ه
كنت ولا زلت لا أفهم تكتيك من دون استراتيجيا وخاصة الحلول البدائل في الوضعيات اللامتوقعة رغم أن عمر الرئيس كان ينبغي أن يضع موته الفجائي في الحسبان حتى لو كان طبيعيا. وكل الحركات الإسلامية تكتك وليس لها استراتيجيا في أفعالها رغم أن مجرد اسمها يعني أن لها استراتيجيا تمكنها من تجاوز “إكراهات” المحلي وحتى الإقليمي إذ إن الخيار الإسلامي دولي بالجوهر لا بالعرض كما قد يتوهم الكثير أنه ناتج عن الطابع الدولي لأعدائه.
وطبعا فالإقليمي والدولي كلاهما يتعينان ويبرز دورهما في المحلي وخاصة إذا كان وضعية استثنائية في اللحظة التاريخية التي تماثل ما تعيشه تونس حاليا بسبب ما نتج عن وفاة عضوية أحيت ميتا سياسيا. فالسبسي كان شبه ميت سياسيا. وكان من أخطاء الحركة أنها شاركت في ذلك. لكن موته العضوي أحياه سياسيا أو لنقل أحي مشروع الجبهة التي كونها في البداية ضد الثورة باسم التوازن مع الترويكا أو بصورة أدق ضد الإسلاميين.
وهذا الانبعاث السياسي لخطة السبسي -وقد عرفها عندما حكى قصة التارزي التي أطلت في شرحها وباشرها بداية من حكمه سنة 11 20 ثم استأنفها بعد السنة الأولى من حكم الترويكا-لها طريقتان في تحقيق الغاية:
- إما توحيد الشقوق قبل الانتخابات لتقزيم الخصوم.
- أو بعدها إذا تعذر ذلك لسرعة الأحداث برئيس قد يكون اختاره السبسي.
والخطة ستكون تغيير الدستور لاحقا بشخصية لعله قد عينها. وهذا الأمر هو الذي غير قواعد اللعبة كلها. وطبعا فقد سقط كل ما خطط له قبله ممن ظنوا أنهم قد قتلوه سياسيا. وقد كتبت حينها بأن العملية غير شرعية وأن النهضة ما كان لها أن تشارك فيها لأنها فعل دال على قصر النظر إذ لا شيء يضمن وفاء الشاهد لهم بما وعدهم به.
وهذا هو مأزق النهضة ومأزق رئيس الحكومة. كلاهما كان يتصور أن الشقوق ستساعده على الابقاء على غالبيته حتى ولو تدنت لأن الغالبيات في السياسة نسبية بحسب الأوزان وليست مطلقة. وكانت الخطة ربما تقاسم السلطة إذا لم يحصل أحد منهما عليها كلها. وكانت الشقوق بنوعيها الحاليين تساعد على هذه الاستراتيجية.
لكن من يحسب وحده يفضل له. فهذه الحسبة كلها سقطت في الماء. كيف يمكن تخيل الخطة “ب” وهي غائبة في حسابات سابقة لعل من أبرز علاماتها ترشح شيخ النهضة للنيابية؟ طبعا لا أنوي تقديم مقترحات لعلتين: - أولا ليس لي دخل في ما يجري واعتبر نفسي محايدا في معركة غادرتها يوم قدمت استقالتي كما هو معلوم.
- وثانيا حتى لو تطوعت فلن أسمع إذ حتى بعض قيادات النهضة من ذوي “البون سنوس” لم تعد مسموعة.
وإذن فلأواصل التحليل دون مقترحات. والسؤال الجوهري هو: هل المطلوب تدارك ما فات؟ طبعا تدارك الماضي مستحيل. وإذن فالسؤال هو كيف يكون الاستعداد للمستقبل: - فهل المطلوب القبول بالأمر الواقع الذي يحدد مجرى الانتخابات والتعامل معه كما هو في غياب استراتيجية لما بعده؟
- أم إن المطلوب هو الاستعداد لما بعده؟
وهذا أمر قابل للتوقع بدقة لأن الاجماع حول النكوص إلى الماضي وحول التحالف على الإسلاميين لم يعد خافيا على البصر فضلا عن البصيرة.
لكن يبدو ألا أحد يفكر في الاستعداد لما بعده لأن الجميع أصبح يحلم بأن يكون له وجود قوي في المجلس يمكنه من المشاركة في الحكم الذي صار غاية. صحيح أن الحكم غاية في السياسة. لكن الحكم الذي هو غاية في السياسة هو الحكم الفعلي وليس وهم الحكم أو الخوف منه عندما لا يشارك فيه السياسي.
وفي هذه الحالة لا يصبح الحكم هدفا سياسيا بل هو من جنس خرافة “المحافظة على الشقف” ولو بدون صيد حتى زهيد. والعلة طبعا هي نسيان طبيعة المطلوب. فما المطلوب عند الذات وعند الخصم؟ فإذا كان المطلوب عند الذات هو تنمية الرصيد السياسي كان ما يحصل حاليا منافيا للسياسي من حيث هو سعي للحكم لأن في العجلة الندامة.
ذلك أن ما بعد الانتخابات لن يكون- بسبب ما أشرت إليه من انبعاث مشروع السبسي الذي أعلن عنه في قصة التارزي بعد موت صاحبه – إلا مشروعه. فهو الذي سيحكمها وسيحسم ما بعدها لخطأ حسابي إذا بقي الفكر مركزا على المعادلة التي تجاوزها الحدث كما قد يوحي بذلك الحديث.
فكل الأحزاب التي تدعي معارضة السبسي والشاهد والنهضة ما تزال تعمل بفرضية أن قواعد اللعبة بقيت على ما كانت عليه قبل هذا الانبعاث. لكن هذه اللعبة انتهت وإذا واصلوا العمل بمقتضاها فهم الذين سيعيدون رسميا النظام القديم وهم الذين سيحققون مشروع السبسي الذي تكلمت عليه إما خلال الانتخابات أو بعدها. وهو عين مشروع الثورة المضادة العربية وفرنسا (تذكروا خطاب ماكرون) وإسرائيل وحتى إيران.
لو كانت هذه الأحزاب-ومنها النهضة في أذهان قاعدتها وليس في تكتيك قياداتها-فاهمة لهذا التغير الجذري في قواعد اللعبة لاختارت من الآن تكوين جبهة انقاذ من هذا المشروع وذلك بالاتفاق على خطة للانتخابات بمستوييها: - الرئاسية.
- النيابية.
فكلتاهما سيكون ربحها من نصيب الثورة المضادة بسبب تفتت صفهم فضلا عن السند الاجنبي من الثورة المضادة العربية ومن التدخلات الأجنبية وخاصة من فرنسا وإسرائيل. والهدف من هذا الاستعداد المطلوب من المعارضات هو تحقيق شروط الوزن للتفاوض على ما سيتلو الانتخابات. ولا بد إذن من: - الاتفاق على مرشح أو مرشحين مشتركين في الدورة الأولى والاتحاد وراء من يمر منهما للدورة الثانية..
- ولا بد من تكوين جبهة في النيابات من الآن على الأقل بتنازل بعضهم للبعض بحسب تقدير الحظوظ في الدوائر.
فمع تبدل قواعد اللعبة لا بد من تنظيم جديد لشروط اللعب. الجماعة التي تدعي الانتساب إلى الثورة ما زالوا يخوضون معركة انتهت ولا يفهمون أن المعركة البديل لصالح الثورة وضعتهم في وضعية السبسي سابقا.
فهو حقق التوازن أولا كمعارضة ثم قلب العلاقة بمن كان يعارضهم فأصبح هو صاحب الأغلبية والحاكم. في هذه المرحلة يمكن أن تحقق الثورة المضادة استعادة نهائيا للأغلبية إما قبل الانتخابات أو بعدها وعلى من يدعون الكلام باسم الثورة أن يحققوا التوازن كمعارضة لمنع خطتها: تغيير الدستور.
وبهذا المعنى فكل الإيهام بأن النهضة تفكر في مخرج وتوحي بالجدية من خلال إطالة الحوارات الزائفة فإن المطلوب هو: - فهم أنه عليها أن “تمصمص” من المشاركة في الحكم بعد الانتخابات أيا كان الرئيس.
- وأن الواجب هو ما بعد ذلك أي تكوين جبهة معارضة لا تكون فيها وحدية حتى تحقق التوازن لمنع الكوارث القادمة.
وماذا أعني بعبارة “على النهضة أن تمصمص من الحكم”؟
لا أعني أنها قد لا تشارك فيه. فقد يكون الرئيس المقبل شديد الذكاء فيواصل سياسة السبسي فيستعملها لتمرير كل ما يريد مما يتنافى ليس مع مرجعيتها فحسب بل وكذلك مع الثورة. فيأكل المشوي بأصابع قيادات النهضة المستعجلين الذين يتوهمون أنهم يشاركون في الحكم وهم في الحقيقة أداة لحكم من يسعى لقتل المشروع الذي تمثله فيقتلعها بالتدريج من الجذور. ذلك أن السبسي حقق نصف هذه الخطة. والذي سيليه سيواصلها بجعلها: - تتنكر لقيم مرجعيتها السياسية أي البعد الاجتماعي خاصة وذلك بقبول منطق البنك الدولي والمافية الاقتصادية في البلاد.
- وهو في آن التنكر لأهداف الثورة. لأن الرئيس القادم سيلغي ما وضع في النصوص باسم هذين العنوانين بدأ بتغيير الدستور.
والامتحان الأول سيكون تمرير نص المواريث والحقوق الفردية. وبذلك فالنهضة ستصح “زنطة” أمام قاعدتها. ويكون مصير المشروع نفسه رهن مصير قيادات لا تنظر لما هو أبعد من أنفها. ولأختم بجملة: وجود النهضة في المعارضة يحمي القيادات أكثر من وجودهم في الحكم فالثورة المضادة ستحافظ على الشكليات
كلامي هذا ليس نصائح لأحد. لكنه هو ما يؤدي إليه التحليل بالعقل السليم. فالسياسة ليست “دقازة” بل هي فن يخضع لمنطق التحليل للاستنتاج الشرطي. إذا انطلقنا من مقدم دقيق فسنصل إلى تال دقيق.
والمعلوم أن الفكر العلمي لا ينتهج هذا المنهج حتى في السياسة: الشرط الجديد هو انبعاث مشروع السبسي.
وما قلته للنهضة يصح على الشاهد. فلن يقبل به قائدا للمشروع بل سيزل وزنه في بورصة السياسة محليا واقليميا ودوليا. ولعل السبسي قد عين القائد البديل. فلكأن السبسي يحقق “الروفنش” وهو ميت ما عجز عنه وهو حي. والعلة هي تسرع الصفين عندما ظنوه قد مات سياسيا. فإذا بموته العضوي يبعث مشروعه السياسي بصورة تغير كل قواعد اللعبة لمن يستقرأ صورة الساسة في الرأي العام.
فإذا كان كل من هب ودب يرى في نفسه الكفاءة لقيادة البلاد فليس لذلك من هدف لدى المخططين لعودة النظام القديم الرسمية إلا “تعييف” الشعب من الساسة والسياسة واعتبار ما تقدم -ومن هنا تمجيد السبسي-الحالة المثالية التي ينبغي استعادتها مخرجا لما يعاني منه الشعب وتحميل المسؤولية للثورة: وقد نجحوا.
فإذا كان الحرص على المشاركة في الحكم هو الخوف من “التمصير” فهذا ليس عذرا كافيا لسبب بسيط. فمشروع السبسي لم يختر غيره. لكنه أذكى من السيسي. فقد أراده على نار هادئة بالطريقة اللطيفة “الا دوس” أي إنه أراد من قيادات النهضة أن يقضوا على مشروع الحركة بدلا منه. وقد نجح إلى حد كبير بسبب هذا الخوف وربما بسبب الطمع في الحكم. والخوف مشروع بسبب التجربة المرة لكن الطمع في الحكم ليس مشروعا خاصة بالطريقة التي رأيتها والتي جعلتني أندم على ما أضعته من وقتي.
لكن من سيأتي بعد الانتخابات سيحاول اتمام خطة السبسي إذا كان له شيء من ذكائه. فإذا تعذر ذلك فسيمصرها. ولذلك فمن الحكمة قلب القاعدة. فهم بحاجة لاحترام الشكليات نظرا إلى أن اعرافهم في الغرب يريدون ذلك. ومن ثم فالوجود في المعارضة أضمن من الوجود الصورة في الحكم لأن هذا الوجود لا يمثل أدنى مناعة ضد تلفيق التهم