لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل
كان موقف الزميل حنفي ترجمة مباشرة لعبارة منسوبة إلى ماركس: كفى تأويلا للعالم علينا تغييره. وأفهم أن يقدم حنفي العمل على النظر. ولا أحد يشك في أن غاية النظر العمل وأن الغاية مقدمة على الوسيلة. وهذا صحيح في نظام علاقة الغاية بالوسيلة وليس في نظام الانتقال من الموجود إلى المنشود.
فمن طبيعة هذه العلاقة الثانية أنها استراتيجية تحقيق العلاقة الأولى: حتى أصل إلى الغاية لا بد من خطة للعمل بالوسيلة التي توصل إليها بأقل كلفة. وذلك هو دور النظر. وهو إذن استراتيجيا مقدما على العمل. وقد مثلت لهذا المعنى بالسياسة والاقتصاد والحرب أي الفنون التي جوهرها استراتيجي.
وجوهر الاستراتيجي يمكن تلخيصه في العبارة التالية: كيف أحافظ على الموجود واستمد منه ما يمكن من تجاوزه للمنشود ولا يكون ذلك إلا بتوقع ما يتهدده وما يقويه والعمل على الحد من الأول والزيادة في الثاني وكل ذلك قبل حدوث التهديد المتوقع واستباقه بالفعل بدل انتظاره لرد الفعل عليه.
وبهذا المعنى فالنظر -كل العلوم- مجرد استراتيجيات عمل مؤجل. فيكون النظر نوع من بنك الحلول الممكنة عند أزوف الحاجة في العمل. ولهذه العلة فالنظر يحتاج دائما للامتحان العملي وهو التجربة التي تبين أن الخطط النظرية ليست مجرد تصورات ذهنية بل هي أعمال مؤجلة للتعامل مع الطبيعة والتاريخ
وبهذا المعنى كذلك فإن كل هزائم العرب في النهوض والبناء الحضاري منذ قرنين وكل هزائمهم في الحروب مع إسرائيل وفي التصدي للغزو الإيراني سببه الأساسي غياب هذا الزاد الاستراتيجي فلا علم لهم بالطبيعة ولا علم لهم بالتاريخ وإنما هم يأكلون كما تأكل الأنعام ولا يدور بخلدهم تجاوز اليوم بيومه.
لذلك فهم لم يكبر فيهم إلا بطونهم ومؤخراتهم وعماراتهم الشوهاء التي لا تعبر لا عن ذوق ولا عن أصالة. فما دخلت مطارا عربيا -وخاصة في الأنظمة العسكرية-إلا ورأيت البداوة في مراحيضها وفي نظامها: هي خيام قذرة ومعاملات فجة وسلوك لا علاقة له بأخلاق المسلم ولا بكرم العربي.
واذكر أني نزلت ضيفا على اتحاد الكتاب العرب في دمشق منذ أكثر من عقدين. فكان من تلقاني ضابط متقاعد وكان من نظم الندوة ضابط متقاعد وهو مؤكد من المخابرات. ولما كان من الثابت أن الضباط هم أجهل خلق الله لأن جلهم من جنس السيسي فتعلم معنى النظر والاستراتيجيا التي تقود تصديهم للأعداء.
وقد أفهم ماركس وإن كنت لا أوافق على نهاية التأويل وضرورة الاكتفاء بالتغيير وهو في الحقيقة عمل العكس لأنه كتب رأس المال (نظر) ليقود ثورة (عمل) لكني لا أفهم حنفي. فالجميع في بلاد العرب يرمي في عماية: لا نكاد نعلم شيئا عما يجري في مجتمعاتنا كلها الغاز لم تدرس ولم تفهم ولم تحلل.
ولذلك فمن الطبيعي أن يكون العمل الذي لا يسبقه نظر من جنس عمل أمراء الحرب في المعارضات وأمراء الحرب في الأنظمة الحاكمة: الجميع يضرب يمنة ويسرة ويصرح كل من يقول له لا ولو جاءه بمليون دليل على أن ما يفعله ضرره أكبر من فائدته: هل يوجد من يمنع صبي السعودية بما يفعل ببلد الحرمين؟
هل نعجب حينئذ من تخلل مليشيات إيران كل بلاد العرب من الماء إلى الماء وبأيدي أبنائها الذين لا يقودهم إلى العمل المباشر دون نظر إلا في دنايا الغايات الفردية وإهمال كل ما يتعلق بمصير الجماعة قريبا كان أو متوسطا أو بعيدا؟ وهل نعجب من نتائج دهاء الصهيونية والصفوية ضد السنة؟
وهل تعجب عندما تسمع محمية عربية تدعي أنها في حوار استراتيجي مع أمريكا أو انجلترا أو فرنسا أو أي بلد آخر فرق الحجم بينهما كيفي وليس كميا؟ وهل تعجب أن تصبح كل قبيلة عربية تدعي أنها دولة؟ وهل تعجب إذا أصبحت السفارات والمنظمات التي تسمى مجتمعا مدنيا مجرد مراكز لتنافس القوى المحتلة؟
كل ذلك له صلة بهذه القضية ومآل النخب في مجتمعاتنا بأصنافها الخمسة: نخبة الإرادة وهم الساسة ونخبة العلم وهم الخبراء والباحثون ونخبة القدرة وهم الاقتصاديون ونخبة الحياة وهم الفنانون ونخبة الوجود وهم اصحاب الرؤى الدينية والفلسفية. هؤلاء يمثلون كيان الجماعة كذات فاعلة ومنفعلة.
فإذا تحولت إلى ذات منفعلة بسبب غياب النظر المعد للعمل فإن الجماعة تتحول إلى كيان عديم الوعي بالذات من حيث هي متفاعلة مع من يحيط بها في جغرافية المعمورة ويتنافسون عليها في هذه الحالة كمجرد صيد ثمين فاقد لشروط الحماية والرعاية أو مقومي السيادة علاقة بين كيانات تتقاسم المعمورة.
ولسوء الحظ لا يمكن لأحد أن ينكر أن العرب قد تحولوا إلى كيان عديم الذاتية. فكل ما يجري في الإقليم هم صيده الثمين لكل الفاعلين فيه لكنهم أكثر الناس غيابا إذا ما استثنينا ردود الفعل التي هي مزيد التبعية والاحتماء بنفس الأعداء لأنهم انقسموا إلى توابع ذراعي القوتين المسيطرتين عليه.
وهم بهذا السلوك تحولوا حكاما ومعارضين إلى الايدي التي تحقق استراتيجيات الاعداء حتى عندما يتوهمون أنهم يقاومونها. فالذي يحتمي بإيران وروسيا يساعد على استعمارهما لأرضه واستباحتهما لعرضه دون أن يحق بذلك ادنى إنجاز ضد من يتصور نفسه يقاومه أي إسرائيل وأمريكا.
والعكس بالعكس: فمن يستسلم لإسرائيل وأمريكا يساعدهما على احتلال بلاده مثل الاول ومثله كذلك على تشويه مرجعيته الروحية باسم محاربة الإرهاب دون أن يحقق شيئا ضدا من يحتمي منه بمن يحتمي به: فكلاهما يخطط وهم ينجزون خطته بمليشيات القلم والسيف وبأجهزة الدولة المحمية.
خذ أي بلد عربي وانظر ما الذي يحدث فيه مقارنة بما يحدث في إسرائيل أو إيران: فهذان كلاهما يعلم أن العرب أعجز من أن يهاجموهما. ومع ذلك فكل همهم هو تحقيق شروط الحماية في حالة قيام حرب. لكنك لو تجولت في أي مدينة عربية لما وجدت ملاجئ أو دفاع مدني يمكن أن يسيطر حتى على حريق عادي.
كلهم نيام على الاطمئنان للقواعد الأجنبية التي يتوهمون انها ستحميهم إن حدث هجوم عليهم وهو ليس مستبعدا بل هو ممكن في أي لحظة حتى فيما بينهم لأنهم جميعا يتربصون ببعضهم البعض. ولا يوجد عاقل يمكن أن يعتبر غيره مستعدا للموت من اجله. وإذن فكل ما يتصورونه إنجازات هو قصور على الرمل.
وحتى يغطوا على سفاهة رأيهم وغباوة فكره يكثرون من الكلام على السلام والوسطية لكأنهم يعيشون في عالم الملائكة التي “لا تخبش ولا تدبش”(بالتونسي) ولكأن من يحتمون به يخفي أنه لم يأت ليحميهم بل ليحمي مصالحه ولذلك فهو لم يستشرهم لما عقد الصفقة النووية مع إيران بل “نفخهم”.
وما النظر في هذه الحالة؟ خذ لك مثال أوروبا بعد الحرب الثانية: خسرت مستعمراتها نهائيا والامر بدأ بعد نهاية الحرب الأول وتقاسم العالم بين القطبين الذي بدأ مع ولسون واكتمل مع ستالين بعد هزيمة هتلر واليابان: فهمت أوروبا أنها أصحبت مستعمرة سوفياتية أمريكية. وكان عليها التدارك.
صحيح أنها لم تتمكن بعد من التدارك في القوة العنيفة. لكنها تداركت أمرها في القوة اللطيفة: بات بوسعها أن تحقق انجازات في البحث العلمي لا تقل مكانة ولا حجما ولا قدرة على ما تنجزه أمريكا وتفوقت على روسيا التي تبينت الآن قوة من العالم الثالث حتى وإن كانت مسلحة بخرجة السوفيات.
ولست أستبعد أن تحتاج أمريكا إلى السماح لأوروبا بالمرور إلى التنافس في القوة العنيفة حتى تستطيع الصمود أمام عمالقة العالم الذي بدأ فجره في البزوغ (الصين والهند شرقا وقوى أمريكا اللاتينية غربا) ونخبنا بأصنافها الخمسة تغط في نوم عميق ولا تفكر في شرط الشروط: الحجم المناسب للعصر.
لذلك فما يحفزني للكتابة في الأمر هو أن العرب اليوم في وضعية ممالك الطوائف في الأندلس. ولا أستبعد أن بقي الامر على ما هو عليه اليوم أن تسترد الصهيونية والصفوية بمساعدة من أمريكا وروسيا امبراطوريتيهما المتقدمة على الإسلام إذا بقي العرب كما هم واستفردوا بتركيا: قطبي دولة الإسلام.
فدولة الإسلام أنشأها العرب وكادت تسقط لو لم يداركها الترك في النصف الثاني من حياتها إلى حدود نهاية الحرب الكبرى الاولى. وقد بلغ الغرب إلى دهاء جعل هذه النهاية تتحول إلى عداوة بين المنشئين والمحافظين عليها وزرع الألغام التي بدأت تنفجر في لحظة الاقليم الراهنة.
والألغام خمسة: سايكس بيكو وإسرائيل واحياء الفتنة الكبرى وزرع الفتنة الصغرى وأصل ذلك كله استراتيجية الحرب على الإسلام الذي هو العامل المحير لحضارة شوفينة وعنصرية لا تقبل التعايش مع منافس ما جعل استراتيجييها يتصورون الإسلام مثل الشيوعية يمكن القضاء عليه بحماقاتهم الحالية.