لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمشروع بحث
ماذا يترتب على اندراج الدلالي في المعنوي اندراج الجزء في الكل من وظائف الرمز في علاقته بالمرموز الممكن؟ ودون استثناء جهلنا بحقيقة المرموز الممكن الذي قد يكون لو حصل علم محيط به مطابقا للمعنوي فلا يبقى فرق بين الدلالي والمعنوي فإننا سنبحث في المترتبات بحسب ما نعلم الآن.
ما نعمله الآن هو أن التقدير الذهني النظري (الرياضيات) والتقدير الذهني العملي (السياسيات) أوسع من تطبيقاتهما المعلوم في علوم الطبيعة وفي علوم التاريخ. والمترتب الأول هو أن علوم الطبيعة علوم رياضية مطبقة على الدلالات الطبيعية وأن علوم التاريخ علوم سياسية مطبقة على الدلالات التاريخية.
وكل تطبيق نظريا كان أو عمليا هو دائما بعض الممكن وليس كله ومن ثم فالرياضيات والسياسيات التي يبدعها التقدير الذهني أوسع من تطبيقاتهما في علوم الطبيعة وعلوم التاريخ. وبعبارة وجيزة فالنظري نوعان والعملي نوعان:
تقدير ذهني مادته متغيرات أو خانات خاوية في النظر وهي بنى مفهومية.
ثم نظري معين بملء تلك الخانات أو المتغيرات بملء المناسب منها لموضوع معني بمضمون منه مستمد من التجربة العلمية المطبقة عليه.
وهذه هي العلاقة بين التقدير الذهني الرياضي المناسب لموضع فيزيائي معين فتملأ المتغيرات الرياضية بقيم معينة تستمد من حصيلة التجربة على ذلك الموضوع.
لكن التقديرات الذهنية العملية أو السياسيات في العلم العملي وفي العمل التاريخي المناظرة للرياضيات في العلم الطبيعي والعمل الطبيعي ليست متغيرات خالية بل شخصيات درامية عامة تتعين ببدائل تاريخية حقيقية تملأ تسد مسد تلك الشخصيات الدرامية العامة لتصبح سياسيات فعلية.
فكل الاستدلالات القرآنية في الخلق من جنس التقدير الرياضي الذي تعتبر قوانين الطبيعة من تطبيقاته الممكنة (كل شيء خلق بقدر) وكل الاستدلالات القرآنية في الامر من جنس التقدير السياسي الذي تعتبر سنن التاريخ من تطبيقاته الممكنة (كل تشريع وضع بأمر). والأولى مفهومية والثانية درامية.
القرآن يجمع بين أسلوبين مفهومي للاستدلال بالخلق ودرامي للاستدلال بالأمر. والمفهومات الأساسية خمسة بحسب المعادلة الوجودية: الله والإنسان والطبيعة (الخلق) والتاريخ (الأمر) والتواصل المباشر بين القطبين وغير المباشر بنيهما بتوسط الطبيعة والتاريخ.
لكن الخلق والامر أوسع من الطبيعة والتاريخ مجالي الدلالة. وما به يتجاوزان الدلالة هو المعنى الذي لا حد له وهو كل معاني القرآن. وما الطبيعة والتاريخ إلا أمثلة عينية من الخلق ومن الامر. عوالم الخلق والامر لا متناهية والقرآن يكلمنا على حديها الأقصيين الأدنى (الدنيا) والأسمى (الآخرة).
وكل من قرأ كتاب المحاسبي -التوهم-يعلم أنه قد اعتبر الأخرى عالما لا فرق فيه بين ما نسميه واقعا وما نسميه خيالا: ففي الجنة يصبح الإنسان قادرا على خلق كل ما يتخيله لكأنه قادر على فعل كن. ولعل ذلك هو ثمرة رؤية وجه الله بلغة رمزية أي إن هذه الرؤية استكمال للنفخ في الروح فيصبح خلاقا.
وهذا لا علاقة له بالكلام في الغيب مرة أخرى: هو كلام في العلاقة بين المعنى والدلالة. فالدلالة التي تحيل إلى علاقة بين الرمز والمرموز الذي هو موجود خارج الذهن جزء من المعنى الذي يحيل إلى الممكن وليس إلى الحاصل منه أو الموجود خارج التقدير الذهني أصل المعاني.
فإذا صار التقدير الذهني موجدا فعليا لمقدراته صار الإنسان مبدعا بالرمز ليس للرمز فحسب بل المرموز أيضا. وهو غاية الإبداع العلمي في الرياضيات والإبداع العملي في السياسيات. ولنقل إن التكنولوجيا النظرية لصنع الآلات والتكنولوجيا التربوية لصنع التواصليات تنحوان إلى هذه الغاية.
والغاية هي تمكين الأحياز الذاتية للفرد من التحرر من الأحياز الخارجية والسيطرة عليها: فالإنسان ببدنه وفكره وأثر الأول في الثاني تراثه والثاني في الأول ثروته وبمرجعية الإبداع بالتقدير الذهني مسيطرا على الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية المؤسسة لها جميعا.
فتزول المسافات المكانية والزمانية ومسافات الثروة والتراث والمرجعيات لتصبح الإنسانية كيانا وحدا متحدة مع مصادر كيانها العضوي والروحي لكأن الأرض كلها وكل ما هو قابل للمعمورية من العالم هو كيان الإنسانية التي تجاوز الفروق العرقية والثقافية تماما كما تصفها النساء 1.
والقصد: كان العلماء يميزون بين الأعراق والثقافات بأثر المحيط الطبيعي والتاريخي (ابن خلدون مثلا) بمعنى أن غذاءهم المادي مختلف بالجغرافيا والثقافي بالتاريخ لكن الإنسان اليوم غذاؤه المادي والثقافي تجاوز الاختلاف الجغرافي والتاريخي وأصبح معموريا أي إن الجغرافيا والتاريخ شاملان.
أي شيء تأكله أو تقرأه لم يعد محدودا بالجغرافيا والتاريخ الخاصين بل فيه من كل المكان والزمان في الأرض ولا شيء يمكن اعتباره خاصا بجغرافيا أو بتاريخ خاصين. والمسافات المكانية والزمانية تكاد تضمحل والتواصل عن بعد لم يعد مختلفا عن التواصل عن قرب لكأن الإنسان صار له فعل “كن”.
ومعنى ذلك أن الإنسان لم تعد الدلالة عنده مقصورة على الوجود الخارجي الذي ليس هو من “خلقه” بل الوجود الخارجي نفسه صار ثمرة التقدير الذهني ليس في مستوى رموزه فحسب بل في مستوى مرموزاته: إن الإنسان لا بيع العلم بل وكذلك المعلوم في النظر وفي العمل على حد سواء.
وبهذين المعيارين يمكن التمييز بين الشعوب الحرة والشعوب المستعبدة. فالحرة هي التي لها هذه القدرة على الإبداعين النظري والعملي بفضل الوصل بين بعدي الفاعليتين النظرية والعملية: كلتاهما لها القدرة على ابداع المقدرات الذهنية وعلى تطبيقها على العلوم التجريبية الفعلية فتبدع الموجودات.
ويمكن إذن ان نميز بين نوعين من الحضارات أو بين جيلين من الحضارة الإنسانية وكل منهما مضاعف ويوحدهما هذه العلاقة الثابتة بين التقدير الذهني وتطبيقاته في النظر والعمل. الجيل الأول مضاعف: العيش على انتاج الطبيعة ثم التطور في اكتشافه واستعماله. والجيل الثاني: جيل النظر والعمل الأول.
ويتمثل في جعل انتاج الطبيعة بما يدخله عليه الإنسان من تفاعل قصدي (مثل تركيب الشجر وتهجين الحيوان) حلا أرقى للاستجابة لغايات الذوق بأدوات المعرفة العلمة والفنية. يليه الجيل الثاني والأرقى وهو ما ندرسه هنا أي علاقة التقدير الذهني النظري والعملي بتطبيقات تبدع ما لم تبدعه الطبيعة.
وهذه هي المرحلة التي وصلت إليها الإنسانية حاليا: أي إنها مكنت الإنسان من التحرر من سلطان الطبيعة مكانها وزمانها ومن تحويل المعمور من العالم عين كيان الإنسان الذاتي: أي إن الحضارة في مرحلتها الحالية جعلت الإنسانية وكأنه قادرة على “كن” ولو بالقوة وليس بعد بالفعل.
وبخلاف ما يتوهم أدعياء الحداثة فهذا يقوي الإيمان ولا يضعفه: ذلك أن الممكن للإنسان مهما سما يبقى نسبيا حتى ولو ذهنا إلى ما يمكن أن يكون عليه بالقوة ولم نقتصر على ما هو عليه بالفعل: ذلك أن الإنسان يمكن أن يعتبر ذلك دائما دون المطلق فيكون مصدرا للإيمان بقدرة المطلق أي الله.