ملاحظة أولى:
كيف نجمع بين الفكر الإصلاحي والثورة؟ فالثورة تحصل عادة عندما يفشل الإصلاح. ومعنى ذلك أن الثورة هي الحل البديل من الإصلاح الذي لم يؤت أوكله أو الذي فشل. ولعل أكبر دليل على هذا التطابق والمفارقة بين المفهومين هو أننا نرى كل الأنظمة عندما تقوم فيها ثورة، تريد أن توقفها بوعد الإصلاح. فيصبح الإصلاح مسكناً للثورة وليس علاجاً يمكن أن يغني عنه.
ملاحظة ثانية :
هي الكلام عن الثورة العربية بالجمع ، العنوان يتحدث عن الثورات العربية. وهذا الجمع ليس مصادفة. فهو أولاً ينطلق من التوالي الزماني في حدوث الثورات ومن عدم وجود ما يفيد أن في الثورات قولاً يتجاوز الخارطة الموجودة والتي كانت الأنظمة السابقة تحرص على الإبقاء عليها.ومعنى ذلك أننا لم نسمع في الثورات صوتاً طاغياً، يجعلها ثورات تسعى إلى تجاوز الخارطات القطرية الحالية. ومن ثم فإن منطلقي سيكون في هذا التفكير القصير وبصوت عالٍ حول مفهوم الإصلاح والثورة في المستقبل العربي بصورة عامة.
فكل الثورات في التاريخ البشري تقدم نفسها على أنها تحقيق لوعود لم تتحقق يجدون مثالها في الماضي سواءً كان هذا الماضي كالحال في الحضارة العربية الإسلامية، ماضيا ذا صبغة دينية وخلقية، أو ماضيا ذا صبغة فلسفية وعقلية.
مثال ذلك أن الثورة الفرنسية كانت تستوحي من الفكر اليوناني والفكر الروماني. فهي تستمد من الفكر اليوناني نظرية القيم الديمقراطية ونظرية القيم العقلية. وتستمد من الفكر الروماني نظرية القيم القانونية والإجرائية.
والثورة البلشفية أيضاً كانت تستوحي من الفكر المنوع من العدالة الإجتماعية المطلقة في المجتمع الإنساني قبل تكون الطبقات.
وإذن فالثورة عند كلامها على المستقبل، تتكلم عليه بوصفه وعوداً لم يف بها الماضي. لكأن هذه الوعود مكتوبة في فطرة الإنسان، وعلى الثورة أن تحققها والأجيال السابقة أخلت بشروط تحقيقها. فتكون الثورة ثورة على الإخلال بشروط تحقيق القيم الإنسانية المكتوبة في فطرة الإنسان.
الإصلاح الإسلامي المتصل
لكن هذا الكلام الذي هو كلام غامض حاول العقل الإنساني أن يرفضه، بصورة يجعله برنامجاً للإصلاح الحقيقي الذي لا يتحول إلى ثورة إلا إذا تعطل حقبا تحدث انسدادا فتقع الثورة تفجيرا للانسداد. ولن أعتمد على الفلسفة عامة وخاصة على وهم فلسفة حديثة اساسها التفسر بالتاريخ الطبيعي للإنسان المردود إلى الحيوانية. سأعتمد على الفلسفة العربية الإسلامية في صوغ المثال الأعلى للثورة والتي تعتبر عمل الإصلاح حتى في ذروته الثورية راجعا إلى عملية معقدة ذات مستويات متعددة.
وأهم هذه المستويات هي مستويات الزمان الإنساني الذي هو مخمس الابعاد بخلاف الزمان الطبيعي لأنه تلاحم بين ضربي الوجود الفعلي والرمزي: فهو حديث فاعل حول حدث ماض في الحاضر يحاول فهم ذاته فهما فاعلا ليتحول إلى حديث حول حدث مقبل هو المحرك الغائي للفعل الإصلاحي حتى لو كان ذلك في شكل بداية ثورية لن تغير من الأمر شيئا لأن العملية الإصلاحية التي تلي فعل الثورة هي التي تغير وتحقق أهدافها:
تأويل حالي لحديث الماضي
عن فهمه لحدثه
تأويلا يحدد حديث المستقبل
عما ينوي الحاضر تحقيقه
ليتدارك ما فات
والوصول إلى ما هو آت.
ومعنى ذلك أن كل لحظة في الحاضر الإسلامي-أي أي حاضر إنساني- وخاصة في صبغتها الثورية، هي نوع من إعادة تأويل الماضي الفعلي أو المتخيل -وعادة ما يكون الماضي فعليا ومتخيلا في آن والغالب عليه هو التخيلي أكثر من الفعلي- لتحقيق ما لم ينجز من وعود تطابق فطرة الإنسان بمقتضى القيم الإسلامية.
وسأعتمد على فيلسوفين عربيين إسلاميين لأحلل الكيفي التي حددا بها ما أصاب المجتمع العربي الإسلامي فجعله يصبح خاضعا للإستبداد والفساد في مستوى المجتمع وفي مستوى الدولة ومن ثم محتاجا لفعل ثوري يتدارك توقف الفعل الإصلاحي الذي من المفروض أن يكون متواصلا لأن البديل عن التغيير الطفري في الثورات هو الإصلاح المتواصل :
ففي مستوى المجتمع يكون الإصلاح أو الثورة متعلقين بمستوى العوائق الصادرة عن الذهنيات خاصة شرطا في إصلاح الوقائع والشروط الموضوعية الموافقة لتغير الذهنيات.
وفي مستوى الدولة يكون الإصلاح أو الثورة متعلقين بمستوى العوائق الصادرة عن آليات ضبط الحياة الإجتماعية نصوصا ومؤسسات تتغير بالتدريج في عملية الإصلاح.
ولعل الجامع بين المستويين هو سنة التغيير القرآنية التي تجعل تغيير ما بالأنفس شرطا في تغيير في بالكيان كله: تغيير الذهنيات هو الذي يحقق التغيير الحقيقي في الواقعات حتى وإن كانت الثورة تتصور العكس فتحدث رجات في الواقعات. لكن التغيير فيها يظل عنيفا وغير مقبول حتى يتحول إلى تربية وقوانين تستبطن فتتغير الذهنيات وتتوقف العطالات التي هي أهم عوائق الثورة في لحظتنا الراهنة.
ابن خلدون وإصلاح صورة العمران
وسأبدأ بالفيلسوف ابن خلدون الثاني قبل الأول ابن تيمية. فابن خلدون اهتم بهذا المستوى الثاني لأنه يعلل الفساد والإستبداد بنظرية في صورة الدولة التي تخنق مادة الدولة. فعنده أن صورة العمران (الحكم والتربية)، تلغي بالاستبداد والفساد”معاني انسانية” بمصطلحه في نظرية التربية والحكم فتجرد الإنسان منها لتجعله عالة عاجزا عن حماية نفسه ورعايتها : يصبح تابعا للحامية. والقصد بصورة الدولة التي تخنق مادة الدولة هي الحكم والتربية، أي إن الإنسان عندما يحكم ويربى على الإستبداد والفساد، تصبح له ذهنية الإستبداد والفساد ويصبح عاجزاً عن إدراك معنى الإنسانية في ذاته فيقبل الإستبداد والفساد نظاماً في الحياة السياسية.
ومعنى ذلك أن المجتمع يصبح ذا ثقافة محكومة بأخلاق الاستبداد والفساد وليس الحاكم وحده. الأخلاق العامة تتحول إلى أخلاق استبداد وفساد على الأقل في السلوك الفعلي حتى وإن ظل الكلام يتغنيى بالقيم نفاقا وكذبا متبادلا بين الأفراد والجماعات وخاصة بين الحكام والنخب من جهة والشعب من جهة ثانية.
ومن ثم فشكل الثورة الأكثر عسرا في المستقبل ليس تغيير الحكم بل هو تغيير الذهنيات التي تجعل الحكم والتربية والحقوق الرمزية للمواطن أي في الإقتصاد والثقافة في مهب الريح الذي يصوغه مناخ النفاق والكذب :
فالإقتصاد نوع من مافية اغتصاب الحقوق.
والثقافة نوع من تخدير المواطن للقبول بالوضع.
وتتحول المعركة إلى تنازع حول السهم من الموجود بدل السعي للتغيير لتحقيق المنشود.
ومن ثم فالإستبداد والفساد في الحكم وفي التربية (أي في صورة العمران بلغة ابن خلدون ببعديها المادي والرمزي) يولدان ذهنية تجعل الاقتصاد والثقافة (أي في مادة العمران بلغته) أعني الانتاج المادي والرمزي والمعاملات بهذين المعنيين المعاملات لا تعتمد إلا على الفساد والإستبداد. إذن على اغتصاب الحقوق وليس على العدل في ايفاء الحقوق. لذلك فالثقافة تصبح ثقافة التنويم والاستغفال عن هذه الحقوق، أي أن المواطن لن يتواصى بالحق ولن يتواصى بالصبر.
لكن ابن خلدون يتوقف عند تأثير صورة العمران في مادته ولم يحلل ما وراء العلل التي تفسر هذا التأثير أي التي تجعل هذا الأمر يحدث في الحكم وفي التربية والإقتصاد وفي الثقافة بل هو اكتفى بدرسها وقائع اجتماعية سياسية وبحث بصورة عامة في أسسها الانثروبولوجية والتاريخية دون مزيد تحليل.
ابن تيمية وإصلاح ما وراء صورة العمران ومادته
لذلك فالفيلسوف الثاني ابن تيمية هو الذي حلل هذا الماوراء رغم كونه قد تقدم على ابن خلدون (أحدهما صاغ فلسفته في الربع الأول من القرن الثامن الرابع عشر والثاني في الربع الأخير منه) : أدرك طبيعة الوصل بين صورة العمران ومادته ومن ثم ما وراء التأثير الذي وصفه ابن خلدون. فهذا الفيلسوف والذي يعتبره أعداء الإبداع الفلسفي الحقيقي والصدق العملي المخلص ممثلاً للعنف وممثلاً للتطرف.
إنه شيخ الإسلام ابن تيمية. إنه هو الذي بحث في الإشكالية الجوهرية التي تعلل الظاهرات التي وصفها ابن خلدون : ما الذي يجعل مجتمعاً من المجتمعات يصبح مقبلاً على حكم مستبد وفاسد وعلى تربية تؤبد الفساد والإستبداد وعلى اقتصاد ليس مبنياً على العدل بل على الظلم وعلى ثقافة ليست مبنية على التنوير بل على التنويم؟ فكان جوابه مضاعفا :
إنه تسخيف العقل وتخريف النقل. ذلك أن جعل العقل سفيهاً هو الذي يحوله إلى كهنوت كلامي وصوفي وفلسفي يتصور علمه مطلقا ونهائيا ويلغي شروط المعرفة المتزنة التي تتخلص من الميتافيزيقيا التي بين أنها في الجوهر سفسطة في النظر وقرمطة في العمل.
وهذا التسفيه للعقل المعرفي يؤول الدين بمقتضاه ليصبح أداة لاستعباد الإنسان وليس لتحريره . وقد أرجع ابن تيمية المشكل كله إلى سيطرة خلل ثقافي وفكري متمثل في تخلل النظرة الباطنية علم الكلام والتصوف والفلسفة وحتى الفقه النظرة التي أرجعت الكنسية إلى الإسلام فحولت الدين إلى منظومة فكرية هدفها استعباد الإنسان بدل تحريره : لم يبق الدين إصلاحا تربويا وسياسيا هدفه التنوير والتحرير بل تحول إلى خرافة استعبادية للجماهير بهدف الإستبداد بهم واغتصاب حقوقهم أعني التحريف المطلق للدين الإسلامي.
تلك هي علة النكير المطلق على ابن تيمية من الكنيستين اللتين استبدتا بفكر الأمة : الكنيسة الباطنية (سلطة رجال الدين المبنية على التخييل الأخروي لإطلاق الوساطة وعبادة الوسطاء أحياء وأمواتا) والكنيسة العلمانية (سلطة رجال الفكر المبنية على التخييل الدنيوي أي ما يسميه هيجل باللامتناهي الزائف). تلك هي تكوينية -جينيالوجيا-تخريف النقل وتأسيس عبادة الأولياء وعبادة القبور بدلاً من أن يكون النقل وسيلة للتنوير لتحقيق استعمار الإنسان في الأرض كما يدعو إلى ذلك القرآن الكريم، من أجل أن يكون الإنسان جديراً بالإستخلاف فيها أي لكي يحقق القيم في التاريخ.
إن تحقيق القيم في التاريخ هو أول ثورة حدثت في القرآن الكريمن حتى إن هيغل في كتابه عن فلسفة التاريخ (الباب الرابع : العالم الجرماني الفصل الثاني : المحمدية) عندما قارن بين المسيحية والإسلام، قال إن أول دين جعل التاريخ تحقيقا للقيم الروحية في التاريخ الفعلي وهو مفهوم العلمنة الحقيقية، أي جعل القيم الروحية تتحقق فعلاً في الدنيا (فلت تعني الدنيا) وليس مجرد وعود تتحقق في الآخرة (ما يسميه ماركس بالأفيون).
لكنه يرى أن الإسلام فشل في تحقيق هذه المهمة لأنه يفرض المساواة بين البشر وينفي الطبقات التي هي ضرورية، مدعيا أن المساواة المطلقة حالت دونه وتحقيق هذه القيمة التي كان الإسلام أول المابدرين إليها. وقد بين تقدم الوعي الأنساني والضمير الخلقي أن نظرة الأسلام للعلاقات بين البشر هي الأصوب وأنها تحقق هذه القيم بالتدريج لأنها تجعلها في آن ثمرة تربية خلقية وقانونية متحررة من العنف.
وهي لا تكون كذلك إلا إذا استندت إلى أخلاق القرآن الكريم أعني أخلاق الإصلاح المبني على شروط الاستثناء من الخسر أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ولعل أفصح مثال على ذلك تحقيق هذه القيم الإصلاحية للعلاقة بين البشر وخاصة أعسرها أي تحقيق المساواة بين الحر والعبد غاية قيمية تجعلها تحرير العبيد أولى طرق التقرب إلى الله رغم عسرها : “فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة . أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة . أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ” (البلد12-20)
أبو يعرب المرزوقي