية التي تعمل لصالح أردوغان. فقد يكون مكر الله الخير قد أعطى لتركيا فرصة مقابلة تماما للفرصة التي أعطيت لأعدائها، الذين قبل الآن بقرن جعلوا امبراطوريات أوروبا القديمة تتحالف عليها للقضاء على دورها التاريخي في لحظة احتضار الخلافة العثمانية. ولا أدعي أن أمريكا تحتضر.
نعم أمريكا ما تزال قوية، وليست مثل الخلافة العثمانية في بداية القرن الماضي. لكن المتربصين بها اليوم أكثر ممن كان متربصا بالخلافة العثمانية. وبعضهم لا يبعدون كثيرا عن حكم أمريكا خاصة إذا بدأت أوروبا تتململ وفهمت أن المس بتركيا خطر كبير عليها بمعيين مباشر وغير مباشر. فليس استراتيجيو أوروبا بالأغبياء بحيث لا يفهمون أن انفراط عقد تركيا يعني الفوضى من حولها، وأن تحالف تركيا مع روسيا يعني خنق أوروبا نهائيا وجعلها مخيرة بين الخضوع ثانية لأمريكا وكأنها بعد الحرب الثانية مباشرة، أو التحرر نهائيا وأخذ زمام أمنها بنفسها والوصول إلى تفاهم اقليمي مستقل. وفي هذه الحالة، فإن ما بدأ يتراءى في الافق ليس الانعزالية الأمريكية الاختيارية، بل عزلها من قبل القوى الصاعدة ومنها الاستئناف الأوروبي عامة والألماني خاصة، لأن ألمانيا أكثر ارتباطا بالشرق منها بأمريكا وخاصة من حيث مصادر الطاقة والممرات إلى مجال قوتها أي الشرق الأقصى. فتكون قضية تركيا عامة وأردوغان خاصة هي قضية “تناسق الفرص”، أي كيف يكون خوض المعركة التي هي تركية متناسقا مع المعركة التي هي كونية بحيث يصبح لتركيا دور الريادة ليس في معركة تحرير الشرق الإسلامي، بل وكذلك في معركة عزل أمريكا عالميا من خلال معركة العملة.
وقد بينت في مداخلتي يوم 8 أوت في ندوة الجمعيات المدنية التركية أن الخيار في التبادل الاقتصادي ليس خيارا بين المقايضة المادية والعملة العالمية المهيمنة، وأنه في التواصل الثقافي بين الأمم ليس مخيرا بين التعبير الإشاري واللغة العالمية المهيمنة، بل توجد حلول أفضل تستعيد التنوع والحرية. ذلك ان العملة العالمية واللغة العالمية هما أداتا الاستكبار الامريكي: • الدولار • والإنجليزية. وهما سر القضاء على التنوع الحضاري واستقلال الشعوب في مجالي الحياة: • المادية (العملة والاقتصاد) • والروحية (اللغة والثقافة) وأولى خطوات التحرر هي الاستغناء عن الدولار وعن الانجليزية على الأقل بيننا. لكن الحظ ومكر الله الخير، وحتى مكر التاريخ، أراد أن يصبح ذلك مطلب كل الصاعدين أو العائدين من قوى العالم. والحل في التبادل هو الاستغناء عن الدولار دون العودة إلى المقايضة، لأن الحل الوسط هو التبادل بالعملات الذاتية للدول المتعاونة فيما بينها. في التواصل الاستغناء عن الإنجليزية.
صحيح أن الأنظمة العميلة التي بيدها التبادل المتعلق بجل الطاقة، متمسكة بالدولار والإنجليزية. لكنها لا تمثل شيئا يذكر إذ إن بضاعتها لم تعد مطلوبة من أهل الدولار والانجليزية. فمثلا من يشتري بترول العرب هو الشرق الاقصى وأوروبا وليس أمريكا. لذلك فالقرار بيد الصين والهند وأوروبا.
ومن هنا يكون أفضل عون لأردوغان هو بالذات ترومب. ذلك أنه بغبائه أهان الأوروبيين إهانته للصين ولروسيا، ومن ثم فليس أردوغان وحده في المعركة حتى وإن تغنى خونة العرب بأمانيهم، إذ ادعى أحد كلابهم وأقزامهم ممن يزعمون الدكتوراه في السياسة والتحليل الاستراتيجي أن الله نفسه نساه. ولما كان ترومب جالسا على كرسي غير ثابت وقد يأتي عليه الامبيشمنت قريبا، أو قد يرتد عليه خياره التجاري العالمي فيثور عليه من يتصور نفسه يخدمهم بالسياسة الحمائية، فإن حظوظ أردوغان كبيرة في ربح المعركة لأن شرط الصمود متوفر، وليست تركيا بهشاشة أنظمة العملاء العرب.
وأختم بسر قوة تركيا: إنها ليست دولة عادية. فشعبها استرد طموحه التاريخي بمجرد أن تصالح مع ذاته وتاريخه وهويته. لم يعد شعبا يكتفي بالعيش ليأكل أكل الأنعام أو ليخلد إلى الأرض، وهو أمر لا حظته في نخبه من جميع الحساسيات السياسية بخلاف نخب العرب الجوعى وفاقدي الطموح التاريخي. غالبيتهم في عصر العماليق يسمون المحميات التي يعيشون فيها كل أصناف الذل والمهانة والعبودية والجشع والفساد والاستبداد “دولا”. وهي ليست محميات للعمالقة فحسب، بل هي محميات لأذرعهم. فكل المحميات العربية بحكامها ونخبها الطبالة تابعة لذراعي الاستعمار العالمي: إيران وإسرائيل.
ومن مكر التاريخ أيضا أن إيران وإسرائيل لا يمكن في هذه الظرفية أن يختارا صف أمريكا. صحيح أن إيران مجبرة لاختيار صف تركيا وروسيا لأنها هي بدورها محاصرة. لكن إسرائيل؟ نعم إسرائيل لا يجهل قادتها فيها وفي العالم أن المستقبل ليس مع ترومب وأن القوى الصاعدة هي البديل.
ظرفيا إسرائيل تستفيد من أمريكا ومن ترومب، لكنها تعلم أن المستقبل بالنسبة إليها وبالنسبة إلى مصدر مددها العالمي (الصهيونية العالمية) هي مع توجه التاريخ. وهم يعلمون أن أوروبا التي تحاول العودة إلى دورها الذي فقدته بعد الحربين لا بد وأن تختار الاتجاه التاريخي الاستقبالي. وأهم شيء في ذلك هو أن الإقليم لم يعد ما توهمته أمريكا الصهيونية المسيحية -الشرق الأوسط الكبير- بل هو سيكون الشرق -الغرب الأوسطين بين قطبي العالم الغرب الاقصى (امريكا) والشرق الأقصى (الصين) حتى يكونا قطبا ذا وزن تاريخي، ما يقتضي تجاوز صراع القرون الوسطى إسلام-مسيحية.
لو كانت هذه الأحداث بعيدة المدى، لكان كلامي مجرد تخمين مثالي. لكنها أحداث بدأت تتعين في الوجود الفعلي: فأوروبا الغربية التي استعادت عافيتها، تعلم أنها إذا لم تتحرك في هذا الاتجاه ستفقد أفريقيا والشرق الأوسط وتصبح مجرد محمية أمريكية بتخويفها من الغول الروسي.