لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمشروع بحث
ونصل الآن إلى علاقة هذا المشروع بلغة القرآن. فأبعادها يغلب عليها الوجه الثاني من البعد التداولي والدلالي والسنتاكسي أو النظمي (بلغة الجرجاني): فالوجه الأساسي من التداولي فيه ما بعد لغة وليس لغة صناعية والوجه الأساسي من الدلالي فيه يحيل إلى المعاني وليس إلى الأعيان المحسوسة.
والوجه النظمي فيه لا يتعلق بالتداولي المختص ولا بالدلالي العيني بل بالتداولي العام وبالمعنوي ومن ثم فنظمه ليس نظم اللغات الصناعية التي تخضع لمنطق وحيد يحاكي ما يعتقد عين الوجود المدرك بوصفه المحسوس من الممكن بل هو منفتح على كل الممكن لأن المحسوس منه أحد أنواعه وليس النوع الوحيد.
فإذا تكلم على عالم التجربة المحسوسة استعمل الوجوه التي تهتم بها قدمتها الدراسات اللسانية التي تتعامل مع الترميز على أنه ترجمة للمرموزات في ثقافة معنية بشرط أن تكون مما يعتبر مطابقا للمدارك الحسية. لكن القرآن لا يقتصر كلامه عليها بل هو يعتبرها أحد وجوه الوجود ولعله أدناها تمثيلا له.
وبذلك فينبغي أن تتغير كل مصطلحات البلاغة: فالاستعارة والكناية مثلا تضمران أن المستعار منه” هو الحقيقي أو “الواقع” أو العالم المحسوس و”المستعار له” هو المجازي و”الخيالي” أو العلم الذي يدرك بالقياس على الأول. وهذه المفاضلة بين عنصري العلاقة هي التي ينبغي التخلص منها.
ذلك أن رؤية وجه الشبه في الاستعارة مثلا أو وجه العلية في الكناية قابلة للعكس تماما: عندما نشبه البطل بالأسد فنسمي البطل أسدا استعارة لمعنى الشجاعة منه ووصف البطل بها فهذا لا يحدد إلا تحكم أحد الطرفين أصلا وحقيقة والطرف الثاني فرعا وحقيقة.
وعندما نرمز إلى العدالة بالميزان فهذا لا يعني أن العدالة استعارت التساوي بين طرفي النزاع عند القاضي مستعارة من الميزان أو الميزان استعار مساواة كفتيه من العدالة بين طرفي النزاع عند القاضي. بل يعني أن مفهوم العدالة ليس له دلالة في الوجود قائمة بذاتها وأن لها نسخا فيه تقاس عليه.
وهو ما يبدو قريبا من تصور المشاركة بالمعنى الأفلاطوني مشاركة الأعيان للمثل: وهو نظرة مقابلة للتي تجعل العالم المحسوس حقيقة مقابل العالم غير المحسوس المعتبر مجازي. وكلا المنظورين لا يعبران عن حقيقة علمية بل هو خيار وجودي تقديما وتـأخيرا بين نوعي الممكن المحسوس وغير المحسوس.
والقرآن يقدم الممكن غير المحسوس على الممكن اللامحسوس سواء في منه يمكن أن يصبح محسوسا في الدنيا وهو الغائب لما يحضر أو في الممكن الذي لا يقبل الإحساس إلا عندما يصبح البصر حديدا وهو ما لا يدرك إلا يوم الدين أعني الغيب. مجال ابستمولوجية القرآن وأكسيولوجيته أوسع من العلوم والفنون.
وليس غرضي إثبات صحة القرآن أو نفيها فكلا الموقفين لا يعنياني هنا. ما يعنيني هو سؤال أعمق من ذلك: هل يمكن لأي إنسان مهما ألحد أن يقبل بحصر الممكن في الموجود القابل للإدراك حسيا كان او عقليا؟ أم إن الإنسان كإنسان يعتبر هذا الحصر سجنا وكيانه اشرئباب دائم لتجاوزه؟
وهو معنى كون كالإنسان كإنسان كيانه هو هذا الانشداد بين النسبي والمطلق من الممكن أو بين ما حصل منه وما يمكن أن يحصل حتى لو لم يكن في قدرته إدراكه. وهذا النسبي والمطلق إذا فصلا واعتبارا قائمين في الوجود الفعلي هما الله والإنسان في وعي الإنسان مابعد طبيعة وما بعد تاريخ متلازمين.
وهذا الموقف من حقيقة معاني القرآن أو خياليتها يشبه رفع الحكم الفينومينولوجي في كل القضايا النظرية دون التعرض لإثباتها وجوديا أو نفيها حتى ندرك أولا مفهومها بمعزل عن اثبات الوجود الخارجي أو نفيه فنفهم حينها طبيعة لغة القرآن بالقياس الى اللغات التي تقابل بين حقيقة ومجاز.
فما أراه من جمال أو جلال أو خير أو حق في الوجود وأضدادها كلها ما حقيقته وهو ليس محسوسا مثل الأطراف التي تتصف بها أو بأضدادها. هل ارى الجمال والجلال والخير والحق وأضدادها بالحواس أو بالعقل؟ إم إن للإنسان ذائقة أخرى هي ذوق القيم المختلف عن إدراك الدلالات في البعد الدلالي من اللسان؟
القرآن يقول نعم. وقد حاولت وصف ما يعنيه القرآن بهذا النوع الذوقي من الإدراك فسميته الحوادس وليس الحواس قياسا على البصيرة بالمقابل مع البصر. فاعتبرت أن السمع تقابله سميعة والشم شميمة والذوق ذويقة واللمس لميسة وهي إدراكات مجموعها هو التجربة الروحية شرطا لفهم لغة القرآن.
وبين لمن تابع تطور الفلسفة الحديثة أنها انقسمت إلى مدرستين مغ غلبة الثانية على الاولى: لفهم ذلك يكفي مقارنة فينومينولوجية هوسرل بفينومينولوجية هيدجر. كلاهما يطلب ماهيات وراء الأعيان وفيها. لكن الثاني يركز على اكسيولوجية وجودية والاول على أبستمولوجية وسمية (سيميوتكس).
لكن المقابلة بينهما تبقى في إطار تصور العالم واحدا هو العالم الطبيعي التاريخي. لكن القرآن لا يعتبر العالم الطبيعي والتاريخي هو الموجود الوحيد بل هو يضاعفه بعالم أخروي يعتبر الاول نقطة في أقيانوسه فيفتح فضاء روحيا للإنسان غير محدود بالمكان والزمان بل هو فضاء السرمد.
قد يتوهم البعض أني بهذا الكلام دخلت في المحظور بمعنى آل عمران 7 فتكلمت في متشابه القرآن وفي الغيب. ولكن حاشا أن افعل فلست مريض القلب ولا أبغي الفتنة. ما أقوله لا يتجاوز الوصف الفلسفي للغة القرآن مع رفع الحكم حول معانيها ودلالاتها لأن الحكم في ذلك أمر إيماني وجداني وليس علما.
لست هنا لأستعرض عقيدتي بل لأفهم خطاب القرآن بمنطق رفع الحكم الفينومينولوجي الأميل إلى هوسرل منه إلى هيدجر. ذلك أن خيار هيدجر فيه ضمنيا وأحيانا صراحة آثار الطوماوية المحدثة التي هي قراءة جديدة لتعين الله في المسيح الذي صار يسمى عنده “دازاين” ناطقا باسم “الزاين” ومعبرا عنه.
كما أني ارفض القراءة النيتشية التي هي صورة “ضديد المسيح” أو تعين الله في الإنسان لأنه يعتبر الله-بلغة هيجل-قد مات وأن الإنسان المتأله أي الذي يطلب القوة للقوة ويريد الإرادة للإرادة (المسيح الدجال) هو مثاله الأعلى ومستقبل الإنسانية بما هي مبدعة لذاتها وكأنها عمل فني هو التاريخ.
كما أني لا أصدق الشطح الصوفي تبعا في ذلك لما قاله ابن خلدون من أن اللغة الإنسانية لا تستطيع أن تقول الوجدانيات التي هي مما لا ينقال. ولغة القرآن نفسها على ما تتميز به مما وصفنا لا تستطيع أن تقوله بالعبارة بل بالإشارة الراسمة والمنغمة للوجود فتوقظ في الإنسان حي الوجدان.
وما أسعى إليه في هذه المحاولة هو تحديد ما في لغة القرآن من فاعلية الإشارة والعبارة على موقظات حي الوجدان في الإنسان فتكون وكأنها نداء اللامكان واللازمان المحرر للإنسان مما يشعر به وكأنه خاضع لسلطان سجان اسمه العالم المحسوس والمعقول الذي لا يكفي مكانه وزمانه لأجنحة الوجدان.