مشروع بحث يمهد لأنطولوجيا الترميز عامة واللساني خاصة – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مشروع بحث

أعتقد أن ما يحتاج التوضيح ليس علاقة المقدرات الذهنية التي هي إبداع خاص بالتجربة العلمية للعلم بالموضوعات الخارجية التي يعتقد كل البشر أنها هي الوجود الحقيقي والمحسوس حتى وإن كان هو بدوره وجودا ممكنا رغم حصوله وأنه يحتاج إلى تعليل. لكنه يبقى مختلفا عن الممكن الخيالي لقوة تأثيره.

فلا يوجد من لا يشك في التقديرات الذهنية وخاصة أولئك الذين وضعوها بدليل تعددها ولا من لا يشك في حقيقة العوالم التي تتكلم عليها الاديان لكن من يشك في الوجود الخارجي المحسوس يعتبر عادة مجنونا. وكل من يرى أن العالم الآخر أكثر ثبوتا وحقيقة من العالم المحسوس يعتبرون مجانين.

بهذا المعنى فكبار المبدعين على الأقل في الدين والفلسفة يعتبرون مجانين. ولأكتف بالفلاسفة فديكارت هو الذي يقول إن اثبات وجود الله أيسر على العقل من اثبات الوجود الطبيعي الخارجي وإذن فهو مجنون. ومعنى ذلك أن كل المبدعين الكبار يعتبر كلامهم هذيانا عند عامة الناس.

فالموقف من كبار مبدعي المقدرات الذهنية المشروطة في علم الطبيعة تغير بفعل ما صرنا نرى بالعين المجردة ثمرات قراءتهم للعالم الطبيعي بها لأن تطبيقها على التجربة اظهر الكثير من أسرار الطبيعة فبات التمييز بين الهذيان المرضي و”الهذيان” العلمي مقبولا حتى عند العامي من الناس.

ويبقى علينا أن نمر إلى نوعين آخرين من “الهذيان” ليس في منظور العامي من الناس فحسب بل في منظور أدعياء الحداثة ممن يتصورون الوضعية مادية ويعتبرونها تقلب العلاقة بين المقدرات الذهنية والإدراك الحسي فيتصورون العلوم بالجوهر استقرائية أساسها التجربة الغفلة بدلا من العكس.

فحتى مؤسس الفلسفة الوضعية (أوغست كونت) لم يكن من القائلين إن العلم الذي لا بد فيه من التجربة هو ثمرة التجربة وحدها بل هو يعتبر كل العلوم رياضيات تطبيقية بمعنى أن التجربة لا تصبح علما إلا بفضل الرياضيات التي هي ليست ثمرة التجربة بل ثمرة الإبداع بمعنى المقدرات الذهنية.

ولم يكن بوسعه ألا يرى بهذا المنظور لأنه عاش في العصر الذي تجاوز الجميع فكرة أن الرياضيات وخاصة الهندسة نوع واحد بل هي متعددة بحسب النظام الأكسيومي الذي يبنى على تصور “خيالي” يتعارض نظام اقليدس بتغيير مفهوم الفضاء كما توقع ارسطو عندما اعتبر الامر كله متعلق بتعريف المثلث والمستقيم.

ورغم ذلك فقد كان يعتقد أن الرياضيات وإن لم تكن استقرائية فهي علم “تشكيل المادة الاولى” دون أن تكون الصور الوجودية الفعلية. وهو مفهوم بيّن بين: هو مقدرات ذهنية وغير الصور الوجودية الفعلية لأنها قابلة للفصل عن المادة بخلاف الوجودية التي هي محايثة للمادة ولا قيام لها إلا بها.

وأبرز أمثلته التمييز بين المعقوف عامة والفطوسة. فهذه لا تكون إلا في الانف وتلك تكون في أي مادة المعقوفية تحديب مستقل عن المادة والفطوسية لا تكون إلا معقوفية الانف. وإذن فالأشكال الرياضية ليست محايثة مثل الصور الوجودية. وقد حاول استعمال الأشكال الرياضية للتعبير عن الحقائق العلمية.

مثال ذلك محاولة استعمالها في علوم الطبيعة في الموسيقى والفلك والطب كتفسير علة سرعة اندمال الجروح (وهو طبيب ابن طبيب) بنسب المساحة التي عطبت جلدتها وفي الاخلاق بتحديد مفهوم العدل ونوعيه (أخلاق نيقوماخوس) وفي السياسة وخاصة في المنطق.

ولو لم يكن من القائلين مثل كل الفلسفة القديمة بنظرية المعرفة المطابقة (التي تعلم الموجود على ماهو عليه في ذاته) لكان أقرب فلاسفة العصر القديم للفلسفة الحديثة. وقد أطلت في مثال أرسطو لأنه هو أول من استعمل نظرية النسب الرياضية لتفسير آليات المجاز في الأدب (كتاب الشعر).

ولما كنت قد درست هذا الكتاب مدة عشر سنوات في درس الجماليات فإني كنت أعجب من قدرته على رد كل آليات المجاز إلى علاقات رياضية هي نظرية التناسب كما حددتها مقالة اقليدس الخامسة من بعده. وهي النظرية التي بها استطاع اقليدس لاحقا تجاوز إشكالات اللامنطق من العلاقة بين المتصل والمنفصل.

واليوم أريد أن أتكلم على ما سميته “المقدرات الذهنية” في الأدب والفنون المناظرة لـ”المقدرات الذهنية” التي تكلم عليها ابن تيمية في العلوم حتى وإن لم يدرك طبيعة العلاقة بينها وبين التجربة العلمية التي لو اكتفينا بها لكانت المعرفة كلها استقرائية وامبيريقية خالية من الكلية والبرهان.

إذا كان تطبيق المقدرات الذهنية النظرية هو شرط العلمية في النظر المؤسس للعلم التجريبي (كالفيزياء) فهل توجد مقدرات ذهنية عملية تعد شرط العملية في العمل المؤسس للعمل التجريبي (كالسياسة) فيكون ابداع المقدرات الذهنية نظريا وعمليا للتعامل مع الموجود الخارجي الطبيعي والسياسي.

بلغة أوضح إذا كان التقدير الذهني النظري (الرياضيات بكل أصنافها) شرطا في علوم الطبيعة فهل يوجد تقدير ذهني عملي (الأدبيات بكل أصنافها) يكون شرطا في علوم التاريخ؟ ولماذا يوجد هذا الفرق بين نوعي العلم ونوعي التقدير الذهني الذي يكون فيه الإنسان بخياله مشرعا لما “يسمى واقعه”؟

والسؤال الأعمق هو: لماذا يتصور الإنسان أن الله يعمل بنفس الطريقة أي إنه: خالق بعلم يمكن وصفه بكونه نظريا وآمر بعلم يمكن وصفه بكونه عمليا فيكون الله رياضيا وأديبا إن صح التعبير لكنه رياضي وأديب مطلق يبرأ الموجودات ويشرع لها لكنها ليست مخلوقات ولا تشريعات خيالية بل فعلية.

فلا أحد ينكر أن القرآن الكريم يعتبر المخلوقات كلها ذات بنية رياضية (كل شيء خلقناه بقدر) والأمر كله ذا بنية أدبية بمعنى أن سلوكها محكوم بما يحقق شرط الآمرية والمأمورية أي إنها ممثل شخوص الدراما حرة مترددة بين الحرية والجبرية تسمو على الضرورة أو تخضع لها كأبطال الرواية مثلا؟

لماذا يستعمل القرآن طريقتي علاج: مشاهد درامية في القصص وبنى رياضية في العلاج المفهومي لتعريف الموجودات والخالق والرسالة والتشريعات السياسية والخلقية؟ هل لأنها موجهة إلينا ولأننا لا نفهم إلا بهذين الطريقتين كل خطاب موجه إلينا فيكون ذلك من شروط التواصل بين الله والإنسان؟

أطنبت في الكلام على المقدرات الذهنية الضرورية للعلم النظري وغير النابعة من إدراك العالم الموجود خارج أذهاننا وضرورته لعلم هذا العالم بفضل ما يبدعه من تجارب بأدوات إدراك هي بدورها من أبداع التقدير الذهني في البصر والسمع (تقوية البصر لإدراك الأشكال وتقوية السمع لإدراك الأصوات).

وأريد أن أدرس المقدرات الذهنية الضرورية للعلم العملي وغير النابعة من إدراك التاريخ الموجود خارج أذهاننا وضرورتها لعمل هذا العالم بفضل ما يبدعه من تجاري بأدوات إدراك هي بدورها من إبداع التقدير الذهني للعلم العملي (وهو في شكل استراتيجيات سياسية وخطط للعمل إرادة وقدرة).

فإذا تبين أن ذلك موجود فعلا وأن بين النوعين من التقدير الذهني علاقة مجانسة لعلاقة التي بين تطبيقاتهما في الوجود الفعلي الطبيعي والتاريخي أمكن لنا أن نبحث في علاقة الخيال العلمي والعلم الخيالي الذي هو تطبيق للخيال العلمي وهي أهم مؤشر على الصعود الانحطاط في الحضارات.

وليكن مثالنا الأول من تاريخ حضارتنا ومثالنا الثاني من تاريخ الحضارة الأمريكية الحالية. فعندما كان المسلمون مبدعين في العلوم كان لهم أدب أساسه العلم الخيالي. فالتغلب على المكان والزمان كان من أهم هواجس الفاتحين فكان الادب يتضمن كيانات أدبية (أصلها قرآني) تسيطر على المكان والزمان.

شخوصها مصباح سحري أو بساط ريح وكلها لها نظائر في الوجه الدرامي من القصص القرآني. وليست مستمدة مما يسميه السطحيون واقعا لأنها تناقض كل قوانين ما يسمونه واقعا أعني العالم المعيش والمحسوس الذي لو كانت صادرة عنه لكانت عاجزة عن تخيل ما ينافيه من سلطان على المكان والزمان.

فمثلا السلطان على الزمان في القرآن دليله الكلام على ايام تقدر بخمسين ألف سنة مما نعد. فهذا المثال لا يقبله حتى أرقى علوم عصر نزول القرآن. لكنه اليوم يعتبر من الامور البديهية بعد أن تجاوزنا نظرية العالم الذي كان لا يتجاوز مجرة التبانة. بهذا يمكن يحلم الإنسان بنيل ما وراء العرش.

والمثال من التاريخ الحديث لأمريكا: الأدب الخيالي المسنمن (من السينما) يجعل الشاب الأمريكي يحلم بغزو الفضاء بلا حد ويتجاوز واقعية السخفاء من أدبائنا الذين يتصورون قص حيواتهم أدبا وهو في الحقيقة لا يتجاوز قلة الأدب بالمعنيين الفني والخلقي.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي