مرض العرب، الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل

ماذا يعني إذن تقدم النظر على العمل بالنسبة إلى الجماعة. بالنسبة الى الفرد الامر بين. فلا نسمي راشدا إلا من كان في سلوكه فكر متقدم على فعله. وهذه من ثمرات القدرة على الترميز التي هي خاصية الإنسان والتي تتجاوز مجرد مفهوم العقل لأنها أشمل وليست مقصورة على النطق: فهو مستبين ومبين.

والاستبانة والإبانة مستحيلتان من دون حضور الأشياء ليس بذاتها بل برموزها قبل حضورها بذاتها وذلك هو سر القدرة على تقدم النظر وحساب الخطى قبل العمل والقيام بها في كل عمل يقدم عليه الإنسان. وهذا النظر المتقدم يجمع بين التذكر والتوقع فتحضر كل الخبرة التي بالفعل والتي بالقوة ذخيرة للفعل.

ولما كانت الجماعة ليست ذاتا فردية ولها القدرة على الاستبانة والإبانة وكأنها فرد فإن ما يعوض الذات الجمعية هو ما يسميه ابن خلدون صورتها أو دولتها بمعنى أن الجماعة تفكر وتقدم النظر على العمل وكأنها فرد ليس بكيانها الجمعي بل بصورتها التي هي كيان معنوي فاعل حكما وتربية بأعضائه.

ومثلما لا نسمي فردا راشدا إلى من صار النظر عنده مقدما على العمل بفضل القدرة الترميزية التي تحضر الأشياء برموزها في غيابها حتى يتم التفكير فيها قبل الاقدام على الفعل بها أو فيها أو عليها فكذلك لا نسمي دولة أو صورة جماعة إلا ما كان ذا أعضاء تؤدي هذه الوظيفة كأنها جوقة متعددة الآلات.

والدولة كفريق يعمل وكأنه “ذات” الجماعة تتألف من الأعضاء التي بها تتعين النخب التي تمثل جوارح الجماعة: نخبة الإرادة (الساسة) ونخبة معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ (العلماء) ونخبة الإرادة (أصحاب الانتاج المادي أو الاقتصاد) ونخبة الحياة (أصحاب الانتاج الرمزي أو الفنون الجميلة).

وأصل كل هذه النخب نخبة الوجود أو الرؤى التي تدرك الواحد في ذلك أو تؤول الكل لتستخرج منه نظامه الواحد إما في شكل ديني روحي أو في شكل فلسفي عقلي. والفرق بين الروحي والعقلي أن الأول تعبير وجداني يشمل الجميع والثاني تعبير منطقي خاصي يقتضي نوعا من البناء المنطقي المعقد.

وهذا النوع الأخير من النخب لا تخلو منهم جماعة وهم يمثلون حكماءها أو المعبرين عن أساسيات مرجعيتها أو طبيعة العلاقة بينهم وبين الكلي الإنساني عامة وهم إن شاء حضور الإنسانية العامة في كل تعين للإنسانية إما من منطلق المشترك نسق الوجدان أو من منطق الفرقان وجهي حياة الإنسان.

ماذا حدث في حضارتنا فجعل هذه الأعضاء تضمر بالتدريج وأصبح الجميع فاقدا لحرية الفكر والمشاركة بما يتميز به من منظور من دونه تفقد الجماعة أحد أعضائها كذات مدركة لكيانها وكأنها فرد سوي وصل إلى الرشد فصار عمله تاليا عن نظره حتى يكون مختلفا عن الظاهرة الطبيعة والحيوان.

الجواب قدمه ابن خلدون وحاولنا بيان تكوينيته في تاريخ الامة من خلال الكلام على قلب الدستورين السياسي والمعرفي. وهو ما يفسد معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون وقد حصر العلة في نوعين من العنف: العنف في التربية والعنف في الحكم يفسدان معاني الإنسانية ومرة أخرى فلنورد هذا النص الثوري.

فهو يعرض مستويات معاني الإنسان ودلالات فسادها الخمس ما هي: ” ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم:

  1. سطا به القهر وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل

  2. وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الايدي بالقهر عليه

  3. وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا

  4. وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك

  5. بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين.

وهذه الدلالات الخمس في التربية النظامية هي عينها في التربية الاشمل التي لها مستويان هما سلطان الحكم وسلطان المجتمع. وكلها تعمل على قتل هذه الأعضاء الخمسة التي وصفها ابن خلدون والتي تجعل الإنسان خاملا بأخلاق الصغار الحقيرة.

وتكلمت على اخلاق “الصَّغار الحقيرة” لأن الخرج الذي ينسبه ابن خلدون إلى اليهود ليس بسبب يهوديتهم بل بسبب ما عانوه من قهر وعسف ليس موجودا عند العرب لأنه لم يولد ما وصفه نيتشة عند اليهود وما فعلوه من قلب كل القيم حتى يصبح العبد سيدا: العرب بقوا عبيدا بسبب الصغار الحقير.

تخابث الخرجيين جعلهم سادة العالم وبقوا شبه قبيلة واحدة رغم سلطانهم الممتد في جل بلاد العالم وخاصة بالتطفل على قوة العصر أما تخابث العرب فهو فيما بينهم. فكل واحد منهم لا يكبر في المطلق بل يسعى ليبقى الكبير بتصغير أخيه: لا يريد أن يكبر العرب معا بل يريدهم أن يصغروا ليبقى أكبرهم.

وبذلك قلما كبر العرب بعد أن قلبوا الدستور السياسي والمعرفي بل خرجوا من التاريخ ونكصوا إلى الجاهلية ولو لم يسخر الله الاقوام الاخرى لرعاية حضارة الإسلام وحمايتها لحصل لنا ما حصل للهنود الحمر. ذلك أن الاستبداد والفساد هو ما ينتج عن النكوص إلى فعل الحيوان: غرائز ودوافع لا واعية.

الاستبداد والفساد أو العنف في الحكم وفي التربية يجعل الدولة التي هي ذات الجماعة أو وعيها الذي من واجبه أن يكون فكرها المنظم لعملها من حيث هو التناغم بين أعضائها يجعلها جهازا أعمى واصم وأبكم يعمل كآلة إرادتها غريزية وعقلها العادة بلا قدرة ولا ذوق ولا رؤية إلا التقليد البليد.

ولما كان ذلك مستحيلا في أي جماعة فإنها تصبح مقودة من جماعة أخرى لها ما فقدته هذه الجماعة وتلك هي العبودية: كل بلاد العرب لها دولة في الظاهر لكنها مسيرة عن بعد في الباطن. ومزية الربيع أن فضح هذا التسيير عن بعد لأن أصحابه شعروا بأنه لم يعد كافيا فحضروا للتحكم المباشر في المجرى.

وطبعا فالجماعة لا تقاس على الفرد حتى وإن كان الرسول يعتبرها -عندما تكون كما يقتضيها صادق الإيمان-كالجسد الواحد. لكنها “ك” وليست “جسدا واحدا”. لذلك فالأولى أن تقارن بالضروري لأي جنس حي من الوظائف التي تتغير أعضاؤها أدائها: فتكون المؤسسات كبينة خاوية هي الوظائف والقيمون عليها أعضاء.

وسنرى حينها أن المقارنة ليس “ك” بل هي عينها: فلا بد من جهاز مناعة للحماية ولا بد من جهاز علاج للعلاقتين العمودية والأفقية وذلك يصح على كل اصناف الكائنات الحية ومن باب أولى على الإنسان لأن الامرين عندها منفصلان ويتقدم فيها الاسترماز على الأفعال أو النظر على العمل.

ولذلك فللجماعة جهازان عصبيان مركزيان أحدهما ينظم العلاقة العمودية بين البشر التي هي مقدمة لأن نظامها شرط تنظيم العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة التي هي مورد الرزق الأساسي وكل الموارد الاخرى مشتقات أو خدمات تابعة لها أو للمستوى الثاني: الأنس بالعشير أو سد الحاجات الروحية.

فما يسميه ابن خلدون العمران البشري لسد الحاجات هو ما أسميه علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة وأهمها بعد فيها البحث العلمي والاقتصاد وما يسميه ابن خلدون الاجتماع الإنساني للأنس بالعشير هو ما أسميه علاج العلاقة الافقية بين الإنسان والإنسان وأهمها استعلام الجماعة عن ذاتها.

وإذن فالأول هو لتحقيق شروط حماية الجماعة ورعايتها بمنظور الحاجات المادية خاصة والثاني هو لتحقيق شروط الحماية والرعاية بمنظور الحاجات الأمنية والروحية خاصة. وعبارة خاصة تعني أن كلا الأمرين متداخلان لكن كلا منهما يتقدم فيه دور هو همه على دور الثاني.

ومن ثم فالبنية هي دوران ثم فعل الأول في الثاني وفعل الثاني في الأول بحيث يكون نظام الجماعة شبيها بالنظام العضوي لأنه ينتج ذاته وهو غاية ذاته ولا يبقى إلا مقدار محافظته على عمل هذه الوظائف وهي عشرة ويوحد الهيئة الحاكمة والمعارضة من قواه السياسية إذا كانت شرعية.

صحيح أن السنة خلال حالة الطوارئ التي دامت أربعة عشر قرنا أي منذ الفتنة الكبرى لم تعمل بهذا النظام بل اعتبرت نظام التغلب من الضرورات التي تبيح المحظورات فبقي النظام مبدئيا جمهوريا ديموقراطيا لكنه في الممارسة دكتاتوري “الملك العضوض”. ولنعد إلى بيت القصيد: ما الوظائف وكيف تعمل على علم؟

توقعت أن أفرغ من البحث في خمسة فصول. لكنها لم تكف لذلك فسأواصل في فصول لاحقة للجواب عن ذين السؤالين حتى نستطيع شرح القصد بأن العمل الإنساني ليس بنظام العلاقة بين الغاية والوسيلة حيث يتقدم العمل على النظر أو الغاية على الوسيلة بل بنظام الوسائط بين الغاية والوسيلة حيث يقدم النظري.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي