معرض الكتاب والجامعة – وظيفة المثقف والجامعي البوليسية



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



تنبيه:

هذا نص كتب أمس وكان من المفروض أن ينشر قبل يوم العيد. لكن أمرا ما حال دون النشر. ولا بأس من نشره يوم العيد. فالشباب الملتزم بشروط نجاح الثورة ينبغي أن يقرأ ما قد يجد فيه ما يفيده حتى يوم العيد لتكون الأعياد في مقبل الأيام أعياد أمة تحررت من أمراضها التي أصف بعضها ولعله أخطرها في هذا النص.

مثالان من توظيف المثقفين والجامعيين يتصورهما الكثير منهم -ربما بسبب الحاجة المادية والجاه الكاذب- تكريما وهما في الحقيقة تهوين لكرامة أي مثقف أو جامعي يحترم نفسه ويحترم ما يعنيه مفهوم المثقف والجامعي. إنه توظيفهم في خدمة إيديولوجيا النظام الحاكم بدل خدمة الدولة والمجتمع سواء كانت خدمته خارج النظام الجامعي (مثال الإشراف على معرض الكتاب) أو فيه (مثال المسؤولية الأكاديمية بمعايير غير علمية).

والمعلوم أني في حياتي الجامعية التي دامت أربعين سنة لم أقرب منهما حتى عندما توفرت فرصتان يعلم المطلعون أنهما كانتا قابلتين للإيصال إلى ما هو من جنسها أو أكثر :

  • في عهد المرحوم محمد مزالي رفضت التفرغ لبيت الحكمة ولم أنشغل إلا بقسم الترجمة.
  • وفي الجولة الأولى من الثورة -رغم أن القائمة التي كنت رئيسها حصلت على ضعف ما حصل عليه اليسار كله في كامل الجمهورية وأكثر- فضلت أن أسهم بما لا يحول دوني والمحافظة على حريتي الفكرية. ولما شعرت بأن التوفيق بين المسؤولية الرسمية والحرية الفكرية باتت ممتنعة استقلت من المجلس التأسيسي ومن الحكومة في آن.

الإشراف على معرض الكتاب

لن استغرب عجب الكثير من اختياري مثال معرض الكتاب ليكون المثال الأول. لكن الكلام في المسألة ليس كلاما في قضية تافهة. فاختيار المشرفين على معرض الكتاب رغم أنها مسؤولية ثانوية في المجتمعات السوية ذات دلالة كبيرة.

فمن المفروض أنها مسؤولية فنية خالصة لا يمكن أن يتولاها إلا من كان من كان ذا صلة مباشرة بميداني النشر والمكتبات :

  • فالأول يعلم طبيعة البضاعة المعروضة.
  • والثاني يعلم طبيعة البضاعة المطلوبة.

وهما في الحقيقة يشتركان في العلم بالغاية (الطلب) فيحددان الأداة (العرض) والمعرض هو إحدى المناسبات للقاء بين طرفي سوق الكتاب: العرض والطلب.

لكن المجتمعات غير السوية التي لا تؤمن بحرية السوق وخاصة بحرية سوق الكتاب وحرية المواطنين في اختيار ما يطلبون من مقروء (الطلب) وحرية أهل المهنة في اختيار ما يعرضون (العرض).

فنظام الحكم المستبد بالدولة يصبح وصيا على الجميع ويقوم بدلا منهم بكل هذه المهام. ولا يستطيع النظام القيام بذلك إلا بإيجاد ما يمكن تسميته بشرطة الفكر التي هي مؤسسة النهي عن المعروف والأمر بالمنكر إذا طبقنا ما يفترضه القول بحرية الفكر في مجتمع يدعي أصحابه تمثيل مكتسبات الحداثة.

تلك هي مهمة المثقف البوليس الذي تعينه الدولة للإشراف على معارض الكتاب وكل الأنشطة الثقافية بديلا من أهل المهنة التي من المفروض أن تكون دوافعهم مهنية خالصة وبمعزل عن وظيفة الشرطة الإيديولوجية في الأنظمة الاستبدادية.

هي إذن مهمة قذرة بالجوهر لأن الهدف منها غاياتان بوليسيتان في نظام بوليسي مستبد يعين من يقوم بهما ويختاره عادة ممن يشارك في الاستبداد والفساد الفكري والخلقي للطبقة الحاكمة مع التزين بتمثيل الحداثة ومكتسباتها تمثيلا يعتبره علة كافية ليكون وصيا على فكر الجماعة وذوقها:

  • المهمة الأولى وتتعلق بالبضاعة المكتوبة من خلال تطبيق مقص المراقبة على المنشورات ليمنع دخول ما لا يماشي إيديولوجية نظام الحكم البوليسي الذي يدعي الدفاع السلبي عما يسميه مكتسبات الحداثة.
  • المهمة الثانية وتعلق بالبضاعة الشفوية الموازية من خلال انتخاب الضيوف الذين يسهمون في تدعيم إيديولوجية نظام الحكم البوليسي الذي يدعي الدفاع الإيجابي عما يسميه الفكر التنويري .

وإذن فهي وظيفة مضاعفة ذات دورين متناقضين وكلاهما في خدمة نظام الحكم البوليسي سلبا وإيجابا :

  • فالدور الأول سلبي أي تحديد المرغوب عنه ويتعلق بانتخاب البضاعة المعروضة أي المنشورات فيحول دون ما يشتم منه مناقضة إيديولوجية الحكام حتى لو كان دراسات علمية جادة لمجال بحثها وتجاهل المبدأ الأساسي المتمثل في أن الفرز المعرفي عملية ذاتية للجماعة العلمية.
  • والثاني إيجابي أي تحديد المرغوب فيه ويتعلق بانتخاب المدعويين للمشاركة الشفوية في الأنظمة الموازية مدة المعرض بفتح المجال لما يؤيد إيديولوجية النظام الحاكم حتى لو كانت من أتفه ما عرف العقل البشري بسبب تجاهل نفس المبدأ الأساسي في الفرز المعرفي.

الولاء السياسي والإشراف الجامعي

قد أفهم استغراب القراء لكلامي على معرض الكتاب. لكني لن أفهم من يستغرب كلامي على خضوع الجامعة منذ نشأتها إلى الآن إلى نفس المنطق.

ومما يثبت أن الداء الذي سأصفه داء عام في كل الجامعات العربية أني مهما قلت فلن يجد من سيقرأ هذا الكلام عشر ما قاله عبد الرحمن بدوي في معاصريه من الجامعيين العرب.

وطبعا فقد لا يصدق الكثير كلامي على الجامعيين التونسيين لأن غالب المكلفين بالسلطة الجامعية منهم- ومثلهم من يختارون عادة للإشراف على المعرض- لهم خاصية عجيبة هي خاصية التقية لكأنهم كلهم من جماعة الملالي :

  • فهم في الظاهر من أكبر التحرريين والمعارضين للاستبداد والفساد ويكفي أن تسمعهم في الحوارات العامة وفي المقاهي العامة والخاصة.
  • لكنهم جميعا في ظلام الليل وفي غفلة من المعجبين بيساريتهم وثوريتهم لا يرتادون إلا مجالس الحزب الحاكم ومن خيراته يملأون جيوبهم.

وطبعا لا يمكن أن يكون ذلك خدمة بلا مقابل :

  • وهذا أيضا شبيه بما بين بلد الملالي والاستعمار الأمريكي.
  • تسمع في الأقوال شعار الموت لأمريكا وترى في الافعال حقيقة الموت لشعوب المنطقة.

لذلك فالجامعيون النافذون هم في الباطن أكثر استبدادا وفسادا من الحكام. وعلة الفرق بينة :
فالحكام مضطرون لمراعاة العين الراصدة لسلوكهم لذلك تراهم يخففون الوطأة في سلوكهم ويتظاهرون بالعفة.

ولا أحد ينكر أن أغلب عمداء الكليات ورؤساء الجامعات وحتى رؤساء الأقسام معارضون في الظاهر موالون في الباطن إلى حد كتابة التقارير في الزملاء والطلبة هذا إذا لم يكونوا أعضاء في الحزب الحاكم وحتى في قيادته أو في وحدات الخبرة لديه سواء الخبرة في الاختصاص أو في ضرب البندير.

والجامعة التونسية قد مرت بجيلين سأكتفي بوصف ما يجري في كليات الإنسانيات لظني أن الداء قد يكون أقل استفحالا بين المختصين في العلميات بسبب عسر التدجيل فيها. ومن ثم فالتواضع هو الغالب على أهلها مع الانضباط المنهجي الذي يقلل من الفوضى الفكرية :

الجيل الأول

الجيل الأول يمثله الجيل الذي تكفل بتكوين الجامعة التونسية. ومن ثم فبعضهم كانوا أساتذة لما كنت طالبا.

لكن لحسن حظي لم أكن من طلبتهم. فبعضهم لمجرد سماعي له جعلني ألغي تسجيلي الثاني في العربية ولم أبق إلا على تسجيلي الأول في الفلسفة إذ كنت أنوي الجمع بين الدراستين.
وأغلبهم على الأقل في أقسام الآداب والعلوم الإنسانية التي اعرفها من خريجي المدرسة الفرنسية : المبرزين في العربية على يد من يكادون يتكلمون بها كلاما سويا.

ومع ذلك فهم أكثر فرنسية من الفرنسيين وأشد احتقارا لكل ما هو عربي وإسلامي وجلهم يتكلم في كل شيء إلا في اختصاصه.
وليس لهم من الاستشراق إلا الخاصية الإيديولوجية الكارهة للإسلام.

وإذن فعقليتهم هي عقلية استشراقية منحطة -استشراق من دون علم-. لذلك فالجامعة قد بنيت على ما يمكن تسميته بـ”المهمة التحضيرية” التي يعتبر أصحابها ملزمين باتمام مهمة المستعمر الذي يعتبر الشعب “أنديجان” فيعاملونهم مثله معاملة الأنديجان : كنت أسمع بعضهم يعير الطلبة من غير طبقتهم بأنهم اقعار وبدو ومتخلفون.

لم يكن الهم أن تركز الجامعة على وظيفتيها : الإبداع المعرفي وسد الحاجات الإنتاجية في المجالين المادي والرمزي.

الجيل الثاني

الجيل الثاني ويمثله غلمان الجيل الأول.
واغلبهم من جيلي أو من الذي ولاه.

إنهم الجيل الذي ورث عن الجيل الأول إيديولوجية الاستشراق دون علمه مع شرط يترتب على هذا الارث والمورث :
فهم أكثر دناءة خلقية وأقل كفاءة علمية من أسيادهم مع نفس الحقد غير المفهوم على الحضارة العربية الإسلامية ومرض احتقار الذات و يتصورون أنهم بهذا يستثنون أنفسهم من موقفهم.

وظني أن هذه الخصال هي علة اختيار الجيل الأول لهم ليكونوا غلمانا لهم.
لكنهم بعد استفرادهم بالسلطة يصبحون أكثر عنجهية وأقل حياء لأن الجيل الأول على الأقل ربي في مجتمع محافظ. أما هم فأصبحوا يمثلون مجتمع التسيب ومبرريه خلطا بين مكتسبات الحضارة وأخلاق الدعارة.

ولكم في فيلسوفات الثورة المضادة وفلاسفتها أكبر الأمثلة.

وإذ إني أتكلم في المسألة بعد أن غادرت الجامعة ولعلمي بأن اغلب المطلعين على الشؤون الجامعية يعلمون مواقفي وما نالني من أجلها فإني واثق من أنه لا احد يتصور أن كلامي له علاقة بالصراع الحالي الناتج عن الصراع بين الثورة والثورة المضادة :
فهذا موقفي منذ أن تيقنت من أن الجامعة التونسية من أهم علل الفشل الذي اصاب مؤسسات الدولة التونسية لأنها تمثل التبعية المطلقة التي لا يتجاوز الاستقلال عندها استبدال الاستعمار غير المباشر بالاستعمار المباشر.

فكل من له دراسة ولو سطحية بأحوال الجامعة يعلم أن الجامعيين الذين بيدهم السلطان الجامعي وما يترتب عليه في العلاقة بمصير أهم خريجيها (نظرا إلى أن الدولة هي الموظف الأول لهم) تطلق أيديهم في المال العام وفي الأخلاق العامة وفي مصير زملائهم والطلبة ومصير دور الجامعة العلمي والعملي بصورة يبدو فيها تحكم الحكام رحيما :

  1. ففي المال العام : سلوا المسؤولين عن الساعات الزائدة والمهمات في الخارج. ولو فتح هذا الملف لكانت المحاسبة معهم من جنس ما تطالب به الثورة في محاسبة رجال الأعمال. كلهم بذروا أموال الشعب في نزواتهم.
  2. وفي الأخلاق العامة : سلوا الفاضلات من الطالبات والفضائح التي يتستر عليها العمداء ورؤساء الجامعات والليالي الحمراء التي يقضيها هؤلاء مع غلمانهم ومهراتهم وما لذلك من علاقة بالسلطة والثروة وبالمسؤوليات العليا التي جعلتهم يتباكون على سقوط نظام ابن علي.
  3. وفي مصير الزملاء : سلوا الكثير ممن حوصروا واضطهدوا واضطروا إلى الفرار بجلدهم فنجاهم ربهم فلم يشاركوا في ما لو حللناه من منطلق موقف هؤلاء الجامعيين لكان عين موقف الـ”حركيين” بالمعنى المعلوم في حرب التحرير الجزائرية : فدفاعهم عن النظام السابق وعن نظرائه في الوطن العربي يعني أنهم لو عاصروا حرب التحرير لكانوا مع الاستعمار على ثورة شعوبهم مع الحركيين. ولعله ليس من الصدفة أن غالب افكارهم تعود إلى مفكرهم الأكبر من الحركيين.
  4. وفي مصير الطلبة : سلوا ضحايا سوق الشهادات والتوظيف. فهذا المصير كان رهن ثلاثة أنواع من الابتزاز الأيديولوجي (أن يكون الطالب قوادا لهم على زملائهم) والمالي (أن يدفع من أجرته مقابل التعيين) والجنسي (وحاجة لشرحه).
  5. دور الجامعة العلمي والعملي : سلوا الترتيب العالمي وخاصة ما أضافته الجامعة من منجزات غير تضخيم البطالة الفعلية أو المقنعة. وهذا غني عن البيان. فإذا كان التدرج العلمي لا صلة له بالانتاج المعرفي بل يحكمه الولاء للنافذين الذين يصبحون هم بدورهم نافذين وذوي جاه بفضل الولاء للحاكمين فلا تسأل عن مستوى الجامعة. والدليل أن جل المتنمرين منهم صاروا أساتذة بوريقات في الجرائد أو بمقدمات هزلية.

خاتمة: تواطؤ الحكام

والسؤال هو لماذا يقبل الحكام بمثل هذه الحال؟
الجواب من جنس وضع معرض الكتاب.
لكن الحاجة الآن مضاعفة :

الحاجة الأولى:

هي الحاجة إلى دور البوليس الأكاديمي. وهي من جنس ما وصفنا في الكلام على معرض الكتاب.
فلا بد من أحد يقوم بوظيفة البوليس الإيديولوجي سلبا وإيجابا. ولا حاجة للإطالة في هذا المستوى إلا بذكر أمرين :

  • الأول هو توظيف كرسيي اليونسكو في الفلسفة وتاريخ الأديان. فهذان الكراسيان كان من المفروض أن تكون وظيفتهما دراسة الفلسفة العربية وتنميتها ودارسة القضايا الدينية في المنطقة العربية لأن الكرسيين احدثا لهذه الغاية. لكنهما في الحقيقة تحولا إلى كرسيي تبشير بما يناسب إيديولوجيا النظام في المجال الفلسفي والديني.
  • الثاني هو توظيف التعاون العلمي بين الجامعات. لست أدري ما الذي يجري في الأقسام العلمية والطبية. لكني دار بما يجري في الأقسام الأدبية والإنسانية. لعبة : أدعوك لتدعوني. ولا حصيلة تذكر في مستوى الإنتاج العلمي والدليل أنها كلها من سقط المتاع وهي بلغة المستعمر ومكتبته غنية عن ثرثرات تابعيه الأذلاء.

وطبعا فقد يظن الكثير أن في ذلك مبالغة.
والجواب هو :
إذا كان البحث العلمي ليس بلغة الوطن ولا تحدده رؤية وطنية للأوليات في سواء في الحاجات العلمية الكونية أو خاصة في الحاجات العلمية الظرفية للجماعة فهو لهو وثرثرة. وفي الإنسانيات الثانية متقدمة على الأولى لأنها هي الموجودة بالفعل بعكس الأولى الموجودة بالقوة.

الحاجة الثانية:

هي الحاجة إلى دور شاهد الزور الأكاديمي. وهذه بينة وما أظنني بحاجة لتقديم شواهد عليها :
يكفي أن تعيدوا مشاهدة ما حصل بعد الثورة وكيف شمروا عن أذرعتهم للدفاع عن مكتسبات الحداثة المزعومة بجامعة جعلوها في آخر الرتب بل وجعلوها مصدر كل متاعب الدولة لأنهم هم الذين كونوا مؤسسات أكاديمية مخادعة تخرج العاطلين.
ويكفي أن ترى بداية دفع النظام العائد مقابل ذلك النضال البطولي للمساعدة على عودته.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي