لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
لو حاولنا أن نحصي الخيارات الدالة على عدم المسؤولية السياسية لدى النخب الحاكمة في تاريخنا الحديث لاستحال علينا التوقف في عدها لكثرتها.
لكن تصنيفها ممكن بيسر إذا اخترنا مبدأ واضحا يبين طبيعة الأخطاء الاستراتيجية التي تقبل العلاج لأن الكلام عليها ليس للذكرى بل للتدارك.
وحتى يكون كلامنا عادلا فينبغي ألا نتقصر على الحكام بالفعل بل لا بد من الكلام على الحكام بالقوة أي على المعارضين للحكام الساعين للحكم.
وإذن فنحن لا نقصد الحاكمين بالفعل فحسب بل أيضا الحاكمين بالقوة فنتكلم على المشترك بينهما وعلى ما يتميز به كل منهما حكما ومعارضة للحكم.
وأول مشترك بينهم هو عدم اعترافهما أحدهما بالآخر أي إن كلا منهما يريد أن يلغي الثاني بصورة مطلقة ولا يحاول مقاسمته أو تداول الحكم معه.
ومعنى ذلك أن كلا الصفين يريد التفرد بالسلطان المطلق على العباد والبلاد فيكون المشترك طلب الغنيمة لأنه لا يمكن أن يكون ذلك لوجه الله.
ومن ثم فالمشترك الأول نظرة التملك التي تجعل المتصارعين ذئبين على نعجة: الشعب نعجة لاترعى ذاتها والذئاب تتصارع عليه بوصفه فريسة مستسلمة.
وجدنا إذن طرفا ثالثا في بحثنا قبل البدء في التصنيف: الشعب المستسلم. وهو بدوره صنفان مثل الحاكمين: مع الحاكم بالفعل ومع الحاكم بالقوة.
فالصراع بين الذئاب بحاجة إلى جند ومساعدين: فيكون انقسام الحكم مناظرا لانقسام الشعب بنفس المنطق : في مصر مثلا الأمر بين لكل ذي بصيرة.
ولم ننه بعد حسبان الأطراف.فهذه الأطراف الأربعة أو الزوجين المضاعفين (حكم معارضة شعب مع الحكم وشعب مع المعارضة) لها كلها سند خارجي.
والسند الخارجي هو بدروه منقسم إلى مع الحكم بالفعل وشعبه والحكم بالقوة وشبعه.ولما كان الصراع صفريا فالمستفيد هو المحرك الخارجي للعبة.
فلنتكلم على الأخطاء الاستراتيجية التي أريد الكلام عليها من قبل صفي المعركة مكتفيا برأسيها (الحاكم بالفعل وبالقوة) لفائدة المحرك.
ما أسميه أخطاء استراتيجية هو كل ما يجعل فاعليات الصراع الداخلي محققة لغايات المحرك الخارجي الذي يستفيد منهما لإطالة حاجتهما إليه.
والمثال السوري أفضل مثال عما نتكلم عليه هنا: فكلما تقدم أحد الصفين في ربح المعركة ذهب السند إلى الصف الثاني حتى لا يتوقف الصراع.
وهذا هو الخطأ الاستراتيجي المشترك الثاني للصفين: كلاهما يعلم أن المساند لا يساند لوجه الله ويواصل الوثوق به بدل مد اليد لخصيمه الأهلي.
وهذه الخاصية فيها شيء من التراث العربي الجاهلي: ما يزال أدبنا يفاخر بأرذل صفات من هذا الجنس. ولعل أفسد مثال قصة اليوم خمر وغدا أمر.
فأكبر رموز الأبداع العربي -من أصحاب المعلقات- يلجأ للمحرك الأجنبي للثأر من أخيه العربي وهذه العادة البشعة رسخت في الوعي القبلي البدائي.
بهذا السلوك تم تهديم جل الدول العربية بمؤامرات عربية سببها ثأر الأخ من أخيه ولو بالحلف مع الشيطان ورفض أي حل صلحي و لو توسط كل الحكماء.
فلنتكلم الآن على الأنظمة القومية ثم الانظمة القبلية ثم معارضة الأنظمة القومية ثم معارضة الأنظمة القبلية ثم الهوية المشتركة نفسها.
ولا ننسى أننا أشرنا إلى المحرك الخارجي ولمن نصنفه فهو نوعان: اقليمي ودولي. والإقليمي هو إيران وإسرائيل والدولي كان السوفيات وامريكا.
وهو اليوم أمريكا وأوروبا. أما روسيا فهي ذاتها ملعوب بها رغم عنتريات بوتين الذي لا يختلف عن زعماء العرب القوميين انتفاخ أوداج كاذب.
وحتى نفهم هذه الأخطاء الاستراتيجية التي نريد أن نصنفها ونستعرضها بفتراتها التاريخية فلنذكر دوافعها التي لا صلة لها بمشاريع استراتيجية.
لا شك أن لها في الخطاب مشاريع استراتيجية لكنها في الأفعال حلي للزعامة: والمثال الأوضح في ذلك هو معمر القدافي الذي يمثل المشروع القولي.
ولا يختلف عنه عبد الناصر وصدام ومن هم دونهما عنتيرات من زعماء العرب الانقلابيين من المحيط إلى الخليج: نفخ ريح لا يصحبه فعل يغير شيء.
ويكفي أن تنظر في أطلال نظام صدام ونظام عبد الناصر: العراق ومصر ما يزالان على ما كانا عليه في كل شيء قبل تسلمهما الحكم أو دون ذلك بكثير: نافذة عرض في الدعاية والبروباغندا مع شعوب ما تزال في أحط مستويات التقدم والكرامة.
وحتى يفهم كلامي: ففي نفس التاريخ بالنسبة إلى مصر مثلا استقلت ماليزيا وكوريا الجنوبية. فمن يجد وجها للمقارنة بينهما وبين مصر فليحرر جوابا.
وإذا كان ذلك كذلك فلا بد ألا يكون كذلك بمحض الصدقة بل لا بد أن يكون قد وقع خطأ استراتيجي ما جعل الأمور كلها تسير مدبرة لا مقبلة.
وأفضل أن يكون الاستعراض من الغاية عودة إلى البداية لأن العكس من البداية الى الغاية رغم منطقيته قد لا ينير الماضي بالحاضر فلا يكون مفهوما.
وآخر خطأ استراتيجي جاء من موقف من يتصورون أنفسهم أغنياء العرب ممن يتصورونهم فقراءهم: رفض التكامل العربي وتمكين الغرب من أن يسترد مستعمراته بالاستعمار اللامباشر عن طريق الاحتلال الثقافي والاقتصادي بسبب الحاجة.
وهذا الخطأ في الحقيقة جعل من يتصورون أنفسهم أغنياء يلجأون إلى الحماية الأجنبية ضد من يتصورونهم طامعين في ما عندهم فأصبحوا يمولون استعمارهم المباشر من حيث لا يعلمون أو لعلهم يعلمون.
ولما كانت هذه الحقيقة -موقف المستحوذين على الثروة ضد الفقراء- شاملة فهي أيضا علة الاحتماء ليس من العرب الآخرين بل من شعوبهم التي لا دور لها في أي شيء لأن البلد مملوك لحكامه وليس لشعبه.
وهذه الحقيقة الثانية ليست مقصورة على اغنياء العرب بل هي على الأغنياء من العرب أي الحكام حتى في البلاد الفقيرة: كاليمن والصومال والسودان والأردن والبحرين. فالحكام فيها جميعا أغنياء لأنهم مستحوذون على الثروة.
فتكون الحصيلة: كل الشعب العربي مهما كانت ثروة القُطر الذي يعيش فيه مستبعد من كل ما يهم الشأن العام والحكام وأزلامهم بيدهم تسيير الأمور مع حاميهم وراعيهم ليديروا مرحلة الاستعمار اللامباشر.
ذلك هو المناخ الذي حصلت فيه الثورة. وكان من الطبيعي أن تبدأ الثورة في أعرق بلاد العرب من حيث اللقاء الصدامي بين الحضارتين العربية الإسلامية والغربية المسيحية: تونس فمصر فليبيا فسوريا.
لكن إرهاصات هذه الثورة المحدودة بقُطر واحد بدأت حيث بدأ الاستعمار الاستيطاني في الوطن العربي فأخمدت بسرعة قصدت ثورة الجزائر الثانية التي حاولت نقل الأمة من التحرير من الاستعمار المباشر إلى التحرر من الاستعمار غير المباشرة.
وهذه النقلة هي جوهر الثورة الحالية: العودة إلى أصل حركة التحرير والتحرر باستعادة شروط الاستقلال الروحي الحقيقي أي الوصل بين استرجاع الحرية واسترجاع الهوية.
لكن هذه النتيجة الحالية مضاعفة: فهي مرت بمحاولة منع الثورة من الانتشار والسعي لمعاملتها معاملة الثورة في الجزائر التي ظنوا أنفسهم قد قضوا عليها مع فرنسا وفرض التبعية المطلقة للمافيا العسكرية.
فكانت خطة التصدي للثورة بتمويل الثورة المضادة: تمويل الانقلاب في مصر وتعثير الثورة في سوريا ومحاولة التدخل في ليبيا بمساعدة حفتر وفي اليمن بمساعدة صالح والحوثي وفي تونس بمساعدة اليسار والنداء.
لكن الله أراد ما لم يكن في الحسبان: تسرع ملالي إيران لحاجة تمرير الاتفاقية وتسرع السيسي لحاجة تحصيل السند الإسرائيلي والغربي فضح اللعبة وجعل الخليج في مأزق لأن المطلوب صار راس الأنظمة فيه.
وعلة تسرع الملالي هي إقناع شعبه بأنه حقق الغرض من سياسته فاستعاد الامبراطورية ويمكنه أن يتخلى مؤقتا على لعبة تحدي الغرب لربح الشعوب التي قبلت استعمارها ممن يوهما بأنه يدافع عنها وعن مقدساتها ضد عدوها الذي هو حليفهم في الحقيقة.
وعلة تسرع السيسي هي حاجته لإخفاء الفضاعات التي أقدم عليها ودفع المقابل لدور إسرائيل في حمايته وهذا المقابل هو ضرب المقاومة الفلسطينية وأهل سينا وإرهاق شعبه وابتزاز الخليج.
فكانت حاجة العميلين الملالي والأنظمة العسكرية العربية الملحة العلة الأساسية لفضح الخطط وفقدان ما كانا يخفيان به عمالتهما واصبحت الأنظمة القبلية التي تحتاج أكثر منهما لإخفاء عمالتها مطلقة العراء.
نحن الآن في لحظة صار فيها جميع العملاء عراة حفاة أما الشعب الذي ثار من المحيط إلى الخليج: إنه الزلزال الذي سيأتي على كل الأدواء من عروقها.
لكن هذه النتيجة تقدمت عليها أربع مراحل أوصلت إليها سنحاول عرضها بسرعة: مرحلتان متقدمتان على نهاية الحرب الباردة أو في حقبة القطبين ومرحلتان تلتها أي في حقبة القطب الواحد.
وفي المرحلتان الأوليان كان المبرر فلسطين والمحرك الصراع بين القطبين وانقسام الأمة إلى صفين تابعين لهما في حرب بين القومية المزعومة تقدمية والإسلام المزعوم رجعيا: حرب اليمن وحرب افغانستان. أما الحرب مع إسرائيل فهي مزحة الوحدة الكاذبة.
والمرحلتان الثانيتان كان المبرر مقاومة التمدد الإيراني والمحرك سعي الولايات المتحدة لتشكيل الاقليم بصورة تبقي على تفردها بالسيطرة على ما به تتحكم في الأقطاب الصاعدة في الشرق الأقصى: حرب العراق الأولى مع إيران لحماية الخليج وحرب العراق الثانية التي نتجت عن تهديم الخليج للعراق رد جميل بعد أن دفعوه دفعا لغلطة العمر.
وحرب العراق الثالثة هي الجامعة بين كل هذه الحروب لأنها كانت من جنس ما يسمى بالتهديم التفريغي الذي يحقق ثلاث غايات: الطريق إلى حلم إيران وحلم إسرائيل باستعادة امبراطوريتيهما والهدف الأساس الذي يسعى إليه الأمريكان.
فأسقاط العراق يعني -بداية ما سمته جونداليزا بالفوضى الخلاقة- أي احداث فراغ في الإقليم -بسبب الطاقة والجيوستراتيجا- يؤدي إلى تساقطه كحبات الدومينوا لإعادة التشكيل التي يخطط لها استراتيجيو الولايات المتحدة للمحافظة على الامبراطورية الأولى.
وبذلك فالحرب الأخيرة هي الجامعة بين المراحل الأربع التي وصفنا لأنها أعدت لمرحلة لم تعد فيها الحرب حربا بين دول فحسب بل هي حرب بين دول وشعوب أخذت مصيرها بيدها وهي حرب لن تتوقف إلا بحسم تاريخي كوني هو عودة المارد العربي قاطرة للقطب الإسلامي العالمي.
ذلك أن التحدي اليوم صار عين استئناف السنة لدورها في التاريخ العالمي برهانين:
- أحدهما في الداخل الذي صار رهانا خارجيا لحسم مشكل ماضيها (التقابل سنة-شيعة بشقيه أي باطنية صليبية)
- ومع الخارج الذي صار رهانا داخليا لحسم مشكل مستقبلها (التقابل إسلام-غرب بشقيه أي علمانية ليبرالية).
والرهانان يدوران اليوم في قلب المربع الذي تلتقي فيه عواصم الخلافة السنية الأربع: المدينة المنورة ودمشق وبغداد واسطنبول.
ومصر التي لم تكن عاصمة خلافة إلا بصورة هزلية عادت إلى المرحلة الهزلية بمهرجين تاريخيين كالعادة بسبب غباوات جل نخبها الدينية والعلمانية واستبداد عسكرها وفساده.
بدأنا بحرب أهلية بشعارين خداعين وزائفين: أنظمة تدعي الدفاع عن القومية والتحديث وأنظمة تدعي الدفاع عن الإسلام والتأصيل. لكنها جميعا بسبب الطابع الكاذب للشعارين هدمت التحديث والتأصيل لاشتراكهما في الاستبداد والفساد داخليا وفي القبول بالاستضعاف والاستتباع خارجيا.
وهما في هذه الحرب الأهلية كونا مليشيات تابعة للقطبين بمنطق تبعيتهما لهما:
- فالأنظمة التي تدعي التأصيل كونت مليشيات دينية لتخريب التحديث
- والأنظمة التي تدعي التحديث كونت مليشيات علمانية لتخريب التأصيل.
وبذلك صارت الحرب الاهلية في كل قطر بين الانظمة والمليشيات المضادة لها فصار نوعا الانظمة متداخلان كل منهما مسيطر على معارض ضديده في بلاده فعم التخريب المتبادل.
لكن الثورة غيرت اللعبة فأصحبت الأنظمة على الأقل قبل المرحلة الأخيرة التي وصفنا متحالفة وكونت صف الثورة المضادة. وتبعتها مليشياتها لذلك فجل النخب التقليدية والحداثية انحازت إلى الثورة المضادة.
وإذن فالثورة مدينة للثورة المضادة بأنها وضحت اللعبة فحققت الفرز المعلوم الآن في الحرب الأهلية التي جمعت الأهداف الأربعة:
- هدفي التحرر من الاستبداد والفساد
- وهدفي التحرير من الاستضعاف والاستتباع
والجامع بينها هو حرب الاستئناف السني الذي هو الزلزال الجاري حاليا والذي سيتم فيه الحسم مع الماضي والمستقبل فتستعيد الأمة دورها الكوني بقاطرة عربية تركية سنية.
ومعنى ذلك أن اللحظة التاريخية الحالية هي علاج للقطيعة بين الخلافتين السنيتين الأولى والأخيرة القطيعة التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/