**** مسألة المواريث عرت من هم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
أفهم جيدا ألا يفهم الكثير من أبطال التواصل الاجتماعي ممن يتكلمون في العلاقة بين أنظمة انتقال الملكية من المالك إلى الورثة والأمرين اللذين ربطتهما بها، أي مسالة الزراعة ومسألة التزاوج الخارجي في الجماعات البشرية. فغالبهم يعلم القاصي والداني مستوى “تكوينهم وثقافتهم” وطبيعة “عملهم”.
وأفهم أن ذوي الرؤى الوجودية “الاناركية” يتصورون غالبية الجماعات البشرية غير سوية لأنها لا تشاركهم رؤاهم التي لا تعترف بما يثبته التاريخ والانثروبولوجيا من “قوانين” قد لا ترضيهم لكنها موجودة وهي لا تختلف كثيرا عن قوانين الطبيعة التي ليست طوع “ثوريتهم” ضد ما يعتبرونه قيودا تحكمية.
وأفهم كذلك أن هؤلاء “الثوريين” يعتبرون البحث في علاقتين: • بين أنظمة المواريث وأنظمة الزراعة • وبينها وبين أنظمة الزواج من “الهذيان الفلسفي” الحدود الوسطى بين الانظمة ليست مباشرة ولا يدركها من لا يتجاوز فهمه المدركات المباشرة لكونهم “صما بكما عميا فهم لا يعقلون”.
لذلك فلا يمكنني الرد على أحد من هؤلاء. فمن ليس له مستوى تكوينيّ، ويعلم الجميع أين يعمل وكيف يعيش، فلا لوم عليه. ومن أصيب في ملكاته العقلية والعاطفية، حتى وإن كان له مستوى تكويني كان يمكن أن يؤهله للكلام في المسألتين، فليس عليه من حرج لما يعانيه من فوضى روحية وعقلية نطلب له الشفاء.
وقد قرأت لأحد الباحثين الجديين كلاما فيه شيء من النزاهة لأنه اعترف بالمشكل رغم ظنه أني نظرت فيه بمرآة دينية. وطبعا لا يمكن أن ألومه، فمن حقه أن يؤول دوافعي في علاج القضية وطلب الحدود الوسطى التي تربط بين القضية وما يترتب عليها. لكني لم أفهم حله: من سيفرضه على شعب ثائر وديموقراطي؟ فهل يعتقد أن الشعب التونسي – وخاصة المزارعين الصغار- يمكن أن يقبلوا بستالين جديد يضع كل الشروط التي اعتبرها ضرورية لتحقيق الإصلاح الذي يقترحه للمواريث دون ضرر على الزراعة؟ ومن يضمن الا تحصل المجاعات التي أدت إليها الإصلاحات الزراعية التحكمية في العالم كله؟ هل نسي تجربة التعاضد؟ وهبنا سلمنا بأن ذلك ممكن ومثمر – وكلاهما غير صحيح- لكن للجدل فلنقبل بذلك: كيف نضمن في الأرياف التزاوج الخارجي بصرف النظر عن نظام الملكية؟ فليست كل الاسر “متحررة” فتستطيع بناتها عدم التقيد بسلطانها. غالبية الشعب ذو ثقافة تقليدية حيث الزواج علاقة بين اسرتين وليس فردين. لذلك، فالتزاوج الداخلي هو الغالب للحفاظ على الملكية في الأسرة. وطبعا يمكن لمن يفكر مثل ألفة يوسف الالتزام بالحل المتمثل في العودة إلى ما قبل نشأة الأسرة أو الذهاب إلى ما بعدها عند “الفنانين” والأغنياء. لكنها لن تكون إلا “كلوشارة” فذهاب سيدتها أفقدها الشرط: جنون الأوتيسم وطلب اللذة الرخيصة. ويمكن في حالة ما رأيته من ردود على رواية لعمل لم يحضره المعلقون ولم يقرأوه، لأنه لم يصدر بعد الكلام على اعتراضات تدل على عدم الوعي بالحدود الوسطى بين المواريث والزراعة وبينها وبين الزيجات الخارجية، أو على عدم تسليم بأن للبشر مشتركات قيمية كلية يصعب التلاعب بها دون الاضرار المعلومة.
والرد على النوع الأول عديم المعنى، لأن الكلام على شروط الكلام صار يعتبر تمييزا غير مقبول، بمعنى أن الفهم الخاطئ للمساواة في التصويت الديموقراطي الذي يكفي شرطا له المواطنة، صار يعتبر مبدأ عاما يصح في كل شيء، فيصبح كل إنسان طبيبا بالفطرة وانثروبولوجيا وقانونيا واقتصاديا بالفطرة.
والنوع الثاني أيضا لا يمكن مناقشته لان القول بنسبية القيم يعني عند هؤلاء ما يعنيه اختلاف الذوق في مستوى التذوق والتقييم الفرديين. لا يقبلون أن تكون النسبية هي بدورها نسبية. ومعنى ذلك أن الاختلافات الفردية في الذوق وفي القيم حقيقة، لكنها لا تنفي حقيقة ثانية تتجاوزها. ولولا ذلك، لما وجدت سنن، حتى لا نقول قوانين انثروبولوجية، تحدد خصائص ذوقية مشتركة، ناهيك عن الخصائص القيمية المشتركة، ومنها العلاقة بين نظام الملكية وانتقالها وعلاقته بنظام الاقتصاد ونظام التزاوج. فمن ينكر أن التزاوج له صلة بالملكية وغلبة الداخلي على الخارجي في جميع الشعوب، أعمى. وأن يشرع نظام سياسي في تغيير الأنظمة القانونية والتقاليد دون اعتبار لهذه المعطيات الانثروبولوجية، دليل استخفاف مضاعف: • يتوهمون أن الشعب التونسي بعد ثورة يمكن أن يقبل أن تقوده من فوق قلة لا تمثل 1 في المائة منه • وأن القوانين تحكمية ليست خاضعة لنظام يجعل كل واحد منها مترابطا مع البقية
يزعمون الحداثة والتقدمية والديموقراطية وينسون أن أخطر شيء في أي جماعة هو المس بنظام الملكية وخاصة الملكية الزراعية التي هي قدم أخيل الذي أسقط كل الانظمة الاستبدادية، وخاصة التي اقدمت على ما يسمونه الإصلاح الزراعي والمجاعات الناتجة عنه في الصين وروسيا وكل من تبعهما عندنا.
ولست معارضا للإصلاح في أي مجال من مجالات الحياة الجماعية. لكن أي إصلاح فوقي لا يأخذ بعين الاعتبار إرادة الشعب وتقاليده والعلاقات العميقة بين الانظمة المتضامنة، أعني القانوني والاقتصادي والثقافي والقيمي والروحي في نسق متناغم، سيؤدي حتما إلى ما حاولت بيانه من عواقب. ما لا يفهمه المرء حقا، هو أن ادعياء الحداثة العرب يتصورن الجماعة “جملة أفراد” كل يغني على ليلاه وليس بينهم روابط، أهمها ما يجعلهم يشتركون في شروط العيش المشترك والقيم التي لأجلها يتعايش الناس استكمالا لشروط الوجود التي لا يمكن للفرد بمفرده أن يحققها وهي: مادية وروحية رعاية وحماية. وما يأسف له المرء أكثر، هو أن رئيس دولة في أرذل العمر يعبث بهذه الشروط ويتعامل معها بوصفها أدوات ألعاب سياسوية تدل على قصور ذهني وخرف وليس على فكر استشرافي يفيد تونس وشعبها، خاصة ثورتها ومسعاها للانتقال السلمي من الاستبداد والفساد إلى الحرية والكرامة. فحتى لو فرضنا أن ما تطلبه القلة قياسا على ما تطلبه منهم القوى التي تحميهم وتحكمهم في رقاب الشعب مصير كوني، وأنه أفضل مما عليه غيرهم، فإن ترضية ما لا يزيد عددهم على واحد في المائة من أشباه المثقفين يستحق التضحية بغالبية نساء تونس في القرى والأرياف ليكن عاملات عندهن.
فالزراعة في تونس وفي مصر وفي غالب بلاد العرب مبنية على الأسرة، وعلى خضوع الابناء للآباء، وخاصة البنات في الأسرة التقليدية، ولهذا الخضوع علاقة مباشرة مع الملكية بقاء وخروجا في الأسرة. لذلك، فغالبا ما يكون التزاوج داخليا لتجنب تفتتها، وهو ما يؤدي إلى ضرر في الإرث البايولوجي.
فحتى بالفرائض، يحتال الآباء والأخوة على الاخوات حتى يتخلين على سهمهن، فصارت من تقاليد الأرياف والقرى أنه من العيب أن تنافس الأخت اخاها فتطالب بحقها، وهي تفعل لأنها تريد أن يسمح لها بالزواج خارج الأسرة إذا أمكن لئلا تبقى عانسا في حالة عدم توفر إحدى الفرصتين الداخلية أو الخارجية.
أدعياء ثقافة يضحون بكل الشعب من أجل بضع “الدعيات” المطالبات بحق لا أساس له، لأن الوارث لا حق له في الموروث إلا بإرادة صاحبه سواء اختار النظام القرآني أو أي نظام، فالأمر كله بيده. فحتى لو وضع قانون المساواة، فإن الآباء سيعمد غالبهم لما سيتبين أنه أكثر حرمانا للأخت وخاصة في الأرياف.
من يتجاهل هذه الحقائق الانثروبولوجية والثقافية المحددة لعلاقة المحافظة على الملكية، وخاصة لدى المزارعين وصغارهم بالأخص، بالتزاوج وأثره البايولوجي، من يتجاهل العلاقة بين الاقتصادي والثقافي والبايولوجي لا يعبر عن تقدمية، بل عن أمية لم أر لها مثيلا في أي نخبة تحترم شعبها.
وما أتوقعه إذا مر هذا القانون هو أحد أمرين: 1. أولهما شبيه بالوأد، وهو تعنيس الفتيات في الأرياف أو المزيد من الزواج الداخلي، وخطره يعلمه القاصي والداني 2. والثاني هو ازدياد ما نشهده الآن من اقتتال أسري حول توزيع الموروث مهما قل، وغالبا ما يأكل القضاء والمحامون البقية في هذه الخصومات. وأخيرا، فأغلب المعلقين أميون: • في القانون • وفي الانثروبولوجيا • وفي التاريخ • وفي معرفة تقاليد شعبهم وهمهم الوحيد التظاهر بالحداثة التي هم أجهل الناس بها، لأن أغلبهم لم يتجاوز تكوينهم الباكالوريا، ومن تجاوزها فهو توهم أن الحداثة الغربية هي ما ينبهر به البدوي عندما يزور إحدى مدن الغرب. وينبغي أن نعترف لوسائل الاتصال الاجتماعي بفضل يشبه فضل الثورة في التعرية: فهو مثلها فضح أدعياء الثقافة كما فضحت هي أدعياء الوطنية. فكل الحزيبات، وخاصة تلك التي حرفت رؤية حشاد، والتي حرفت رؤية التحديث، والتي حرفت رؤية الإسلام، تبين أنها مجرد قيح الاستقلال المنقوص أو الحركيين. لما أسمع “زعماء” الحزيبات التي وصفت يتكلمون عن قدرتهم السياسية في الحل والعقد، أود تذكيرهم أنه في البلاد الديموقراطية يوجد حد أدنى من التمثيلية. ولا حزب منهم يمثل 1 في المائة من الجسم الناخب.
كأفراد، يحق لهم قول ما يريدون، لكنهم لم ينالوا شرف تمثيل إرادة الشعب والكلام باسمه مؤسسيا.