مشروع بحث يمهد لأنطولوجيا الترميز عامة واللساني خاصة – الفصل الثامن

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مشروع بحث

ما ينبغي أن نعجب له أن مجال المعرفة النظرية والمعرفة العملية الابستمولوجيا (نظرية العلم) والاكسيولوجيا (نظرية القيم) معيار الثانية الفن الدارمي للأفعال ومعيار الاولى الفن المنطقي للأقوال. فهما يجعلان التقدير الذهني يصبح بعضه علما أو عملا إذا طبقا على تجربتي الطبيعة والتاريخ.

بحيث يمكننا القول إن الدراما هي منطق الفعل والمنطق هو دراما القول. والقصد أن منطق المفهومات النظرية ودراما المفعولات العملية يؤديان الدور الاول في التقدير الذهني والدور الأول في التمييز بين الدلالة والمعنى. والأولى هي تناظر بين عالم الرمز النظري وضرورة الطبائع.

والثانية تناظر بين عالم الرمز العملي وحرية الشرائع. في التناظر الأول القانون الأسمى هو قانون الضرورة وفي التناظر الثاني القانون الأسمى هو قانون الحرية. لذلك فالمجال الاول يمكن وصفه بكونه مجال التحليل والثاني مجال التأويل. ولهذه العلة لا يمكن رد علم الإنسان Geisteswissenshaft إلى علم الطبيعة Naturwissenschaft فهذه اساسها الضرورة وتلك أساسها الحرية. والمشكل هو كيف نطلب قوانين أي بنى ثابتة في عالم الحرية؟ الا يعني ذلك رد التاريخي إلى الطبيعي؟

في الحقيقة الامر اعقد من ذلك: فالإنسان ليس تاريخيا فحسب بل هو طبيعي كذلك: كيانه عضوي و”رمزي” (روحي).

لذلك فعلم الإنسان ليس كله تأويلي لأنه ليس ذا كيان رمزي فحسب بل فيه ما هو تحليلي لأن كيانه فيه ما هو طبيعي. والمشكل في علوم الإنسان هو نسب التحليلي والتأويلي: أي ما يقبل منها الصوغ الرياضي والصوغ السياسي أو بصورة أوضح ما هو مفهومي وما هو درامي.

والقصد بالمفهومي ما يقبل الصوغ القولي بحسب منطق معين والقصد بالدرامي ما يقبل الصوغ الفعلي بحسب دراما معينة. والدراما هي ما يحصل من تفاعل الأفعال وفيها يكون القول جزء منها لأن الإنسان يفعل أيضا بأقواله فعله بأعماله. فيكون الامر كله في علاقة منطق الأقوال بدراما الأفعال.

وهنا تتداخل كل القيم بين الأقوال والافعال لما فيهما من دلالي ومعنوي. القيم متصلة بأقوال الإنسان وافعاله في العلاقة بين الدلالي المحدود والمعنوي اللامحدود لأن الأول جزء ضئيل من الثاني. وتلك هي العلة في كون الأقوال والأفعال فيها ما هو تحليلي (للدلالة) وما هو تأويلي (للمعنى).

ومشكل المشاكل في قراءة القرآن هي الدلالي والمعنوي في العلاقة بين قطبي المعادلة الوجودية الله والإنسان والتواصل بينهما مباشرة (القرآن) وبصورة غير مباشرة (الطبيعة والتاريخ) فهو تواصل مفهومي ودرامي بين أقوال وأفعال صادرة منهما كليهما أو بصورة أدق مما يرويه كل منهما عن الآخر.

ففي القرآن الله يتكلم باسمه وباسم الإنسان. والإنسان يتكلم باسمه وباسم الله. وكل منهما يتكلم باسمه أصالة وباسم مقابلة رواية ناتجة عن تصوره له. لكن الله في القرآن يروي ما ينسبه إلى الإنسان سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن في تصوره لذاته ولله ولعلاقتهما بالطبيعة والتاريخ.

هذا النسيج من التصورات المتبادلة والرواية المتبادلة في خطاب الله عن ذاته وعن الإنسان وخطاب الإنسان عن ذاته وعن الله برواية إلهية شديد التشابك والتشاجن والتراكب ما يجعل القرآن نفسه دراما كونية لها بطلان (مستخلف وخليفة) ومجالان دنيوي وأخروي. والدنيوي طبيعي (للخلق) وتاريخي (للأمر).

والأخروي لتقييم الدنيوي أصلا للوجود النهائي للعلاقة بين المستخلف والخليفة وفيه يحاسب الثاني بمعايير الأول لأنه قبل أن يكون خليفة وهو معنى الأمانة التي كان قبولها بشهادة الله نفسه أنها نتجت عن ظلم الإنسان لنفسه بقبولها وعدم تحمل غيره لها: وهذا القبول هو تحدي الحرية والتكليف.

ذلك هو نسيج الدراما الكونية في القرآن الكريم. لكنه نسيج استراتيجي لمستقبل الإنسانية وليس تاريخيا لماضيها: فهو بنحو ما يجعل هذه الدراما الكونية التقدير الذهني الذي يقبل الانطباق في الدنيا حتى يكون نموذج تاريخ الإنسانية التي قبلت أن تتحمل مسؤولية دورها فيه كونيا.

والقرآن من حيث هو يقبل الفهم على أنه تقدير ذهني يجمع بين النوعين: فالخلق يجري بتقدير ذهني رياضي والأمر يجري بتقدير ذهني سياسي. والله خالق وآمر أي رياضي وسياسي للوجود وخاصة للوجود الإنساني. لكنه مذكر بهذه البنية وليس واضعا لها. لذلك فالرسول ليس مشرعا بل مبلغ لتشرع. وسنته تعليم.

والتعليم نوعان: فهو معلم للتحليل المفهومي ومؤول للدرامي أي لأسلوبي القرآن: يحلل الاستدلال في الخطاب القرآني ويؤول المشاهد الدرامية في القصص القرآني. وبهذه الطريقة يمكن قراءة القرآن قراءة فلسفية بوصفه منظومة النماذج المثالية التي بفضلها يمكن للإنسان أن يحقق شروط وجوده.

وشروط وجود الإنسان نوعان: شروط استعماره في الارض وصلا بين دلالات ذوقه الغائي ودلالات معرفته الأداتية وشروط استخلافه في الارض وصلا بين قيم ذوقه وقيم معرفته. وهذا القول أصل به بين ما تكلمت عليه في مسألة العلاقة بين الذوق (اكسيولوجيا) والمعرفة (ابستمولوجيا).

وبين أن هذا العلاج بضع بين قوسين مسألة الإيمان وعدمه حول طبيعة الخطاب القرآني. ذلك أن وضعه بين القوسين هو شرط الذهاب إلى الغاية في البحث دون أن يعني أنه يعبر عن عقيدة صاحب البحث. فلست بصدد عرض عقيدتي بل بصدد بيان القضايا وليس عرض موقفي القضوي منها.

ثم إن ذلك ينهي تخريف من يجعلون من العلاقة بين القرآن والسنة مدخلا لتهديم السنة أولا ثم القرآن لاحقا. والدليل تعليلهم بالدافع المزعوم عن القرآن. وينبغي أن اعترف بأن فهم الفقهاء للشريعة يساعدهم في دعاواهم وفي حربهم على السنة بداية والقرآن غاية.

إذا فهمت الشريعة فهما بدائيا من دون ما نحاول بيانه من تعلقها بصفات التشريع وليس بمجالاته كما يفعل اصحاب المقاصد فإن كل حجج محاربي السنة بداية والقرآن لاحقا تصبح معقولة: فتعالي احكام القرآن لا تتعلق بتقدير العقاب الذي هو أضافي للنازلة ولما يسمونه قصدا بل بصفات قيمية للتشريع عامة.

فأهمية المقصد المزعوم وتقدير العقاب في الاحكام تاريخي كلاهما تاريخي حتما. فأما المقاصد فتاريخيتها في منزلتها ونوع حمايتها وأم العقاب فتاريخيته في منازل ما يحميه القانون. وكلاهما لا يمكن أن يرد إليه تشريع إلهي متعال على الظرفيات التاريخية.

لذلك رفضت نظرية المقاصد في حواري مع الشيخ البوطي وبينت أنها لا تناسب علوية التشريع الإلهي: علوية التشريع الإلهي هي في الصفات القيمية للأحكام وليس في موضوعاتها ولا في مقدار العقوبات التي هي تاريخية بالجوهر. التمسك بهذين يقوي حجة الناقدين للشريعة في نصيها القرآني والسني.

والصفات القيمية للأحكام الإلهية المتعالية على التاريخ هي ما به يكون القانون قانونا دينيا كان أو وضعيا: فالقانون قانون بما يجعله حكما عادلا من قاض أمين. فيكون الامر كله دائرا حول شروط أمانة القضاء وحرية القضاة وشروط العدل كما يحددهما القرآن.

فالفقهاء لا يرون العلاقة الواضحة بين شرطي الإيمان في القرآن أي الحرية الروحية للمؤمن (من طاغوت الوسطاء) والحرية السياسة للمواطن (من طاغوت الاوصياء) ثم يتكلمون على شرع الله لكأنه مقصور على تطبيق اعمى لنصوص غير مفهومة: الاستبداد الروحي والسياسي يلغيان الشريعة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي