لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل
لم يكف الفصل التاسع للفراغ من الجواب عن سؤال كيف تعمل الدولة. لذلك فالفصل العاشر سآخذ منه قبل الخاتمة التي وعدت بها نصفه لاستكمال الكلام في كيفية عمل الدولة بالجواب عن الأسئلة التي ختمت بها الفصل التاسع: كيف يمكن للدولة أن تنظر ثم تعمل ليكون عملها على علم كما ختمت الحوار مع حنفي.
وهذا السؤال الذي بدأت به الفصل العاشر توضيح السؤال المضاعف الذي ختمت به الفصل التاسع: ممن يتم اختيار من يملأ الخانات الخالية في بنية الدولة كجهاز شبه آلي؟ وكيف يتم؟ حتى يحصل أمران بهما تصلح الدولة أو تفسد:
انتخاب شاغلي الخانات
وتكييف الخانات مع الظرف لصيرورة تعين البنية؟
سؤال كيف تعمل الدولة هو عينه سؤال كيف يمكن للجماعة أن تعمل وكأنها فرد واحد في الغاية أو كيف تصبح الجماعة تنظر قبل أن تعمل ليكون عملها على علم؟ هذا السؤال لا يقتصر على الدولة بل على كل عمل جماعي سواء كان فريق كرة أو جوقة موسيقية أو حتى فريق طبي أو فريق قضائي.
ففي كل هذه الحالات القانون الإجرائي مقدم على القانون الموضوعي. بمعنى تنظيم العمل سابق على العمل نفسه وتنظيم العمل ينتهي في الأخير إلى أن القرار يترك لمن تعتبره الجماعة أهلا للقرار بعد التداول بوصفه صاحب الشرعية والكفاءة المعترف بها عند أهل ذلك المجال: الأساس القانون الإجرائي.
ووظيفة القانون الإجرائي هو الذي يترتب الأفعال الجزئية التي تمثل مراحل الفعل الغاية ترتيبا زمانيا وترتيب شرف أو تراتب في درجات القرار. ففي القضاء مثلا المرور بمراحل هي درجات حسم الخلافات من الابتدائي الى الاستئناف إلى التعقيب أمر المهم فيه احترام الإجراءات لتوالي المراتب.
وفيه أيضا تقسم العمل: فمن مراقبة مناط الأحكام أي معاينة الوقائع (في الاستئناف) إلى مراقبة أشكال الأحكام (في التعقيب) يحصل أفضل الممكن للمؤسسة القضائية لتؤدي بنية المؤسسة وظيفتها. وذلك لا يكفي لضمانة العدل فأخلاق القضاة تكون في الغالب هي ألاهم لأن التحيل على القانون ممكن دائما.
ولذلك فجعل الجماعة تفكر وكأنها فرد مسألة إجرائية هي فنيا تقسيم العمل باستراتيجية اجرائية تمكن من علاج الاوجه التي تؤثر في مهمة المؤسسة فنيا ولكن كذلك في مهمة من يشغلها خلقيا مع الكفاء الفنية طبعا. وهذا يصح في كل عمل جماعي. وبعض الأعمال ليس لها أجراء محدد جماعيا كالحال في كل إبداع.
لكن ذلك لا يعني أن الأمر متروك حبله على الغارب: فلا وجود لإبداع مطلق بل لا بد فيه مما يرد إلى ما وصفنا في كلامنا على مثال القضاء. فرئيس الفريق السمفوني مثلا يشترك فيه نفحة إبداعية لكنها وحدها لا تكفي وعلى كل فهي ليست ممكنة لمن لم يحز الشروط الفنية الأساسية في المجال.
وكذلك في الالعاب الجماعية. فمن يكلف بتنظيم الفريق ينبغي أولا أن يكون حائزا على فنيات اللعبة ومن أفضل الحائزين عليها ثم أن يكون له نفحة إبداعية تجعل الفريق المؤمن بذلك أكثر تلاحما وقدرة على أن يكون كل عضو فيه وكأنه قطعة من جهاز شبه آلي يعمل بانتظام حددته إجراءات تقاسم العمل فيها.
بهذا المعنى الذي وصفت في القضاء وفي الموسيقى وفي الألعاب التي هي كلها جماعية يمكن أن اجزم بأن الدولة بوصفها ذات الجماعة تمثل عملا جماعيا يمكنه أن يفكر وأن يعمل على علم بنفس المعنى أي إن الإجراءات التي تقسم العمل وترتب المراحل ودرجات القرار هي التي تجعل الدولة تنظر وتعمل على علم.
والغريب أنه لا توجد دولة لا تعمل بهذه الطريقة. لكن الدول تنقسم إلى العمل بها على علم والعمل بها على جهل بالمصلحة البعيدة فتستبعد من يكون بحق قادرا على جعل هذه الآلية العملية تؤدي إلى نتائج إيجابية ومن يؤدي في النهاية إلى الفساد التام كما نلاحظ ذلك في جل بلاد العرب.
والعلة ليست إذن غياب تقسيم العمل لأنه لا يمكن لفرد أن يحكم من دون مساعدين مهما بلغ به الاستبداد والفساد. العلة هي في نوع التقسيم ومن اختير لأداء الوظائف المؤسسة للقرار السياسي ومن ثم فالمشكل يرد إلى الفرعين اللذين أشرنا إليهما: بنية المؤسسات ونظام عملها واختيار من يشغلها وأخلاقهم.
فأما بنية المؤسسات فيكفي ما قلناه في مقومات الدولة. وأما انتخاب من يشغلها فذلك هو الداء الدوي الذي علينا الكلام عليه الآن. فهذا الانتخاب من قبل من له السلطة شرعية كانت أو غير شرعية من المفروض أن يكون دائما محكوما بطلب الأصلح فحتى المستبد يريد أن ينجح مهما كان فاسدا وغبيا.
فلست أفهم شخصيا المستبد والفاسد أن يختار من لا يفيده في تحقيق ما يبقي عليه لأن نجاحه شرط بقائه حيث هو. لست أفهم الحد الذي وصل إليه غباء مستبدينا عندما يفضلون المطلبين على الناصحين في حين أن هؤلاء أفيد لهم من أولئك الذين هم في الغالب ينافقونهم ولا يعنيهم نجاحهم في شيء.
وليكن مثالنا مرض المستبد والفاسد: هل يذهب لأفضل طبيب أم لمن ينافقه فيكذب عليه بدلا من علاج مرضه؟ طبعا هذا الكلام يفهمه من كان فيه بعض صلاح. لكن من كان بالجوهر فاسدا -فساد معاني الإنسانية-لا يمكنه أن يفكر بهذه الطريقة لأن معاني الإنسانية لديه أفسد مما هي لدى مستشاريه المغررين به.
ويكفي أن ترى من يحيط بالسيسي وبمراهقي تمويل الثورة المضادة وستفهم القصد بأنهم يستمدون دورهم من فساد معاني الإنسانية في من جعلهم بلاطه واعتبر ان المال والعنف يكفيان لحكم شعب حر. وهذا يصح على علماء السوء من الدعاة سواء كانوا دعاة دين وأصالة أو دعاة عقل وحداثة: كاريكاتور الفكر.
إذن السؤال الفرعي الأول: ممن ينتخب من يشغل الخانات الخالية أو المؤسسات حتى تعمل؟ والسؤال الفرعي الثاني: كيف يتم ذلك ولم هو أساس الفساد والاستبداد أو الصلاح والحرية في الجماعة التي تصبح قادرة على النظر قبل العمل لتعمل على علم فتكون صانعة ذاتها “كاوزا سوي”؟
يبدو السؤالان الفرعيان بسيطين وكأن الأمر لا يتعلق إلا بإرادة السياسي فيحمل وحده مسؤولية الفساد السالبة أو مسؤوليته الموجبة. في الحقيقة المسألة شديدة التعقيد بل هي متافيزيقة إن صح التعبير. فكل فرد إنسان يتقوم بخمس خصائص هي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود بأقدار مختلفة.
ولأنها بأقدار مختلفة نجد من تغلب عليه هذه الصفة بدل تكل فيصبح بالوسع تصنيف الأفراد بهذا المعيار فنجد من تغلب عليهم الإرادة ومن يغلب عليهم العلم ومن يغلب عليهم القدرة ومن يغلب عليهم الحياة ومن يغلب عليهم الوجود. وتلك هي أصناف النخب في أي جماعة بشرية.
فمن تغلب عليهم صفة الإرادة تجدهم ميالين للقيادة عامة والسياسية خاصة. ومن تغلب عليهم صفة العلم تجدهم ميالين للبحث والمعرفة عامة. ومن تغلب عليهم صفة القدرة تجدهم ميالين للربح المادي والاقتصادي ومن تغلب عليهم صفة الحياة تجدهم ميالين للفنون والألعاب ومن تغلب عليهم صفة الوجود للرؤى.
وكل هذه النخب يحكمها نفس القانون: التنافس على القيادة والتنافس على المعرفة والتنافس على الثروة والتنافس على الإبداع الفني واللهو والتنافس على الرؤى دينية كانت أو فلسفية. فتكون كل نخبة شبه سوق تنافس بين عرض وطلب الحكم فيه النجاح في التراتب الذي تكون الجماعة حكما فيه.
وقد تنبه ابن خلدون لهذه الظاهرة فسمى الجماعة والدولة السوق الكبرى أو العظمى لأن كل هذه النخب في سباق يحكمه قانون اقتصادي هو العرض والطلب الذي يجتمع فيه الحقيقة والوهم حقيقة المعروض أو وهمه إذ جل هذه الصفات فيها الحقيقة والظاهر ويصعب التمييز بين الحقيقي والمخادع في المعروض.
كل المشكل هو شروط التمييز (من يقوم به وبأي معايير) بين الموجود بحق Etreوظاهر الوجود Paraitre لانتخاب من يكون جديرا بشغل الخانات الخاوية التي تتألف منها مكينة الدولة أو منظومة مؤسساتها التي تعمل بها بوصها أدواتها أو جوارحها إن قسناها على الكائن الحي.
فإذا فرضنا أن من سننتخب من أصحاب الإرادة من يعتبره جديرا بتمثيل إرادته هو الشعب وإذا فرضنا أن من ينتخبهم الشعب سينتخبون من يكون أفضل ممثل للإرادة وللعلم وللقدرة وللحياة وللوجود أعني الشروط الخمسة التي إذا توفرت في الدولة جعلتها تعمل وكأنها شخص عاقل يريد ويعلم ويقدر ويحيا ليوجد.
وختاما فإن الدولة يمكن أن تكون ذات الجماعة الواعية بذاتها والعالمة على صنع ذاتها بحسب إرادتها التي تعمل على علم فتقدر على ما تريد وتحيا الحياة التي تريد برؤية تؤمن بها مرجعية لكيانها الحضاري والروحي وهي ثابتة ماديا لكنها في صيرورة أبدية معنويا لأن معناها هو تأويلاتها المتوالية.
ولا بد من فهم بنية هذه السوق التي تحكم الصفات الخمس: سوق التنافس على:
تمثيل الإرادة (الساسة)
وتمثيل المعرفة والخبرة (العلماء)
وتمثيل القدرة (الاقتصاديون)
وتمثيل الحياة (الفنانون واللاعبون)
وتمثيل الرؤية (المتكلمون والفلاسفة): فهي كلها اقتصادية الجوهر.
ماذا أعني باقتصادية الجوهر هي عمل على علم لإبداع بضاعة أو خدمة تسد حاجة للجماعة فعلية أو حتى مصطنعة. وفيها خمسة عوامل:
مبدع الفكرة
مستثمر الفكرة
ممول الاستثمار
العملية نفسها عملا وإدارة
المستهلك أو طالب سد الحاجة.
السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤية كلها خدمات وبضاعة.
وكلها هدفها تحقيق شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف. وهي بهذا المعنى شبه تقسيم طبيعي للعمل في الجماعة وفي وعيها بذاتها أو الدولة التي هي التصوير الذاتي للجماعة التصوير الذي يجعلها مبدعة لذاتها “كاوزا سوي” أي إن الجماعة هي تاريخها الحضاري المدرك لذاته.
وإدراك الذات في الأمم الحية هو الزمان التاريخي مخمس الأبعاد: فهو حدث ماضي يحيا في الحديث الدائم حوله وحديث مستقبل هو مشروع احداثه وبين هذه الأبعاد الاربعة أحداثا وأحاديث يوجد الحاضر بوصفه مرجلا يغلي بالأحاديث حول أحدث مضت وأحداث لم تحصل بعد: موجود فات وموجود لم يحن بعد.
وهذا هو جوهر العلاقة بين النظر والعمل العلاقة التي أردت أن أشرحها في حواري مع الصديق حسن حنفي. اضطررت الآن للعودة إليها بعد عقدين من الزمان لأني لاحظت أن أدواء الامة كلها أصلها فصلها هو غياب النظر الذي يهدي العمل وسيطرة الارتجال الذي لا يدل على وجود الرجال.