لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمشروع بحث
ما يزال التمهيد لمشروع البحث بحاجة إلى المزيد من التحديد. فما ذكرناه من ضرورة التمييز في دراسة الألسن بين الدلالة والمعنى وبين التداول العام والتداول بين المختصين ومن ثم التمييز بين النظم العام والنظم المختص يمكن أن يدقق أكثر حتى نوحد بين الدلالة والتداول الخاص والنظم الخاص.
فيمكن القول إن للرمز عامة والرمز اللساني خاصة مجالين: عام وخاص. والعام يتجاوز الدلالة والتداول الخاص والنظم العام لأن مجاله لا يقتصر على الإحالة إلى العالم الذي يعتبر ذا قيام خارجي طبيعي سواء في الطبيعة أو في التاريخ أو حتى في الرمز ذاته بل إلى عالم أوسع ممكن.
وهذا العالم الثاني هو عالم التقدير الذهني الرياضي والفني والأسطوري والديني وكل ما يتجاوز العالم الطبيعي عامة سواء في الطبيعة أو ما في التاريخي من طبيعي. والمثال الأوضح هو ما به يتجاوز ما لا يرد إلى الطبيعي من الإنسان. وطبعا لسنا نعلم هل هو من طبيعة مختلفة عن البدن أم لا.
ذلك أننا لم نعلم بعد كل أسرار البدن وكل أسرار الطبيعي عامة سواء في الطبيعة أو فيما هو طبيعي من التاريخ. لكن الكائنات الحية تمثل في هذا المجال أمرا محيرا: فالحياة التي تتواصل عبر الاجيال من خلال التناسل تبين أن في الحي الذي يموت حياة عابرة للأجيال تنتقل بحامل بدني هو الأفراد.
فيكون بدن الفرد شبه جهاز حي يستمد الطاقة من الطبيعة ليعيش أولا ثم ليصبح قادرا على إنتاج ما به تستمر الحياة من بعده لكأنه مجرد جهاز تحويل للطبيعي الجامد إلى الطبيعي الحي في ذاته أولا وفي قدرته على التناسل بإنتاج الحيوان المنوي أو البويضة بحسب الجنس.
الفكرة التي تخامرني والتي يصعب التأكد منها إثباتا أو نفيا هي أن ما نسميه فكرا في الإنسان له هذه الوظيفة في العالم الرمزي مثل البدن في العالم الحي. وما في البدن من مبدع لعالم الحياة ليس كل البدن بل هو جزء ضئيل منه. ألا يكون ما في الفكر من مبدع لعالم الرمز جزء ضئيل منه؟
وعلام الحياة جزء ضئيل من عالم الرمز فيكون الرمز هو الاصل أو لعلنا لم نعلم بعد سر الحياة والرمز فلا ندري أيهما أوسع؟ لكن علاقة المعنى بالدلالة تبين أن المعنى أوسع من الدلالة لان الدلالة قابلة لأن تعرف بكونها المعنى الذي يحيل إلى موجود خارجي ليس من إنتاج مبدع الرمز.
وهذا هو الفرق بين علم الموضوعات الخارجية والتقدير الذهني الذي له موضوع خيالي يبدعه صاحب التقدير الذهني حتى وإن صار بعد إبداعه وكأنه موضوع خارجي ليس لمبدع النسق الذي “خلقه” عليه سلطان لأن كل ما يتلو على وضع الأكسيومية الفرضية يتلو نسقيا وليس تحكميا.
ولهذه العلة فالشيء الثابت أن الإنسان حتى من كان تكوينه عاميا لا يشعر بأن العالم الخارجي المحسوس كاف لحياته فهو يتشوف دائما إلى عالم خيالي قد لا يكون متجاوزا للعالم الطبيعي عامة لكنه مع ذلك أوسع من عالمه الخارجي الذاتي: وهو دائما عالم تقدير ذهني أو قل خيالي.
ثنائية “الواقع” و”الخيال” ثنائية غير ممكنة التصور من دون علاقة بين الدلالة والمعنى وكلاهما إحالة إلى غير ما في الذهن على الأقل عند صاحب التشوف إلى ما يتجاوز عالمه الخارجي. وهذه الوظيفة هي التي يمكن أن نرد إليها علاقة المرموز بالرمز وعلاقة الدلالة بالمعنى.
وهذه العلاقة هي التي تجعل الإبداع الرمزي المتجاوز للدلالي الفعلي إلى الإبداع الرمزي الدلالي الفعلي مصدرا للتقدير الذهني في الرياضيات للعلم وفي السياسيات للعمل. والقصد بالسياسيات ليس السياسة بالمعنى العادي فهذه في نسبتها إلى ما نقصده بالسياسيات كحساب العطار إلى الرياضيات.
الرياضيات العالية التي هي مقدرات ذهنية نظرية والسياسيات العالية التي هي مقدرات ذهنية عملية يمكن اعتبارها استراتيجيات قبلية في العالم الرمزي بوصفه عالم النماذج المثالية لما يمكن أن يكون عليه تعامل الإنسان الفعلي مع العالم الطبيعي عامة والطبيعي من التاريخي.
الحصيلة: عالم المعاني غير عالم الدلالات وعالم الدلالات جزء ضئيل من عالم المعاني والرمز له القدرة على الجمع بين العالمين. فما جعل منه أداة معرفية لعالم الدلالات (أي الإحالات لما يسمى واقعا) هو جزء ضئيل مما يتجاوز عالم الدلالات التي يكون فيه العالم الطبيعي مرجعية التصديق والتكذيب.
وهنا أجدني أمام مفارقة عجيبة: إذا كان الإسلام يعتبر الأخرى أكثر حقيقة من الدنيا فلم كان تأثير الدنيا على سلوك الإنسان هو الأكبر وكانت الأخرى بحاجة لأدلة من الوحي والعقل حتى يؤمن بها الناس في حين أن الدنيا مهما شكك الفكر فيها فهي فارضة نفسها ولا يكاد يشك فيها إلا النادر؟
ما السر في قلب الامور: فيكون ما هو أحق بالوجود الفعلي اقل تأثيرا في الإنسان مما هو أدنى ويكون ما هو أدنى أولى بالتصديق عند الإنسان مما قد يشكك فيه فيفسره الناس تفسيرات عدة اغلبها تنسبه إلى الخيال والوهم والتعويض الإنسان عن النقص الذاتي أو على مرارة العالم الواقعي؟
أعتقد أن أكبر مفارقة في الفكر الديني عامة والإسلامي خاصة رغم أنه أكثر الاديان قربا من الدنيا أو مما يسمى واقعا هي هذه: لماذا التصديق الوجود الدنيوي يبدو أكثر فطرية من التصديق بالعالم الأخروي؟ ولماذا يحتاج الدين إلى الاستدلال لإثبات هذا وتقديمه على ذاك والبشر يرون العكس؟
وهنا أصل إلى ما هو أكثر من ذلك تحييرا: ما الذي يجعل فكرة الخلود تصمد أمام فكرة الموت حتى عند من يكذب بالحياة الأخرى؟ هل هذا تعويض عن ألم الموت فلا يكون الخلود إلا تعبيرا عن حصرة المصدق به والرافض للموت أو لحصر وجود الإنسان في كونه مجرد جهاز ينتج شروط تواصل الحياة الكلية؟
فهذه الخاصية -جهاز ناقل لبذرة الحياة الكلية-مشتركة بين كل الحيوانات: لماذا الإنسان وحده له هذا الشعور بأنه ليس مجرد جهاز نقل بل له كفرد وعين ما يجعله متجاوزا لهذا الدور في بقاء حياة النوع؟ من أين أتت فكرة هذا العالم الثاني الذي يكون فيه للأفراد بقاء ذاتي يتجاوز بقاء النوع؟
مفهوم الذات الشخصية القائمة بذاتها وغير القابلة للرد إلى الجماعة بخلاف كل تخريف ادعياء الحداثة ليس فكرة فلسفية بل هي فكرة دينية بالجوهر: فالشخص هو المسؤول أمام ربه وهو كفرد خالد (لا يهم في النار أو في الجنة) وهو متحرر من كل العلاقات العضوية: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه…
وحتى فكرة أن الفكر الحديث علمنها وهو المقصود بالذاتية في الحداثة فكرة كاذبة لأن الشريعة الإسلامية تعتبر الفرد بهذا المعنى موضوع المسؤولية القانونية والخلقية والسياسية والجماعة مسؤوليتها تابعة وليست متبوعة: لان هذا الأبعاد كلها تعتبر فروض عين لا فروض كفاية.
ها نحن من حيث لم نقصد في الظاهر على الاقل انتقلنا من إشكالية تبدو لسانية خالصة وابستمولوجية إلى مسألة هي جوهر العلاقة بين الفلسفة والدين لأنها تخص علاقة العالمين الدنيوي وما يتعالى عليه سواء في الوجود ذاته أو في الوجود الذي يرمز إليه بهذين الوجهين: الدلالي والمعنوي.
وغاية القول إن المعنوي أوسع من الدلالي إذ حصرنا هذا في عالم التجربة الطبيعية من الطبيعة والتاريخ. لكن قد نكتشف أن عالم التجربة من الطبيعة والتاريخ لو أحاط به علم الإنسان لكان ما به يتجاوز المعنى الدلالة هو ما في عالم التجربة من غيب لا يمكن أن يدرك قبل ان يصبح البصر حديدا.