لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمشروع بحث
عندما ضربت أمثلة من الادب العربي ومن الادب الامريكي واشرت إلى ما يجانسها في القرآن الكريم لم يكن القصد مقارنة القرآن بهما بل القصد بيان الطابع المتعالي النسبي في الادب على ما يسمى واقعا وكيف ينتجه دون رد التعالي القرآني المطلق إلى التعالي الادبي كمقدر ذهني إنساني.
والمقارنة ليست في هذه الحالة كلاما في الغيب بل هي كلام فيما يستعمله خطاب الغيب القرآني للإنسان ليفهمه ما تعنيه خلافته التي أمدته بمقومات وجوده الخمسة: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وكلها نسبية مقارنة مع الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود عند صاحب الخلق والامر.
والخلافة خلق وأمر نسبيان أو تكليف الإنسان بأمانة ظلم نفسه لما قبلها وأحجمت عن قبولها الجبال. ومعنى ذلك أن الإنسان من حيث هو خليفة (بالفهم الخلدوني) له شيء من هذه الصفات تجعله أهلا للاستخلاف إذا عمل بها قدر استطاعته. وحينها نفهم معنى “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”.
ونفهم معنى قوله تعالى “وهو أقرب إليكم من حيل الوريد” وما استنتجت منه أن القرآن هو التواصل المباشر بين المؤمن وربه وما التواصل غير المباشر بالوسيطين الطبيعي والتاريخ إلا دور الذوق المدرك للغايات والعلم والعمل المبدعين للأدوات بالمقدرات الذهنية بنوعيها وتطبيقهما العلمي والعملي.
ولما كان علمهما نظريا وعمليا فمعنى ذلك أن شرط النظر هو التقدير الذهني الرياضي أو الإبداع الرمزي المشروط في النظر وشرط العمل هو التقدير الذهني الفني أو الإبداع الرمزي المشروط في العمل فيكون القصد بالخلافة العامة هو تجهيز الإنسان بهذين الفعلين الإبداعيين اللذين هما عين تعاليه.
وتعاليه هو هذا الوعي المبدع لمثل شروط قيامه الدنيوي علما وعملا مبدعين للأدوات بدافع من الذوق المحدد للغايات. فيكون ذوق الإنسان العضوي والروحي محددا للغايات المادية والروحية وهو مجهز بالقدرة على الإبداعين المقدرين ذهنيا للرموز منطقها النظري والعملي للوصل بين الغايات والأدوات.
فصارت التقديرات الذهنية في العلم (الرياضيات العالية) والتقديرات الذهنية في العمل (الآداب العالي) محرمات وليست هي المحددة للعلم والعمل بل عوضهما التخريف الكلامي والتخريف الخلقي فجعلا القرآن مدونة حكم شعبية بدلا من أن يكون استراتيجية تحقيق مهمتي الإنسان: التعمير بقيم الاستخلاف.
ولا تتعلق الاستراتيجية بأعيان المقدرات بصنفيها بل ببعدي السياسية التي تكون بشرا قادرين عليهما: التربية والحكم. فالتربية والحكم القرآنيان يحرران الإنسان من الوسطاء بينه وبين ربه بالقدرة على الإبداع النظري ومن الأوصياء بين وبين أمره وعلامتها القدرة على الإبداع العملي.
فالوسطاء الروحيين يقتلون القدرة على الإبداع النظري شرط كل إيمان صادق يكون صاحبه قد تبين بنفسه الرشد من الغي والأوصياء يقتلون القدرة على الإبداع العملي شرط كل عمل صالح صادق يكون صاحبه بحق حرا لا يمكن أن يكره على شيء لم ينبع من صدق إيمانه الناتج عن تبينه بذاته الرشد من الغي.
ولأشرع الآن في الكلام على المقدرات الذهنية العملية التي ينبغي عليها الإبداع الفني عامة والأدبي خاصة مصدرين للبنى المثالية التي بأثرها في التجربة الروحية والتاريخية تمكن من تأسيس العمل مثل المقدرات الذهنية النظرية التي تبدع بنى النظر المثالية لعلم التجربة الحسية والطبيعة.
وقبل ذلك فلأختم الكلام في العلاقة بين البحث النظري الحالي وثمراته التطبيعية في شروط استئناف الأمة دورها التاريخي: فما حصل في الإبداعين وفي تطبيقاتهما هو عين الرد إلى الخسر كما حددته شروط العصر ببيان شروط الخروج منه: فقد الفرد الإيمان والعمل الصالح (المحرر من الوسطاء).
وفقدت الأمة التواصي بالحق والتواصي بالصبر (المحررين من الأوصياء) والفقدان الأول هو فقدان الفرد لحريته الروحية بسبب دور الوسطاء الحائلين دون الإيمان الصادق شرط النظر السديد والعمل الصالح. والفقدان الثاني هو فدان الأمة لحريتها السياسية بسبب دور الأوصياء الحائلين دون التواصيين.
والتواصي بالحق شرط الاجتهاد والتواصي بالصبر شرط الجهاد. والأول هو الذي يجعل الأمة تبدع شروط قيامها النظرية والثاني هو الذي يجعلها تحرص على تطبيقها والصبر على ما يتطلبه ذلك من جهد جماعي لا أحد يكون فيه وصيا على الآخر لأن الجميع يعنون بالشأن العام عناية المؤمن العامل صالحا.
إذا اعتمادنا قياس ابداع المقدرات الذهنية العملية (شرط المعرفة الفنية) على ابداع المقدرات الذهنية النظرية (شرط المعرفة العلمية) أضمرنا أنه يمكننا أن نكتشف للإبداع العملي مقدرات ذهينة مجانسة للرياضيات التي هي مقدرات ذهنية مشروط في العلوم النظرية.
وإذا كانت المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات) تصبح علوما نظرية للموجود الخارجي الطبيعي خاصة بفضل ما يطابق من معطياته التجريبية بعض البنى الرياضية فمعنى ذلك أن المقدرات الذهنية العملية (نبحث عنها) تصبح علوما عملية للموجود الخارجي التاريخي خاصة.
ولما كان الإنسان فيه ما طبيعي وفيه ما هو تاريخي فإن العلم النظري والعلم العملي يتقاطعان في العلم والعمل الإنساني دائما ويصعب ألا يكون فيه ما هو من المقدرات الذهنية النظرية والمقدرات الذهنية العملية فتكون هي التي ينبغي أن تكون منطلق بحثنا قيسا للعملي المجهول على النظري المعلوم.
وهذه العملية التي تنقلنا من المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات) المعلومة والمعلوم دورها في علم الموجودات الخارجية إلى ما نطلبه ونقدر أنه مناظر له من مقدرات عملية (ولنسمه السياسيات) المثالية المجهولة والمجهول دورها في علم الموجودات الخارجية.