مسخ الكيان، يحارب شرطي حرية الانسان – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مسخ الكيان

أختم بتعريف “مسخ الكيان” كما وصفه ابن خلدون باعتباره من علامات انحطاط الأمم ونهاية الحضارة. ولئلا يساء فهمه فالأمر ذو صلة بفهمه للتاريخ.

ففهمه للتاريخ شديد التعقيد وله خمسة إيقاعات: الأقصر والقصير والمديد والأمدد والمتردد بين القصير والمديد. والمتردد بينهما هو الأعسر فهما.

  1. فالأقصر يتعلق بالفرد

  2. والقصير بالأنظمة

  3. والمديد بالحضارات

  4. والأمدد بوحدة الحضارة الإنسانية.

  5. أما المتردد بين القصير والمديد هو لتداول الشعوب.

فنموذجه النظري للحضارة عضواني: مثل الحياة:

  1. الفرد حياته أقصر

  2. والجماعة حياتها قصيرة

  3. والنوع حياته مديدة

  4. والحياة ذاتها حياتها أمدد.

  5. ثم الوصل بين القصير والمديد يفهمنا النقلة من غاية الجزئي الى غاية الكلي: فنفس الحضارة يتداول عليها شعوب فيبثون فيها حيوية تطيل عمرها.

فإذا طبقنا النموذج نفهم أن الحضارة الإسلامية لم تدم أربعة عشر قرنا بالعرب وحدهم وهي لم تعش كل هذه المدة إلا بفضل تداول الشعوب المسلمة على حملها.

اضطررت للتمييز بين هذه الأنواع من التاريخ حتى لا نسيء فهم ابن خلدون لأنه يكتفي بنوعين هما القصير والمديد لكن نموذجه حينها يصبح غير مفهوم.

اضطررت إلى قسمة القصير إلى قصير وأقصر والمديد إلى مديد وأمدد ثم أضفت المتردد بين القصير والمديد لكي أفهم معنى موت الحضارة بمقياس عضوانيته.

يقول ابن خلدون تعريفا لنموذجه العضواني: “فقد بينا لك فيما سلف أن الملك والدول غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس. كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرا محسوسا. وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا كذلك. لأنه غاية لا مزيد وراءها. وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة احواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالصنائع المهيئة للمطابخ والملابس أو المباني أو الفرش وأو الآنية ولسائر الأحوال”

وإذن فالانحطاط في حياة الحضارة يناظر الشيخوخة والموت في حياة الحي.

لكن مثلما أن حياة الأحياء باقية ما بقي أحياء يرثونها فكذلك الحضارة فهي باقية ما بقيت بشر يرثونها. ومن ثم ففيها المستويات الخمسة التي ذكرنا.

فيكون ضمير كلامه أن ما يموت ليس الحضارة عامة بل حضارة بعينها كما أن ما يموت ليس الحياة عامة بل حياة بعينها. وحياة بعينها هي حوامل الحياة.

ولا يفهم كلام ابن خلدون عن موت الحضارة إلا إذا فهمنا منه أن ما يموت هو حواملها لكنها هي مثل الحياة تتوارثها الشعوب المتحضرة مثل الحياة.

لو أخذنا مثال الحضارة الإسلامية: اي فرد مسلم ثم العرب ثم الشعوب التي أسلمت كالترك والفرس والأمازيغ والأفارقة والمغول والهنود والملاويين.

لكن الحضارة الإسلامية ورثت الحضارات المتقدمة عليها ورثتها الحضارات التي تجاوزتها في نهايات القرون الوسطى وهي تستأنف بوراثة الحضارة الغربية.

ومثلما ان الوراثة البايولوجية لا تكون إلا في تلاقح فعلي بين حيين فكذلك الوراثة الحضارية لا تكون إلا بين حضارتين متساوقتين نازلة وصاعدة.

والنازلة شائخة والصاعدة شابة. وابن خلدون يصف أهل الحضارة التي شاخت وقربت من أرذل العمر بأن أهلها يصبحون مسخا من الإنسان على الحقيقة.

لكن الظاهرة التي تكلمت عليها لا تحصل إلا في حالات الأخذ المباشر لثمرات الحضارة الآفلة دون النضوج الفعلي الموصل إليها: استيراد الشيخوخة.

فلأوضح: شعب بدوي يرث دفعة واحدة ثمرات حضارات أنضجتها القرون فلا يرث منها عملها الذي أنضجها بل نتائجه دون جهودها ومقدماتها: يرث الشيخوخة.

وهذه حالنا نحن العرب. ورغم ما في القرآن من تحذير حصل للعرب الأول ما يحصل للعرب الحاليين. شاخوا بسرعة لأنهم غرقوا في عواقب الشيخوخة السريعة.

تسلطنوا دون عمل فصاروا بسرعة عبيدا لثمرات السلطنة التي ينتجها غيرهم ممن ظنوهم خدما لهم فإذا هم عين السادة. لهم ظاهر السلطان ووهم السيادة.

ولما كان السلطان لا يبقى بنتائجه بل بمقدماته وشروطه فإن العرب سرعان ما يأفل دورهم الحضاري ويصبح لغيرهم إما من بين المسلمين أو ممن ينافسهم.

وتكون حضارتهم قشرية لا تتجاوز مظاهر السلطان والحضارة لأن الحضارة مثل الحياة تبحث عن المبدعين لشروط البقاء العضوي والحضاري: المسخ من هؤلاء.

فيبين دلالة الآية ليس بشرح ألفاظها كما جرت عادة المفسرين بل بالبحث العلمي الذي يعلل موت الحضارات بأسبابها وقد ردها إلى عاملين مادي وروحي.

وإلى دورهما في الرعاية والحماية من حيث الفاعلية المادية والخلقية: تفاعل الاقتصادي والثقافي في سياسة الجماعات وعاداتها الغذائية والجنسية.

فالسياسة الاقتصادية الفاسدة تجعل استهلاك الدولة يستنزف جهاز الانتاج بالضرائب فترتفع كلفة البضائع والخدمات ويكثر الفقر والتحيل للعيش.

وتفسد الحياة الجنسية التي تترتب على ترف الأغنياء وحاجة الفقراء فيكثر الزنا تفسد الأنساب واللواط فيقل الانجاب وتسرع الخطى نحو الشيخوخة.

لكأن ابن خلدون يصف ما نراه يجري فعلا في الحضارات المائلة إلى الشيخوخة من حولنا. لكن لهذه الظاهرة سياقين: سياق المتحضر فعليا وسياق المحاكي.

وما يعنيني هنا هو سياق المسخ المحاكي للمسخ الفعلي. فالنخب العربية الحاكمة والتابعة لها مسخ محاك وليست مسحا فعليا. لهم آفات الحضارة دون تحضر.

لذلك فنهمهم على ما وصف ابن خلدون مرضي لأن ما لهم من الحضارة هو حصيلة شيخوختها لا شروط شبابها: ففي مقابل الاستهلاك لا يوجد إنتاج.

فيكون سلوكهم سلوك وارث تركة كبيرة يعيش على بيعها دون تعويضها ما يستهلكه بما ينتجه فيسرع في الذهاب اليقيني للفقر والتبعية ككل ابن عاق.

ويجمع ابن خلدون بين العاملين الاقتصادي والثقافي بالصورة التالية وكأنه يصفنا حرفيا: “وإذا بلغ التأنق في هذه الاحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ودنياها. أما دينها فاستحكام صبغة العوائد يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها. وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته. ثم تزيدها المكوس علاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة حرجها حينئذ كما تقدم. والمكوس تعود على البياعات بالغلاء لأن السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في مؤونة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلا في قيم المبيعات وأثمانها. فتعظم نفقات أهل الحاضرة تخرج عن القصد في الإسراف. ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر ويقبل المستأمنون للبضائع فتكسد الأسواق وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف وهذه مفسدتها في المدنية على العموم وفي الاسواق والعمران. وأما فساد أهلها في ذاتهم واحدا بعد واحد على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتخيل على تحصي المعاش من وجهه ومن غير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم اجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات. ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك. وتجدهم أيضا أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح وحتى يصير ذلك عادة وخلقا لأكثرهم إلى من عصمه الله.ويموج بحر المدينة بالسفلةمن أهل الأخلاق الذميمة”

ما أصل أغلب الحكام العرب والنخب التابعة لهم من النوعين الدينية والحداثية؟

كلهم من انتقلوا فجأة من البداوة إلى الحضارة ليشغلوا المنزلتين.

فسواء الحكم القبلي أو العسكري كلاهما بيد بدو نصبهم الاستعمار على قطع من دار الإسلام ومكنهم من حصة من ثروة البلاد فاستتبعوا نخبا من جنسهم.

فصح عليهم الوصفين الخلدونيين: ترف الحكام وجوع النخب. لذلك فهؤلاء هم كلابهم مثلما أنهم هم كلاب المستعمر: يستعملهم لعض الشعوب المتواصل.

ولا وصف يليق بهم إلا ما قاله شاعر نكبة الاندلس: ألقاب سلطة …كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد. ليست دول العرب دولا: محميات نصب عليها عملاء.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي