لا توجد حرية أو كرامة للفرد والجماعة من دون سيادة ناتجة عن قدرة فعلية للأمة تحقق ذاتيا الرعاية (سد الحاجات) والحماية (الامن الداخلي والخارجي).
وهنا ينبغي أن نفهم أن كل فرد أو شعب لا يحقق هذين الشرطين فيرعى نفسه ويحميها ليس حرا بل هو عبد لغير الله أي لمن بيده قدرة رعايته وحمايته.
والشعوب المستعبدة هي الشعوب التي عجزت عن رعاية ذاتها وحمايتها بسبب خضوعها للاستبداد والفساد وعبادتها للعباد بدل رب العباد: ذلك هو الداء.
وما يقال بلغة تبدو دينية ونقلية هو في الحقيقة عين ما يقال بلغة فلسفية وعقلية: فلا مشاحة في الاصطلاح. المعنى واحد. لا حرية بدون اجتهاد وجهاد.
ومفهوم “فساد معاني الإنسانية” الخلدوني يتعلق بفقدان القدرة على الاجتهاد والجهاد: “وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين”
تلك هي أوصاف المسخ كما يقول في غاية كلامه على موت الحضارات:” وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة”
من هنا جاء عنوان المحاولة “مسخ الكيان”.
هذا الفصل الاخير خاتمة للمحاولة التي تبين أن الإشكالية ليست جديدة وأن ابن خلدون قد حاول التنظير لها بتعليلها بالتربية والحكم المستبدين.
لو كان لأدعياء الحداثة مقدار ذرة من عقل لفهموا هذه الحقائق ولما اتهموا الاجتهاد والجهاد مرددين أسقاط الأعداء لإرهابهم على مغزويهم ليستسلموا.
إنهم يشاركون لمعتدين والغزاة في حربهم على مبدأي صمود الأمم سواء كانت قائلة بالمرجعية الدينية أو العلمانية: الجميع يحقق شروط قيامه بهما.
فلا يمكن لأي أمة أن تكون حرة إذا كان أفرادها فاقدين للقدرتين الاجتهادية والجهادية أعني للفكر والعمل لصيانة شروط بقائها المادية والروحية.
فمن استتبع في فكره الاجتهادي وعمله الجهادي فقد السلطان على شروط بقائه فصار مدينا به لمن يسيطر عليها وأصبح عبدا له فاقدا سيادته وحريته.
فكل من لا يفهم شروط الحريتين هذه ينطبق عليه حكم ابن خلدون: فقد إنسانيته لأنه صار عالة على غيره في قيامه وأمنه وتابعا لسادة هذا السلطان.
والمطبلون لفقدان هذين الشرطين هم علماء السوء التقليديين وسخفاء الحداثيين الذين انضموا إلى صف الثورة المضادة فصاروا عملاء لعبيد الأعداء.
فكيف لهذه النخب بصنفيها المدعين للتأصيل والتحديث أن يقبلوا بوضع العبيد من الدرجة الثانية لأن سادتهم هم عبيد حماة المحميات التي نصبوا عليها.
العلة هي فقدان معاني الإنسانية أو الحريتين الروحية والسياسية بسبب اخلادهم إلى الارض: كالكلاب يلهثون سواء حملت عليهم أو لم تحمل لدناءتهم.