مشروع بحث يمهد لأنطولوجيا الترميز عامة واللساني خاصة – الفصل التاسع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مشروع بحث

فـ”الواقع” السياسي عندئذ مخالف تماما للواجب السياسي لأن من يعين القضاة لن يكون ممثلا لإرادة الامة بمعاييرها القيمية التي هي ما حددته الآية -الاستجابة للرب-أي للقيم التي تتأسس عليها التشريعات التي سيطلبها القاضي في النوازل بشروط خلقية حددها القرآن: العدل والأمانة.

لا يمكن أن يبقى القضاء سويا في نظام سياسي غير سوي. فلا القاضي مستقل لأن تأويلها للشريعة يكون دائما لصالح الاقوياء وتطبيق الأحكام تحت سلطانهم غير الشرعي. فيكون القاضي مجرد موظف تابع لسلطة غير شرعية.

وما يعنيني هنا ليس الكلام على القضاء والفقه والسياسة بأعيانها إلا لضرب مثال حتى نعلم مجال انطباق البحث في علاقة التقدير الذهني النموذجي ومجال الانطباق لتحديد ما يتعلق بالدلالة التي هي بالضرورة تاريخية: لا يمكن لموضوع القانون ولمقادير العقوبة فيه ألا تكون تاريخية وظرفية.

وهو ما تميز رمز العدل بين الصحابة الفاروق بإدراك معناه فلم يقر التطبيق الآلي للعقوبات حتى عندما تكون النازلة قد توفر فيها شروط الحكم: السرقة في مجتمع كان يعيش على التناهب حكمها ينبغي ان يكون مشددا. لكن عندما الدافع قاهرا (الجوع) فمقدار العقوبة يتغير بسبب الظرف دون تعطيل الحكم.

من هنا نستخرج قاعدتين:

– الأولى هي أن التقدير الذهني كما أسلفنا أوسع من تطبيقاته.

– والثانية التطبيقات تاريخية في النظر هي رهن تقدم التجربة الطبيعية (ضرورة الطبائع) وفي العمل هي رهن تقدم التجربة التاريخية (حرية الشرائع). فلا يمكن لصفات القانونية أن تتغير لكن ظرفيات تطبيقها متطورة.

وظرفيات التطبيق في الشرائع تتعلق بظرف الفعل ودوافع الفاعل وشروط العدل التي لا تكتفي بالنص بل بصفات القاضي وشرعية الحكم الذي يعينه ودور الجماعة في تحديد العدل بالاجتهاد إذ لا وجود لغيره بديلا منه يحدد ما تعتبره الجماعة عدلا في عصر من تاريخها: المهم أن تكون مستجيبة للرب.

أما في جماعة “فسدت فيها معاني الإنسانية” بلغة ابن خلدون الكلام على تطبيق الشريعة يعني في الحقيقة جعل الاستبداد والفساد ينتحل صفة الدفاع عن الشريعة ليبرر أفعاله التي هي معادية لله ورسوله كما نرى ذلك اليوم في كل دار الإسلام بحلف بين الطاغوتين: العلماء والامراء.

ولا فرق عندي بين العلماء بالمعنى التقليدي أو بالمعنى الحديث: لأن المستبدين والفاسدين الذين يحكمون دون شرعية الإرادة الجماعية بنوعيهما العسكري والقبلي لا يختلفون في شيء: سواء استعملوا مبرر الشريعة أو القانون الوضعي فالشرعية مفقودة في الحالتين و”العلم” المزعوم زائف.

وأسخف شيء أسمعه المقابلة بين الشورى والديموقراطية. فكما تزيف الشورى تزيف الديموقراطية. لكن حقيقتها واحدة: لا شرعية لحكم لم ينتج عن إرادة الجماعة أيا كانت آليات التعبير عن هذه الإرادة بالانتخاب الحر أو بالبيعة الحرة. ففي الحالتين واجب المشاركة في التعبير عن الإرادة فرض عين.

كل الفتاوى التي تعتبر الديموقراطية كفرا حجتهم أن الديموقراطية تجعل الإنسان مشرعا. وهذه كذبة: هي تجعله مشرعا من منطلق مرجعيته. وليست الشورى مطالبة بغير ذلك: التشريع من منطق مرجعية المؤمن. فهل الحكم الإسلامي بالشريعة الإسلامي يطلب أقل من ذلك؟

هم جعلوه يطلب أقل من ذلك عندما اعتبروا أن المشاركة في التشريع في السياسيات من جنس المشاركة في القضاء. فجعلوا السلطة التشريعية تابعة للسلطة القضائية واعتبروا الفقيه من حيث هو فقه مشرعا. نسوا أهم شيء وهم التعبير عن إرادة الأمة فرض عين ليس فرض كفاية مثل القضاء والافتاء.

فالتشريع بالنسبة إلى المؤمنين هو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهي يوجد منكر أكثر من اغتصاب إرادة الجماعة والحكم بالتغلب بدل الشرعية التي هي اختيار الجماعة كل الجماعة لمن توليه إدارة أمرها يعني من لا يزعم الأمر أمره بدلا منها بل هو مجرد نائب يخدمها وموظف لديها.

وهذا هو ما كان يفهمه الخلفاء الراشدون من الحكم: فرض كفاية لأنه لا يمكن لكل افراد الجماعة أن يتولوا الحكم لكن الحاكم لا يكون شرعيا إلا بفرض عين يختاره ويراقبه ويعزله إذا انحرف عن العقد السياسي والاجتماعي الذي نتج عن انتخابه بقاعدة لا طاعة في معصية.

فحقيقة القرآن هي نعلمها من الآيات التي يرينها الله في الآفاق والأنفس: وعلم الأفاق والانفس هو الحكم في فهمنا لحقيقة القرآن بنص القرآن نفسه في هذه الآية. وهذا ينطبق طبعا وقبل كل شيء على السياسة والقانون. لا يمكن أن ندعي أن نوازل السياسة والقانون ليست تاريخية وإلا فنحن بين أمرين وقعت فيهما الامة بسبب تزييف أحكام السياسة والقانون: إما نجمد التاريخ أو نزيف فهم القرآن. كلاهما حصل وهو حقيقة الانحطاط الذي مرت به الامة. وهنا يبرز معنى رفضي للمقاصد أو حماية ما يسمونها الضرورات الخمسة. المشكل ليس مقصورا على حصر التشريع فيها بل في معنى الحماية.

فحتى من دون شريعة كل كائن حي بما فيها الحيوانات تحمي شروط عيشها أو “حوزها” أو مجال حياتها دون حاجة لشريعة لا معنى لها بما يتجاوز الطبيعة أي الحرية. وفي النهاية فالمشكل هو أن مفهوم القانون والشريعة غير مفهوم في نظرية المقاصد لأنها تعريف لهما بمجال محدد للانطباق.

القانون والشريعة لهما نفس التعريف بصرف النظر عن المشرع. فسواء كان الله أو الإنسان وظيفة القانون والشريعة واحدة وهي النظام المحقق للتعاوض العادل بصفات إذا لم تتوفر فيه لا يكون عادلا وليس قانونا أصلا ولا شريعة: وتكون فيه وفي شروط الفعل به أي القضاء حكما وتنفيذا.

وحاصل الامر كله هو غياب نظرية العلاقة بين المقدرات الذهنية التي تحدد ما يشبه عالم المثل الشامل للموجود وللمعدوم أو للممكن الحاصل وللمكن الذي لم يحصل بعد أو قد لا يحصل ابدا في علاقته بما قد يطابقه في الوجود الفعلي دنيويا كان أو أخرويا حصرا في أحدهما أو جمعا بينهما.

وهذا هو القصور الذي أدى إلى انحطاط الامة في النظر والعمل في آن حتى صارت عاجزة عن تعمير الأرض بقيم الاستخلاف أو بدونها. فصارت كما وصفها ابن خلدون عالة على غيرها في الحماية والرعاية لأن “معاني الإنسانية” فسدت فيها وفقدت من ثم اهلية الخلافة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي