لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمشروع بحث
طال التمهيد أكثر مما ينبغي لذلك فسأختمه بالعودة إلى الإشكال الابستيمولوجي (نظرية العلم في النظر) والأكسيولوجي (نظرية القيمة في العمل) من خلال العلاقة بين المقدرات الذهنية بصنفيها اللذين سمينا النظري منها رياضيات والعملي سياسيات انطلاقا من مضاعفة موضوعات علم اللسان.
انطلق البحث من ملاحظة عميقة حول أبعاد علم اللسان الثلاثة التي هي أبعاد مضاعفة: الدلالي يضاعفه المعنوي من خلال الفرق بين الدلالة Die Bedeutung والمعنى Der Sinn وهو فرق جوهري يعلمه المناطقة وقياسا عليه ميزنا بين تداوليتين عامة هو الاستعمال الطبيعي للسان وخاص وهو لغة المختصين.
ولا بد لهذا الازدواج بين الدلالة والمعنى وبين التواصل العام والتواصل الخاص أو التداولية العامة والتداولية الخاصة من أن يكون له أساس في النظم (السنتاكس) الذي يناسب الدلالة والتداول الخاص والنظم الذي يناسب المعنى والتداول العام ويمكن أن نجمع بينهما بمقابلة لا أقرها بين حقيقة ومجاز.
ولا بأس من استعمال هذه المقابلة التي لا أقرها لأوضح قلب العلاقة بينهما: المجاز مقدم على الحقيقة في هذه المقابلات الثلاث: المعنى مقدم على الدلالة والتداول العام مقدم على التداول الخاص والنظم البلاغي في النحو مقدم على النظم العلمي فيه. لذلك ارفض ثلاثية الجابري وثلاثية عبد الرحمان.
فالبيان أسمى من البرهان فضلا عن العرفان إن سلمنا بثلاثة الجابري وأنا أرفضها والمجرد أسمى من المؤيد فضلا المسدد إن سلمنا بثلاثية عبد الرحمن وأنا أرفضها كذلك. ذلك ان البياني والمجرد في التداول وفي الدلالة هو الاوسع وهو المناسب للتقدير الذهني في النظر وفي العمل.
أعلم أن هذه المعاني شديدة التجريد والتقيد. ولا ذنب لي في هذه الشدة: تلك هي خصائص هذه الظاهرة اللسانية والمنطقية وما يناسبها وجودا وعدما. فالمناسب الوجودي عند الكثير هو الدلالي والتداولي المختص والنحو المطابق لما يسمونه واقعا. والمناسب للعدم هو مقابلاتها التي وصفنا.
لكن الوجود بهذا المعنى ليس واجبا بل الممكن الحاصل من الممكن الأوسع الذي لم يحصل بعد أو قد لا يحصل يبقى من المقدرات الذهنية في النظر (الرياضيات) وفي العمل (السياسيات). وإذا انطلقنا من السياسيات اعتبر ذلك من جنس فكر أفلاطون السياسي رغم أن فكره العلمي أيضا ينطلق من التقدير الذهني.
ففي التيماوس وضع أفلاطون نظرية الأجرام الخمسة وبعده بقرن وضع اقليدس مصنفه الذي وصل في آخرة مقالات الثلاثة عشرة إلى بنائها رياضيا فكانت الرياضيات القديمة قد توصلت إلى جعل التقدير الذهني الرياضي (اقليدس) قادرا إثبات حقيقة تقدير ذهني فيزيائي يبشر بكل الفيزياء الرياضية الحديثة.
ولو فكرنا مثل الجابري أو عبد الرحمن لما تجاوز العلم الحديث العلم القديم الذي يتصور أن البرهان في النظر والتسديد في العمل مبنى على منطق منوال فيزياء أرسطو وأخلاق التصوف اللذين يخلطان بين التجربة الغفلة للطبيعة وللأخلاق دون فهم لما بمعزل عن الطبيعي والخلقي شرطا متقدما على وجودهما.
ضربت مثال افلاطون واقليدس وكان يمكن أن اضرب مثالا أعمق وأحدث هو مثال مؤسس علوم العربية ما تعلق منها بالمعجم والنحو لنشرها وشعرها على تقدير ذهني رياضي بعلم التواليف للأصوات (في معجم العين) ولمدد التصويت (في علم العروض). فهذا العبقرية العربي وضع المعجم الحصري.
فتواليف الاصوات الثمانية والعشرين العربية يضع معجما لا يتعلق بالحاصل من الكلمات العربية فحسب بل بما يمكن أن يحصل وألا يحصل اي بما وجد ومات وما لا يزال حيا وما لم يولد بعد. وأتصور أن ذلك يصح على بحور الشعر العربي ما وجد ومنها ومات وما لا يزال حيا وما لم يوجد بعد.
فتقلب العلاقة بين الموجود والمعدوم: ذلك أن من المعدوم ما قد يصبح من المنشود فيتحقق. والمعدوم المتوقع يمكن أن يصبح منشودا وتلك هي آلية تقدم الامم. فالحديث هو ما اكتشفنا غيابه في القديم بحيث أن كل جيل يحقق بذرات يمكن أن تكون موجودة في الماضي رغم فقدان الوعي بوجودها.
وكل تقدم في أي حضارة مبدعة يتقدم بقدر ما يراجع أصوله وأصل الأصول الذي هو معين التوالد الدائم للينوع المرجعي لتلك الحضارة. وتلك هي علة عودتي إلى أصل الأصول في حضارتنا القرآن الكريم. لكن هذه العدوة التي تشبه نبط الآبار وإزالة الرمل الذي سد الانبجاس الشاخب كدم الحياة في الحضارة.
وإزالة الرمل مثل أي صناعة يحتاج إلى إبداع أدوات الصناعة. ولما كان القرآن يتكلم لغتين: لغة المفهوم الفلسفي ولغة المشهد المسرحي كان من الواجب أن أكتشف خصائص اللغتين وعلاقتهما بنوعي التقدير الذهني النظري والعملي وبمنطقي التحليل والتأويل الأول للأول والثاني للثاني مع توالج بينهما.
واستعمال القرآن لهذين النوعين من اللغة في خطابه هو سر كونيته: فمن يعسر عليه فهم اللغة المفهومية يمكنه أن يفهم اللغة الدرامية في المشاهد المسرحية التي يعد أبرزها مشهد استخلاف الإنسان حيث إن الله نفسه يحاور الملائكة حول اهلية آدم للاستخلاف. فهذا يفهم حتى بلغة المسرح الصامت.
والقرآن هو الذي يعتبر الخلق رياضيا والامر سياسيا ويعتبر الرياضي والسياسي متقدمين على الخلق والأمر شرطين لهما الأول نظري والثاني عملي وهما كلاهما يمثلان تقديرا ذهنيا عند الإنسان على منوالهما يبدع نظريا ليخلق أدوات فعله لتعمير الأرض ويبدع عمليا ليحقق أهلية الاستخلاف.
فلا يكون لي أي دور في ابداع هذه النظرية حتى وإن كنت أول من يصوغها لأنها عين ما يقول القرآن عن الخلق بوصفه مشروطا بالرياضيات (المقدار مثلا) والأمر بوصفه مشروطا بالسياسيات (القانون مثلا) وبوصف الرسالة مذكرة بذلك وليس محدثة له لأنه مركوز في الفطرة.
فنكون بذلك قد اكتشفنا التطابق التام بين شكل الخطاب القرآن ومضمون الرسالة الخاتمة ودليل خاتميتها: فهي خطاب لكل البشر حول شرط التعمير والخلافة أي مقومي كيان الإنسان من حيث هو كائن طبيعي بدينا يستمد قيامه من عمارة الارض وكائن متعال على الطبيعة يستمد قيمته من أهلية الاستخلاف.
وهو ببعد كيانه الطبيعي في صلة قيامية بالدنيا (بدنه) وببعد كيانه المتعالي على الطبيعة في صلة قيامية بما يتعالى على الدنيا (روحه) ومن ثم فهو مشرئب دائما إلى مثال أعلى هو الله الذي له من روحه نفخ يجعله ذا إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود وإن كانت صفات نسبية لا مطلقة.
ولا بد من الاعتراف حينئذ أن أدلة وجود الله هي عين كيان الإنسان: فإرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوه كلها تكون في وعيه بنسبيتها الدافع الأساسي للاشرئباب من هي له ليس نسبية بل مطلقة: الارادة والعلم والقدرة والحياة والوجود كلها صفات إلهية مطلقة في الوعي الإنساني.
ولا علاقة لهذه العلاقة بما تراه مدرسة الشباب الهيجلية بل بمعنى تعويضي لنقص الإنسان في صورة مثالية لأن وجود هذا الوعي بالمطلق موجود بالفعل وليس مجرد تعبير عن نقص: الوعي بالإنشداد إلى المطلق ليس شعورا تعويضيا لنقص بل تمام في الوعي بالحاجة إلى التمام.