لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مسخ الكيان
في كلامي على مسخ الكيان الذي يحارب شرطي حرية الإنسان تكلمت على أن الأمم لا يمكن أن تكون سيدة من دونهما لكن هذه الكونية يحتكرها الأقوياء.
وبينت أن الإسلام الذي هو الديني في كل دين قويم وأنه كوني وأن ما تختلف به الأديان المحرفة عنه هو بالذات احتكار وسطاء وأوصياء هذين الشرطين.
فعندما يوجد وسيط بين الإنسان وربه روحيا يحتكر الإنسانية ومن قبل بالوساطة لا يبقى منه إلا الحيوان التابع لمروضه الذي يلغي حريته الروحية.
فيقاد من قبل الوسيط لا يرى إلا ما يريه ولا يعتقد إلا ما يلقنه فيصبح عبدا: فإذا خرج عن طاعته سماه آبقا لكأنه مالكه بديلا من ربه نطقا باسمه.
وإذا وجد وصي بين الجماعة وإدارة شأنها العام يحتكر السلطة السياسية ومن قبل بالوصاية لا يبقى منه إلا القطيع التابع لـ”راع” يلغي حريته السياسية.
فينتج عن ذلك أن الإسلام عوض الوساطة الكنسية بالاجتهاد فرض عين على كل إنسان وعوض الوصاية السياسية بالجهاد فرض عين عليه لقيام الجماعة الحرة.
هذا تلخيص ما جاء في الفصل الأول. ما أريد البحث فيه اليوم هو كيف فقدت الامة هذين المقومين للإنسان عامة كفطرة أولى وللمسلم خاصة كتذكير بها؟
والتذكير-أو القرآن-بهذين البعدين من كيان الإنسان المحررين من الطاغوتين الكنسي والسياسي لا يقتصر على المسلمين بالفعل بل يشمل بالقوة كل إنسان.
فالقرآن وخاصه قصصه ليس هو شيئا آخر غير العرض النقدي لوحدة المصير الوجودي والمسار التاريخي للإنسانية كلها من منظور روحي سياسي.
والقرآن وخاصة حجاجه العقلي ليس هو شيئا آخر غير إثبات صلة ذلك بالعقائد والشرائع التي هي جوهر الدين الذي ينبغي أن يكون واحدا للإنسانية كلها.
ليست وحدة مفروضة بل هي تربية صبورة بمتعاليات الوجودين الدنيوي والأخروي التي جعلت تعدد الأديان رغم ما فيه من تحريف مجال التسابق في الخيرات.
وإذا كشفنا مسار الانقلاب على هذه القيم وخاصة على الحريتين الروحية والسياسية أمكن لنا أن نشخص الأدواء فنعالجها بما جعله القرآن لها دواء.
اغلب الدجالين من فقهاء السلطان يعتبرون مثل كلامي تركا لجوهر الدين أي تخريفهم حول الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله بدعوى التمحض للعبادة.
وينسون أن الله أرسل رسالة تتعلق بشروط تحقيق مقومي الإنسان أعني جوهر العبادة: كيف ينجح الإنسان في تحقيق شروط الأمانة التي قبلها ظالما لنفسه.
الرسالة هي مساعدة إلهية للإنسان الذي قبل الأمانة وتشجيعا له حتى يحقق المهمة ببعديها: تعمير الارض وقيم الخلافة بما هي ما يفضل به على غيره.
والقيم التي يذكر بها القرآن ويعتبرها كونية والتي يثبت بها الإنسان أهليته في الخلافة لا تتعين إلا في نظام تعميره الأرض بمعيار تلك القيم.
ولما كان الجزاء والعقاب الأخروي في حضرة حاكم الحاكمين فرديا خالصا كان أهم ملاحظة قرآنية على من يحاول تحميل الوسيط والوصي هي جواب ابليس.
ومعنى ذلك أن حكم الوسطاء والأوصياء هو حكم إبليس الذي يغرر بالبشر ليحول دونهم والوعي بمسؤوليتهم الروحية والسياسية في الامتحان الدنيوي.
وواضح أن هذا التحريف حصل في الحضارة الإسلامية وهو نوعان:
– الأول لا يحتاج لدليل لأنه عين عقيدة الشيعة.
– والثاني هو الفصام السني في هذه القضية.
ففي الأقوال المبدئية لم يحرف الفكر السني هذين الحريتين لكن الأفعال تناقضهما بتعليل يرد إلى ضرورات أباحت محظورات: اضفاء الشرعية على التغلب.
وبذلك صار للسنة أيضا سلطان كنسي مثل التشيع وهو سلطان مضاعف: الفقهاء والمتصوفة:
باسم العلم النقلي الفقهي
وباسم العلم اللدني الصوفي
وكلاهما كما بينت في غير موضع علم زائف: ذلك أن الفقيه لو اكتفى بوظيفته القرآنية لكان قاضيا يتوسط لحل نزاع بين الخصوم وليس بين الإنسان وربه.
وتوسطه بين الإنسان وربه هو ما يسمى بالإفتاء اي الوساطة التي تلغي الحرية الروحية لأن المستفتي يهرب من مسؤوليته لكأن المفتي ينطق باسم الله.
قد يوجد من المفتين من يخاف ربه فلا يفتي بهذا المعنى بل ينصح ويعلم المستفتي أنه يجتهد ليساعده على الاجتهاد ولا يعوض استفتاء القلب الشخصي.
ووساطة المتصوف أخطر لأنه يدعي علما لدنيا وكشفا للغيب لا يوجد فقيه يستطيع زعم ذلك. فهو يجعل تابعيه جثثا يغسلها فأعادوا الأمة إلى الوثنية.
هذا على المستوى الروحي والرمزي. لكن الأمر أصبح على المستوى السياسي والفعلي نظاما يجعل الاجتهاد والجهاد فرضي كفاية: العلماء والحامية.
في دولة الرسول لم يكن للأمة هذا المنظور: العلماء معلمون لا وسطاء والمهرة في فنون الدفاع معلمون لا أوصياء: اجتهاد الشعب وجهادة كلاهما فرض عين.
فعندما يصبح الاجتهاد فرض كفاية يعم الجهل الأمة فيصبح المحتال من “العلماء” وسيطا بمعلم فاسد. فصار الأعمش قائدا للعميان: لم يبق الاجتهاد فرض عين.
وعندما يصبح الجهاد فرض كفاية يعم الجبن الأمة فتصبح المستبد من “المرتزقة” أوصياء بـ”معلم” دفاع فاسد فيصبح المرتزق قائدا لقطعان منزوعة السلاح.
وأول عمل يقوم به الوسطاء هو تعميم الجهل ونزع سلاح المعرفة من الشعب وأول عمل يقوم به الاوصياء هو تعميم الخوف ونزع سلاح الحماية من الشعب.
وهذا يعني أن الأمة كانت منزوعة السلاحين الاجتهادي والجهادي قبل الاستعمار وهو ما جعلها قابلة للاستعمار فكان أغلب الأوصياء والوسطاء خدما له.
فمن جعل الاجتهاد فرض كفاية أصبح في الحقيقة أصل تعميم الجهل. ومن جعل الجهاد فرض كفاية أصبح في الحقيقة أصل تعميم الخوف: نفي شرط الحريتين.
فيفقد الفرد الحرية والروحية وتصبح الجماعة المؤلفة من مثل هؤلاء الأفراد فاقدة للحرية السياسية أي تحقيق الحرية الروحية في التاريخ الفعلي.
ستسمع الفقهاء يقولون لك مثلما تحتاج إلى استشارة طبيب في الأمراض فينبغي استشارة فقه في الدين. وهو عين الدجل المنطقي بقياس مغالطي بين.
فأولا الطبيب ضروري للمرضى وليس لكل البشر. الدين ضروري لكل البشر. فهل يقتضي مختصين فيما هو ملازم لحياة الإنسان في كل حين وفي كل مكان؟
لذلك أصبح لهم راي في كل شاردة وواردة ووضعوا دعاء لكل فعل حتى دخول بيت الراحة والخروج منها. نسوا أن الفعل الديني بنيته وليس بكيفيته.
فمجرد تعدد أوضاع اليدين في الصلاة في الممارسة النبوية دليل على أن ذلك ليس له كيفية واحدة وهو ليس من مقومات صحة الصلاة: صحتها في النية.
وطبعا لست بهذا أنفي التبرك بالكيفيات التي كان الرسول ميالا لها دون مفاضلة بينها. لكن ذلك ليس من شروط صحة الصلاة. وقس كيفيات الأفعال الأخرى.
لماذا ذكرت هذا المثال؟
لبيان المقصود بالحاجة لعلم يكون فرض كفاية وهو في شكليات غير مقومة لجوهر العبادة والإيمان اللذين هما في متناول الجميع.
وليت هذا التعالم في الشكليات غير المقومة كان سديدا. فلست أفهم كيف جعلوا ما هو فرض ديني يقع مرة واحدة في الحج يصبح واجبا كل سنة خارج الحج.
الاضحية يقدمها الحاج احياء لوصل الحنيفية الأولى (دين أبراهيم) بالثانية (دين الإسلام) كرمز كوني لتحرير الإنسان من التضحية بالإنسان.
إنها من مقومات الحج ولا معنى لها خارج الحج: الحج جملة من الرموز التعبدية والمشاعر التي تتألف من الجمع بين الإبراهيمية والمحمدية عند المسلم.
وينبغي أخيرا تجنب استنتاجين خاطئين مما أقول هنا: لا يمكن تصور أمة من غير معلمين للاجتهاد والجهاد. والتمكن من صناعة التعليم فيهما فرض كفاية.
لكن تعلمهما وممارستهما عند الحاجة إليهما فرض عين. فإذا لم يصبح المعلم بديلا من المتعلم صار التعليم مصدر نشر الاجتهاد والجهاد بخلاف العكس
لا بد من وجود معلمين أكفاء للاجتهاد والجهاد. لكن حصر الاجتهاد والجهاد فيهم يعني جعل البقية اميين ومخنثين. أي قوم فسدت فيهم معاني الإنسانية.
فصارت الأمة خاضعة لأفسد معلمين في الاجتهاد والجهاد لكونها صارت غائبة عن شؤونها الروحية والمادية لغيبوبتها وفقدانها شروط الحماية والرعاية.
والاجتهاد ليس ما حصروه فيه أي أقل الأمور حاجة إليه لأن العبادات أقصى ما تحتاج إليه من تعليم هو التربية العملية التي تجعلها عادات حميدة.
الاجتهاد هو عمل الفكر لتحقيق شروط الحماية والرعاية أي شروط تعمير الارض بنوعيها غاية بأدوات يبدعها العلم ويجودها العمل: علوم الطبيعة والتاريخ.
والجهاد هو عمل الإرادة الخلقي والدفاعي: الجهاد الخلقي هو المجاهدتان (التقوى والاستقامة) والجهاد الدفاعي هو حماية ما سموه مقاصد الشريعة.
لماذا قلت ما “سموه مقاصد الشريعة”؟
هل لأني أرفض هذا الفهم للشريعة؟
أم لأمر آخر. سأترك رفضي لمفهوم مقاصد الشريعة فليس هنا محل الكلام عليه.
الأمر الآخر هو الخطأ العجيب من أصحابها: فعندما تجعل الشريعة وظيفتها حماية هذه المقاصد فقد أهلمنا أمرين أهم منها بكثير. فهي لا تحمى مباشرة.
فحماية العقل والمال والنسل والدين والنفس ليست فردية رغم أن واجب المشاركة فيها فردي أو فرض عين. لا تحمى إلا بشرطي الحماية والرعاية الجماعية.
ومن ثم فالشريعة لا تنطبق على “المقاصد” الخاصة بالأفراد إلا بتوسط ما يعلو عليها فيجعها ممكنة: ما الذي يجعلها حقوقا ينبغي الدفاع عنها؟
إنه الدلالة الحقيقة لمفهوم الشريعة أي الأخلاق الموضوعية التي تجعل الجماعة قابلة للتعايش السلمي فلا يعتدي بعضها على بعضها في هذه المجالات.
وهو ما يعني أن الشريعة هي عين المؤسسات القانونية والخلقية التي تتألف من وظائف الدولة المبنية على مرجعية الشريعة (في حالتنا الإسلام).
في غياب هذا المفهوم أو ترك لقانون الغلبة الطبيعية تكون الشريعة قد رفعت ولم يبق لها وجود بل يصبح ما يسمونه مقاصد الشريعة أساس حرب أهلية.
فجعل فرض الجهاد العيني متعلقا بها فرديا يعني جعل الفرد آخذا حقه بنفسه بدل الدولة التي هي الضامنة للحقوق كوازع خارجي مساند لأخلاق الجماعة.
وهو أكبر تقصير فقهي تعاني منه الأمة: غياب فلسفة الحقوق والواجبات وتعينها الفعلي في الدولة ومؤسساتها. وهو نكوص عن قيم الإسلام إلى البداوة.
والمشكل هو أن الحركات التي تدعي المقاومة باسم الإسلام توطد هذا النكوص فيصبح سعيها ذو الغاية النبيلة منافيا لنبلها بالوسائل الرذيلة.
انتهى هذا الفصل.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها