معركة الكاريكاتورين – غباوة التزهد وحماقة التفلسف

ه

حاولت أن أجمع قراءات المشهد السياسي والاجتماعي في تونس وأريد – مرة أخرى بصورة قد تعتبر شاذة- أن اثبت أن ما يبدو فيها من الأمانة في وصف قتامة الوضع وخطر أعراضه ومن تعليل بغضب الطبقات الدنيا (هستيريا قيس: الاستاذ خالد كرونة) أو بحكمة الأقدار ( العقل “الملتبس” أو المِعْوَل “الرباني” في ظاهرة قيس سعيّد لعبد الحق الزموري) قد لا يكفيان لبيان ما يجري فعلا وهما عندي شديدا السطحية لأن ما يبنيان عليه التشخيص لا يتجاوز علم النفس وعلم الاجتماع العاميين خاصة إذا استثنينا الاختراقات التي هي أهم ما يترتب على عولمة السياسة مثلها مثل الاقتصاد والثقافة وهي الرؤية التي أميل إليها لفهم ما يحدث في الإقليم دون حصرها فيها.
لكن ما يعنيني ليس بيان سطحية التشخيص والتعليل التي لا مثيل لها بدليل ما توصل إليه من استفاد منها انتخابيا من علاج يقترحه، علاجا اُعتبر البرنامج الذي يفسر هذه الاستفادة الانتخابية.
لذلك فإني لا أنوي مناقشة التشخيص ولا التعليل لأنهما عندي -بلغة منطقية-المقدم الذي لا يمكن بيان صحته أو عدمها النسبيين ما لم نستعمل امتحان التكذيب في نظرية المعرفة المبني على القاعدة المنطقية التي تقول: نقيض التالي يفيد نقيض المقدم.
فيكون بيان سطحية العلاج المقترح ناتجا عن تعليل خاطئ سببه تشخيص سطحي يكتفي بالأعراض التي بنيت على تحليل نفسي بدائي وعلى علم اجتماع رعواني يعالج القضايا وكأن تونس تعيش في جزيرة عديمة الصلة بما يجري في الإقليم وفي العالم وقادرة على علاج الأوضاع ذات العلل العالمية -مفيزة النظام بمنطق الأبيسيوقراطيا أو دين العجل-وحدها لكأنها دولة عظمى يمكن أن تفرض إراداتها ليس على ذاتها بل وعلى العالم كله كما تفعل أمريكا بمنطق دين العجل الذهبي أي بربا الأموال (الاقتصاد الأمريكي) وربا الأقوال (الثقافة الأمريكية). وهو أمر تجاوز البلاهة التي كانت كل القيادات العربية- ممن ادعوا الثورة على الأنظمة القديمة بإيدلوجيات جنيسة وبعنتريات الثورية ومثالها الأخير القذافي- منذ أكثر من قرن إلا ربع يخرفون حولها دون فهم أو روية فضلا عن الحكمة أو على الأقل ما كانوا يعيشون عليه الشعوب بالأكاذيب والعنتريات.
وإذا تبين ذلك صار بالوسع أن أعيد التشخيص والتعليل الذي يمكن من اقتراح العلاج البديل لأن المجتمعات تمرض كما يمرض أي كائن حي والعلاج يبدأ دائما بالداء الذي أنتج الموجة الأولى من الثورة والذي عاد بقوة أكبر ليولد الموجة الثانية التي من أعراضها ما يحدث حاليا أعني تجذير الثورة ضد ما يسمى بالسيستام.
ويمكن وصف هذه النقلة الكيفية بكونها فشلا للنزعة الإصلاحية التي توختها النهضة خلال السنوات الثماني التي تلت الثورة. وقد اعتبرت هذه السياسة والنهضة علة عودة القديم. لكن الحقيقة هي العكس تماما لأن من أعاد النظام القديم هم من حالوا دون العمل الإصلاحي في البنية التحتية بلغة الماركسيين وأرادوا المعركة في البنية الفوقية باسم الدفاع عن نمط المجتمع التونسي لكأن الإسلام هو الدخيل وليس ما ورثه العملاء من الاستعمار. وهي إذن نقلة تقدم بديلا بالانتقال إلى النزعة الاستئصالية لتحقيق أهداف لم تطالب بها المرحلة الاولى من الثورة لأنها لم تكن تعتبر الدولة اصلا للداء بل من يسيطر عليها فحسب.
غالب الكشوف التي ذكرت منها كشفين لأستاذين احترمهما واحترم رأيهما لكني اخالفهما لم تذكر أن الناجحين في الانتخابات يعتبران أصل الداء هو الدولة الحالية وأحدهما يريد دولة المافية صراحة والثاني يريد نفس الشيء وإن بتقية لأن الحل الذي يقترحه ينتهي إلى دولة المافية سواء كانت الدولة ثيوقراطية (إيران) أو علمانية (الماركسية والرأسمالية).
فإذا كان أصل الداء المغيب في الكشوف التي قرأتها أعني رؤية الدولة أعني الدولة الحالية أو ما بقي منها وتعويضها بتصور جديد اجتمعت فيها حسب رأيي كما سأبين خاصية الكاريكاتور التأصيلي (سعيد) والكاريكاتور التحديثي (لينين) أي في صورة سلفية للسياسة في الإسلام بوصفها تزهد القائد (صورة الرسول) وللماركسية بوصفها شعبوية العدالة الاجتماعية (صورة لينين). وإذن فعندنا كاريكاتوران:

  1. الأول من سياسة الدين: مؤسس هو الله ومطبق محمد. والكاريكاتور في هذه الحالة هو سعيد.
  2. الثاني من سياسة الفلسفة: مؤسس هو ماركس ومطبق هو لينين الروسي. والكاريكاتور في هذه الحالة هو لينين التونسي.
    والأول كاريكاتور لأنه تصور القانون يفعل من دون القوة السياسية ومن ثم فهو خارج التاريخ السياسي للإسلام الذي يريد أن يمثله برده إلى التزهد الكاذب. والثاني كاريكاتور لأنه يتصور الإيديولوجيا تفعل من دون القوة السياسية ومن ثم فهو خارج التاريخ السياسي للماركسية الذي يريد أن يمثله برده إلى شعبوية العدالة الاجتماعية الكاذبة.
    كلاهما كاريكاتور لأنه يغفل الكلام -بقصد أو بغير قصد-عن الأمرين الجوهريين في السياسة:
    • وضعية المجتمع الذي يتعامل معه ماهي وهل تطابق ما انطلق منه الإسلام وعالجه فيها بالنسبة إلى الاول ووضعية المجتمع الذي يتعالم معه وما هي وهل تطابق ما انطلق منه ماركس وعالجه. فلا يمكن أن تتعامل مع مجتمع يختلف تماما عما تعاملت معه رؤية الإسلام بحل إسلامي أو أن تتعامل مع مجتمع يختلف تماما عما تعاملت معه النظرية الماركسية بحل ماركسي.
    • وضعية القوى السياسية التي تنوي استعمالها للتحقيق التغيير الذي تنتويه لأن ما يقترحه الأول من حلول قانونية هلامية والثاني من حلول نشاطية بتحريك مكينة الفوضى الخلاقة -وقد بدأت في التعامل مع القضاء- لا بد لهما من أدوات إما دستورية للأول أو تنظيمية للثاني ومن يتجاهل ذلك لا بد أن يكون إما ساحرا أو مالكا لعصا موسى.
    عندي إذن خمس مسائل:
  3. أولا التشخيص:
    هل يمكن تشخيص ما مرت به تونس بما يقبل الرد إلى الصراع الطبقي أو بالأخلاق الدينية؟ لن أطيل في نفي الرد إلى الصراع الطبقي في درجته الأخيرة التي تقتضي ثورة بالمعنى الماركسي لأن تونس دون ذلك بكثير. فلا وجود لطبقة برجوازية لأن المافية ليست برجوازية وإن كان بعض هذه يمكن أن يكون مصدر ثروته تلك. لكن الماركسية كما هو مشهور ترفض اعتبار البرجوازية مافيوزية. وبالتالي لا وجود لطبقة عمالية للتضايف بين الطبقتين.
    ولا يمكن الكلام على ثورة إسلامية شبيهة بما حل في عصر الراشدين لأن عصر الرسالات السماوية التي تقود العمل السياسي ختم مع ختم الوحي والرسول نفسه عمل بقوانين السياسة فكان له قوة سياسية هي التي نقلت العرب والعالم من الجاهلية إلى الإسلام. وذلك هو معنى الجهاد المؤسس على الاجتهاد.
    ولا على ثورة بالمعنى الماركسي في مرحلتها المعدة لتجاوز الصراع الطبقي إلا إذا اعتبرنا الثورة التي يخطط لها هذان الدونكيشوتان هي الطبقة البرجوازية التي ما وراء البحر وتستعمل المافية التونسية. لا اعتقد أن الحمق يمكن أن يصل إلى توهمهما يسعيان لتغيير النظام العالمي بخرافات أمك سيسي.
  4. ثانيا التعليل:
    هل يمكن تعليل ذلك بالدولة عامة حتى لو لم تكن دولة إلا بالاسم لأنها محمية عديمة السيادة وليست دولة؟
    عندما يتكلمان على تغيير الدولة للإطاحة بالسيستام هما يتكلمان على الدولة عامة ويغفلان شرط كونها دولة أي السيادة. وبهذا المعنى فتونس التي يتكلمان عليها ليست دولة بل هي ما تزال محمية والكل يعلم أن المحميات التي من حجم تونس لا يمكن أن تتحرر في عصر العماليق إلا بالطريقة التي أنشأت العماليق فيه أعني ما فهمته أوروبا التي توحدت على الاقل اقتصاديا عندما فقدت امبراطورياتها وعادت إلى حجمها الذي يحول دونها والقدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين.
    والسيستام الذي يريدان الإطاحة به ليس تونسيا إلا في ظاهرة لكنه في حقيقته من أذيال السيستام العالمي. ومن ثم فما يتكلمان عليه ليس الإطاحة بالسيستام لأنه فوق طاقة تونس وطاقتهما حتى لو تمكنا من فرض التغيير بالعنف الثوري وصبر عليهم الشعب التونسي الذي عاش تجربة التعاضد وتصدى لها واسقطها بثورة كانت بداية سقوط من أرادوا إدخال الاشتراكية بحمق لا نظير له. هدفهما إذن هو الترشح لتعويص من يمثله في تونس تماما كما حصل في بداية الخمسينات عندما وقعت الانقلابات في البلاد العربية. هم إذن يترشحون ليكونوا البديل عن النخبة العميلة التي تعمل في السيستام الذي هو سيستام المافية العالمية: “تو كور”.
  5. ثالثا العلاج:
    هل يمكن تغيير الدولة إذا غابت شروط تحقيق السيادة حتى لو وجدت إرادة تحقيقها لأن للسيادة شروطا موضوعية لا يعتقد في توفرها لتونس إلا الأحمق. ولما كان الدونكيشوتان كما وصفت سواء كان ذلك بوعي منهم أو بغير وعي فإنهما يوهمان الشباب سواء كان واعيا أو غير واعي ليأمل أن المعجزات ممكنة في التاريخ من دون شروط تحقيقها الفعلية والتي حاولت وصف بعضها بإيجاز لأني خصصت لها بحوثا مطولة.
  6. رابعا امتناع العلاج:
    وجوابي السلبي الذي يثبت استحالة العلاج برؤى الكاريكاتورين بسبب فساد تعليلهما للداء يثبت أن أساس ذلك كله هو فساد التشخيص المبني على كاريكاتور من السياسة عامة ومن السياسة في الرؤية الإسلامية وفي الرؤية الماركسية. وإذن فالتشخيص في الحالتين مبني على علم نفس بدائي يفسر الغضب الشبابي وعلم اجتماع متخلف لا يستند إلى الانثروبولوجيا العضوية والانثروبولوجيا الثقافية للسلوك الإنساني.
    وهما ما عليه أبني تحليل للأزمات التاريخية الكبرى تحليلا يتأسس على الكوني والكلي وليس على الخصوصيات السخيفة لكأن مجتمعاتنا خارجة عن سنن التاريخ ومن ثم فأحوال النفس العفوية ليس هي ما يمكن استعماله لقراءة المشهد لأنها من جنس ما سخر منه أكبر مؤسسي علم الاجتماع الفلسفي أعني ريمون هارون الذي اضاف إلى قولة ماركس حول أفيون الشعوب قولة اخرى أبلغ وأعمق حول أفيون النخب وخاصة المتأثرة باليعقوبية الفرنسية.
  7. خامسا وأخيرا:
    لذلك اكتفيت هنا بالإشارة السريعة إلى حماقة التحليل الديني والتحليل الماركسي الكاريكاتورين وإعادة الكشف والتعليل والعلاج من رأس. وذلك ما سبق أن كتبت فيه ما لا يحصى من المحاولات مكتفيا هنا بذكر ثمرتها في فهم ما يعلل مواصلة العلاج الإصلاحي والتخلي عن عنتريات الكاريكاتورين اللذين خرافتهما ستنتهي مباشرة بعد المرور من القول إلى الفعل.
    ولولا ذلك لما كتبت في محاولات إصلاح حركة النهضة لتكون العمود الفقري لإعادة بناء الكيان المادي والروحي لتونس بوصفها جزءا من أمة وليس أمة وهو ما أعنيه لما أميز بين النهضة والنهوض حتى بعد أن ابتعدت عنها لما استقلت وأشرت منذ ذلك الحين إلى ما تبين الآن للجميع أنه الداء الذي قد يقضي عليها. وما انتظرت ظهور هذين الكاريكاتورين لاقتراح حلول تمكن النهضة من تجنب ما نراه يحصل فيها وحولها وهي تبدو حائرة وشبه يائسة لكأنها لا حول لها ولا قوة في حين أنها هي الوحيدة التي ما تزال قوية الروح والمشروع.
    لكن بعض قياداتها ما زالوا في غيهم يعمهون ولا يريدون لشباب الحركة أن يكون البديل منهم وخاصة بعد أن جربوا ففشلوا فشلا ذريعا في تطوير تضحياتهم تطويرا يثبت أنها كانت فعلا لوجه الله وليست لمنافع قد تنتهي إلى تغليب الخلود إلى الأرض. وبهذا أنهي كلامي لئلا أكون ملكيا أكثر من الملك.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي