مرض العرب، الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل

قبل الثورة لم يكن أسلوب الكتابة لدي شبيها بأسلوب الإشارات والتنبيهات السينوية. كنت أكتب مقالات وكتبا. لكني الآن بت أفضل هذا الأسلوب لأنه يكثف المعنى. ورغم وحدة المجموعة فإن كل تغريدة ذات قيام خاص بها وهذه من خاصيات الشعر العربي. البيت قائم الذات في القصيد. وهذا ما احاوله. فكل تغريدة يمكن أن تصبح مادة لمقال لو شرحت ما أكثفه فيها. لكن مجموعة التغريدات تفسر بعضها البعض. ولأشرع الآن في الكلام على أعضاء ذات الجماعة بمعنى صورتها كما حاولنا تعريفها في الرؤية الخلدونية: عودة الجماعة على ذاتها وعيا بها وجعلا لوجودها في سعيه لمنشودها ذاتي التكون الدائم. وتلك علة المقارنة بين الدولة والكائن الحي ليس الكائن الفردي بل النوع الذي تتداول أجياله على نفس الوظائف التي تبقي النوع حيا لكأن الأمر سباق التداول الذي يمرر فيه الشباب الذي قرب من التعب قصب السباق لشباب ينتظره فيأخذه منه ويواصل الجري. والهدف تأمل الجماعة أن تجعله كل المستقبل. فكي يتم ذلك؟ أولا ما هي الوظائف التي تحمي وترعى؟ ذات الجماعة ليست كل الجماعة بل هي بعضها بسبب التخصص وفرض الكفاية في القيام بالعمل لكنه يبقى فرض عين في مراقبته ومحاسبة من يتولها ممن اختيروا لهذه المهمة. ونبدأ بمهمة الحماية: فهي داخليا قضاء وأمن وهي خارجيا دبلوماسية ودفاع. وهذه هي أعضاء الحماية الداخلة (افراد الجماعة بعضهم من البعض ومن المكلفين بالقيام بالوظائف والدولة كذات لها سلطان قد لا تحترم في ممارسته القانون الذي يضبطه) لكن هذه الأعضاء تحتاج إلى جهاز عصبي مراصد للاستعلام على حال الامة حتى يكون عملها على علم: الاستعلام والاعلام. الحماية بأعضائها الأربعة (القضاء والامن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا) لا تتحقق إذا كانت لا ترى ما يجري في الجماعة ومن ثم فالجهاز العصبي الذي يستعلم ويراقب هذه الوظائف هو جهاز الاستعلامات الداخلي والخارجي ومعه الإعلام حتى تكون الجماعة على بينة من حالها. فإذا فسد هذا الجهاز العصبي فسدت كل وظائف الحماية وغالبا ما تؤتى الامم منه. فبدلا من أن يكون لحماية الجماعة يمكن أن يتحول لاضطهادها خدمة للمستبد الفاسد ولحماته ضد شعبه وهذه تقريبا حال جل العرب والمسلمين علما وأن اختراق هذه الاجهزة أولى أدوات الأعداء في السيطرة على الجماعة. وهذه الوظائف مكلفة جدا وهي في الحقيقة اساس جهاز المناعة السياسي لأن الجماعة من دونها تصبح في حرب أهلية دائمة لانخرام الحماية الداخلية وشبه تابعة للمحيطين بها بسبب انخرام الحماية الخارجية. ولما كان الاستقرار شرطا في تواصل عمل الجماعة باتت الحماية أهم وظائف الدولة كذات حامية لذاتها. وهذه الكلفة تهون لأنها كلفة جهاز المناعة للجماعة في علاقتها بغيرها من الجماعات ولأفراده في علاقتهم بعضهم بالبعض وهي تمثل إذا عملت بما ينبغي أن تعمل به شرط السلم المدنية للجماعة حتى تكون قادرة على القيام الذاتي وعلى السيادة أو عدم التبعية شرط الحريتين الروحية والسياسية. فإذا تحقق للجماعة هذا الدور الاول للدولة -الحماية- أمكن للجماعة أن تفرع للرعاية التي هي ما يتحمل كلفة الحماية وكلفة شروط البقاء المادي والروحي. والرعاية لها مستويان: الأول هو تكوين الإنسان ليكون قادرا على المساهمة في علاج العلاقتين والثاني هو تموين الإنسان ماديا وروحيا ليفعل. فأما التكوين فهو التربية النظامية في نظام التعليم والتكوين ثم التربية اللانظامية في الوجود الاجتماعي بكل مؤسساته من الأسرة إلى المعمل إلى المسجد إلى المقهى إلى كل الملاهي والحياة العامة وخاصة الحياة السياسية التي تتنافس فيها القوى على دور ملء خانات المؤسسات التي تصور الجماعة. وحتى يحصل التكوين بهذين المعنيين فلا بد من مد المكون بما يمونه ماديا (التربية العضوية كالغذاء والدواء) وهو هو موضوع الإنتاج الاقتصادي وبما يمونه روحيا أو فكريا (التربية الروحية) وهذا هو موضوع الإنتاج الرمزي أو الثقافي (علوم وفنون وتقنيات إلخ..). وهنا نصل إلى الجهاز العصبي المطلق. وأصفه بكونه المطلق قياسا إلى الجهاز العصبي للحماية. فهو فرع عنه إذا كان سويا. والمطلق هنا هو البحث العلمي والأعلام العلمي ليس حول حال الجماعة فحسب بل حول العلاقتين مع الطبيعة ومع التاريخ. ذلك أن التموين يحتاج إلى الانتاجين الاقتصادي والثقافي من أجل التكوين السوي لمن سينتجهما. وهذا هو موضوع خلافي مع الأستاذ حنفي. تقديم النظر على العمل عندي هو اعتبار البحث العلمي شرك التعامل مع الطبيعية ومع التاريخ ومن ثم فهو شرط كل عمل على علم. وهذا هو قدم أخيل العربي والإسلامي. كل شيء عندنا يجري في ظلمات من الجهل بالقوانين والسنن: رماية في عماية. ومن يرمي في عماية لا ينتظر نتيجة إلا ما يحصل بالصدفة. لكن ما يحصل بالصدفة غالبه ضار فضلا عن كونه ليس بالصدفة بل هو يحصل بفضل غيرك الذي يرميك وهو يرى وصاح وليس أعمى ونائما مثلك. ولهذه العلة فإن كلامي على النظر المقدم على العمل سره غياب هذين الجهازين العصبيين. لذلك فالوظائف العشر كلها مختلة فلا قضاء ولا أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع ولا استعلام وأعلام سياسي ولا تكوين نظامي او عام ولا تموين مادي أو روحي ولا خاصة بحث علمي في العلاقة العمودية بيننا وبين الطبيعة والأفقية بيننا وبين غيرنا وحتى ذواتنا كل ذلك منخرم ولا يعمل على علم. فكيف نعجب بعد ذلك أن تكون هذه حالنا التي وصفها ابن خلدون -وهو لم يقل إنه يصف حال المسلمين بل هو يتكلم على الإنسان عامة-أعني أن تفسد فينا معاني الإنسانية فتضمر قوة النفس ويكثر الكسل وازدواج الشخصية أو النفاق والخبث الدني والعيش عالة وعدم العناية بالفضائل فتعم الرذائل. لذلك فلا تعجب إذا رأيت المساجد قد تحولت إلى أهداف من يدعون أنهم يدافعون عن الإسلام فيجعلون أسمى مؤسساته محلا للاقتتال وللتفجيرات ولسردة الاحذية ولكثرة النميمة وأكل لحوم المسلمين بعضهم بعضا فصارت الا تعبر عن الامن والسلام بل على الحرب الاهلية الدائمة بسبب قلب الدستورين. كل شيء فقد قداسته باسم فهم منحط لأقدس مؤسستين إسلاميتين: الاجتهاد والجهاد. فالاجتهاد صار له امراء فتنة والجهاد أمراء حرب وذلك كله لأن علوم الملة محرفة كلها ولأن المسلمين صاروا يفصلون بين الدين والاخلاق في حين أنه لا معنى لدين منفصل عن الأخلاق والتراحم بين البشر. وبذلك يتبين أن لفساد معاني الإنسانية الخلدوني مستويين: الأول فسادها في اخلاق الجماعة وحتى في كيانهم النفسي والعضوي ثم في صورة الجماعة أو الدولة ببعديها حكما وتربية. والإصلاح الضروري لا يمكن أن يفصل بين الفسادين بل عليه أن يحدد استراتيجية توازي بين العلاجين في الدولة والجماعة والبدء يكون: 1. بفهم مقومات الدولة بوصفها ذات الجماعة العائدة على نفسها بوصفها موضوعا لوعي بذاتها وللعمل فيها بما تعيه منها. 2. بفهم شروط عملها السوي وهو منطلق هذه المحاولة أي ما وقع فيه الاختلاف بيني وبين الصديق حنفي أمده الله بالصحة (لأني لم أره منذ الأسبوع الذي سبق الانقلاب). فإذا كانت الجماعات يغلب عليها العمل على غير علم أو على علم بدائي هو ما يقدرون عليه لأنهم لا يملكون الاستفادة من الخبرة المختصة فإن الدولة التي هي ذات الجماعة أو من المفروض ان تكون وعيها بذاتها لها هذه القدرة لو توفرت لمن يستبد بها إرادة الاستفادة من خبرات أهل الخبرة. لكن عندما يكون من بيده سلطان لدولة هو بنفسه عامي ولا يعترف بالحاجة إلى الخبرة في مجالات عمل الدولة ولا حتى يفهم معنى مجالات عمل الدولة لظنه أنها مثله تعمل بالهوى وبالغريزة وبالارتجال فإن الدولة لا تبقى ذاتا فضلا عن أن تكون وعيا بل هي كما أسلفت رماية في عماية. خذ لك ما يجري في بلاد العرب إلى حدود بداية ثورة الشباب: من كان يحكم ليس رجال دولة بل “باندية” أي بلطجية: عندما أرى القذافي أو صالح أو صدام أو عبد الناصر أو مجرم سوريا الحالي إلخ…ماذا أرى؟ مافيوزيين صغار وراءهم مافيوزيين كبار يحركونهم تحريك الدمى رغم العنتريات المسموح لهم بها سلطانهم الوحيد هو ما اعتبره ابن خلدون علة فساد معاني الإنسانية فيهم وفي شعوبهم: العنف الأعمى الذي يحول ما من المفروض ان يكون الحامي والراعي للجماعة يصبح المستعبد والمفسد لكل شروط الحياة الجماعية السلمية ما يجعلها كما وصفها ابن خلدون فاقدة لكل معاني الإنسانية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي