مسخ الكيان، يحارب شرطي حرية الانسان – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مسخ الكيان

وبمحاولة فلسفية خالصة طلبا للعلل الاولى لهذا المسخ الذي أفقد الأمة شرطي حرية الإنسان الروحية والسياسية وصلت إلى ما يبدو عديم العلاقة به.

ذلك أنه يعسر أن يفهم من لا يتتبع المسألة بدقة البحث الجنائي-أتجنب استعمال مصطلح كبائر-الوصول إلى أمر يبدو في البداية عديم الصلة لكنه محدد.

فالذين يدعون وراثة النبي ورثوا ما لا يملك: يتكلمون في الغيب الذي يعترف النبي نفسه بأنه محجوب على المخلوقات جميعا بمن فيهم الأنبياء والرسل.

وتركوا شروط تحقيق الأمانة: تعمير الارض بقيم الاستخلاف لأن تقييم أعمال الإنسان يوم الدين يتعلق بهذين الامرين:

  1. تعمير الأرض

  2. بقيم الاستخلاف

والتعمير ممتنع من دون العلوم التي تكتشف قوانين الطبيعة (شرط الرزق المادي) وقوانين التاريخ (شرط الرزق الخلقي): المعرفة العلمية بعالم الشهادة.

ومعرفة عالم الشهادة ينقسم إلى نوعين من العلوم غائية وأداتية كل منهما مؤلف من مجالين معلومين كلها أهملت وأصبح لا علم إلى بما لا يعلم بالطبع.

فالعلوم الغايات هي علوم الطبيعة وعلوم الإنسان والعلوم الغايات هي علوم التعبير (اللغة والتاريخ) وعلوم التصوير (الرياضيات والمنطق).

وفي هذه العلوم كلها ليس لمن يسمون علماء في التراث دور يذكر فيها وما يستعملونه منها لم يتجاوز مبتذلات الفلسفة اليونانية في صيغتها العربية.

واستثني من ذلك المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) التي حاولت التحرر من وضع تراث فلسفي وكلامي جعل الاجتهاد مبنيا على موميات.

وأكثر ما اشمئز منه كلام الدعاة في الجنة والنار وتصنيف الناس بمعايير ما أتى الله بها من سلطان أو يخرفون حول قشور لا دخل لها في جوهر العبادات.

إذ أشعر أن وظيفتهم تناقض القرآن بالجوهر: فهو يريد من العلماء تحقيق شروط اهلية الإنسان للاستخلاف وهم يحولون دونه بعلم مستحيل مآله الخرافة.

والتعالم بالإعجاز العلمي يرفضه القرآن لقوله صراحة إن حقيقته تطلب من آياته في الآفاق والانفس ومن يطلبها في الغيب مريض القلب ومبتغي الفتنة.

فاستعمار الإنسان في الأرض هو الجزء الأول من الأمانة: أن يستفيد الإنسان مما سخر له بالكشف عن قوانين الطبيعة واستعمال ثرواتها لحياة كريمة.

والأخلاق المصاحبة لهذا العمل هي التي تدل على اهلية الاستخلاف وهي محددة في القرآن ومطبقة في السنة لكنها تعلم خاصة من التاريخ وتجارب الأمم.

والتاريخ وتجارب الامم ليست خرافات من جنس أيام العرب بل هي ما حاول أبن خلدون بيانه عندما اعتبر مهمته نقل التاريخ من جنس الأدب إلى جنس العلم.

وجنس العلم التاريخي في صورته الخلدونية مسبوق بعلم يجعل نقده ممكنا حتى يرفعه إلى منزلة العلم الذي يخبر عن تجارب الامم وعلل صعوها ونزولها.

وهذا العلم الأصل هو الذي بفضله يمكن القول إن ابن خلدون قد قطع مع مجرد وضع الفلسفة القديمة والوسيطة ليحدث ثورة تجعله بديلا من الميتافيزيقا.

وقد سميته الميتاتاريخ أو مابعد الأخلاق تأسيسا لشروط العلم الإنساني الذي يحقق التعمير بشروط الاستخلاف وتشخيصا لعدما المؤدي إلى الانحطاط.

والاجتهاد قرآنيا هو أصل كل معرفة علمية تحقق شروط استعمار الإنسان في الأرض بشروط الاستخلاف أو بعدمها والجهاد هو محاولة جعلها بشروطه ما أمكن.

والمهمتان تحققان شروط الرعاية (سد الحاجات المادية (الاقتصاد)والروحية(الثقافة)) والحماية (الأمن والدفاع الداخليين والخارجيين) شرطي سيادة الأمة.

لا توجد حرية أو كرامة للفرد والجماعة من دون سيادة ناتجة عن قدرة فعلية للأمة تحقق ذاتيا الرعاية (سد الحاجات) والحماية (الامن الداخلي والخارجي).

وهنا ينبغي أن نفهم أن كل فرد أو شعب لا يحقق هذين الشرطين فيرعى نفسه ويحميها ليس حرا بل هو عبد لغير الله أي لمن بيده قدرة رعايته وحمايته.

والشعوب المستعبدة هي الشعوب التي عجزت عن رعاية ذاتها وحمايتها بسبب خضوعها للاستبداد والفساد وعبادتها للعباد بدل رب العباد: ذلك هو الداء.

وما يقال بلغة تبدو دينية ونقلية هو في الحقيقة عين ما يقال بلغة فلسفية وعقلية: فلا مشاحة في الاصطلاح. المعنى واحد. لا حرية بدون اجتهاد وجهاد.

ومفهوم “فساد معاني الإنسانية” الخلدوني يتعلق بفقدان القدرة على الاجتهاد والجهاد: “وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين”

تلك هي أوصاف المسخ كما يقول في غاية كلامه على موت الحضارات:” وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة”

من هنا جاء عنوان المحاولة “مسخ الكيان”.

هذا الفصل الاخير خاتمة للمحاولة التي تبين أن الإشكالية ليست جديدة وأن ابن خلدون قد حاول التنظير لها بتعليلها بالتربية والحكم المستبدين.

لو كان لأدعياء الحداثة مقدار ذرة من عقل لفهموا هذه الحقائق ولما اتهموا الاجتهاد والجهاد مرددين أسقاط الأعداء لإرهابهم على مغزويهم ليستسلموا.

إنهم يشاركون لمعتدين والغزاة في حربهم على مبدأي صمود الأمم سواء كانت قائلة بالمرجعية الدينية أو العلمانية: الجميع يحقق شروط قيامه بهما.

فلا يمكن لأي أمة أن تكون حرة إذا كان أفرادها فاقدين للقدرتين الاجتهادية والجهادية أعني للفكر والعمل لصيانة شروط بقائها المادية والروحية.

فمن استتبع في فكره الاجتهادي وعمله الجهادي فقد السلطان على شروط بقائه فصار مدينا به لمن يسيطر عليها وأصبح عبدا له فاقدا سيادته وحريته.

فكل من لا يفهم شروط الحريتين هذه ينطبق عليه حكم ابن خلدون: فقد إنسانيته لأنه صار عالة على غيره في قيامه وأمنه وتابعا لسادة هذا السلطان.

والمطبلون لفقدان هذين الشرطين هم علماء السوء التقليديين وسخفاء الحداثيين الذين انضموا إلى صف الثورة المضادة فصاروا عملاء لعبيد الأعداء.

فكيف لهذه النخب بصنفيها المدعين للتأصيل والتحديث أن يقبلوا بوضع العبيد من الدرجة الثانية لأن سادتهم هم عبيد حماة المحميات التي نصبوا عليها.

العلة هي فقدان معاني الإنسانية أو الحريتين الروحية والسياسية بسبب اخلادهم إلى الارض: كالكلاب يلهثون سواء حملت عليهم أو لم تحمل لدناءتهم.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي