لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل
ماذا يعني إذن تقدم النظر على العمل بالنسبة إلى الجماعة. بالنسبة الى الفرد الامر بين. فلا نسمي راشدا إلا من كان في سلوكه فكر متقدم على فعله. وهذه من ثمرات القدرة على الترميز التي هي خاصية الإنسان والتي تتجاوز مجرد مفهوم العقل لأنها أشمل وليست مقصورة على النطق: فهو مستبين ومبين.
والاستبانة والإبانة مستحيلتان من دون حضور الأشياء ليس بذاتها بل برموزها قبل حضورها بذاتها وذلك هو سر القدرة على تقدم النظر وحساب الخطى قبل العمل والقيام بها في كل عمل يقدم عليه الإنسان. وهذا النظر المتقدم يجمع بين التذكر والتوقع فتحضر كل الخبرة التي بالفعل والتي بالقوة ذخيرة للفعل.
ولما كانت الجماعة ليست ذاتا فردية ولها القدرة على الاستبانة والإبانة وكأنها فرد فإن ما يعوض الذات الجمعية هو ما يسميه ابن خلدون صورتها أو دولتها بمعنى أن الجماعة تفكر وتقدم النظر على العمل وكأنها فرد ليس بكيانها الجمعي بل بصورتها التي هي كيان معنوي فاعل حكما وتربية بأعضائه.
ومثلما لا نسمي فردا راشدا إلى من صار النظر عنده مقدما على العمل بفضل القدرة الترميزية التي تحضر الأشياء برموزها في غيابها حتى يتم التفكير فيها قبل الاقدام على الفعل بها أو فيها أو عليها فكذلك لا نسمي دولة أو صورة جماعة إلا ما كان ذا أعضاء تؤدي هذه الوظيفة كأنها جوقة متعددة الآلات.
والدولة كفريق يعمل وكأنه “ذات” الجماعة تتألف من الأعضاء التي بها تتعين النخب التي تمثل جوارح الجماعة: نخبة الإرادة (الساسة) ونخبة معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ (العلماء) ونخبة الإرادة (أصحاب الانتاج المادي أو الاقتصاد) ونخبة الحياة (أصحاب الانتاج الرمزي أو الفنون الجميلة).
وأصل كل هذه النخب نخبة الوجود أو الرؤى التي تدرك الواحد في ذلك أو تؤول الكل لتستخرج منه نظامه الواحد إما في شكل ديني روحي أو في شكل فلسفي عقلي. والفرق بين الروحي والعقلي أن الأول تعبير وجداني يشمل الجميع والثاني تعبير منطقي خاصي يقتضي نوعا من البناء المنطقي المعقد.
وهذا النوع الأخير من النخب لا تخلو منهم جماعة وهم يمثلون حكماءها أو المعبرين عن أساسيات مرجعيتها أو طبيعة العلاقة بينهم وبين الكلي الإنساني عامة وهم إن شاء حضور الإنسانية العامة في كل تعين للإنسانية إما من منطلق المشترك نسق الوجدان أو من منطق الفرقان وجهي حياة الإنسان.
ماذا حدث في حضارتنا فجعل هذه الأعضاء تضمر بالتدريج وأصبح الجميع فاقدا لحرية الفكر والمشاركة بما يتميز به من منظور من دونه تفقد الجماعة أحد أعضائها كذات مدركة لكيانها وكأنها فرد سوي وصل إلى الرشد فصار عمله تاليا عن نظره حتى يكون مختلفا عن الظاهرة الطبيعة والحيوان.
الجواب قدمه ابن خلدون وحاولنا بيان تكوينيته في تاريخ الامة من خلال الكلام على قلب الدستورين السياسي والمعرفي. وهو ما يفسد معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون وقد حصر العلة في نوعين من العنف: العنف في التربية والعنف في الحكم يفسدان معاني الإنسانية ومرة أخرى فلنورد هذا النص الثوري.
فهو يعرض مستويات معاني الإنسان ودلالات فسادها الخمس ما هي: ” ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم:
سطا به القهر وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل
وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الايدي بالقهر عليه
وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا
وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك
بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين.