لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل
وهذا التشخيص هو ما جعلني أضع مفهوم معركة الكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وذروته داعش السيف وهم أمراء الحرب المادية في الحكم وفي المعارضة وكاريكاتور التحديث وذروته داعش القلم وهم أمراء الحرب الرمزية المساندة للحرب المادية أو فقهاء الأصالة والحداثة من نخب الفتنتين الكبرى والصغرى.
فكاريكاتور الأصالة يشوه الإسلام برده على كاريكاتور الحداثة ولا يدري أن هذا هو بدوره مشوه للحداثة أكثر منه. وكاريكاتور الحداثة يشوهها ولا يدري أن خصمه يشوه الإسلام أكثر منه. كلاهما كاريكاتور في كيانه وفيما يدعي تمثيله. فالتنافي بين قيمهما ليس حقيقة فيهما بل هو صفة قشورهما عندهما.
ولما كنت أعتقد أني غني عن بيان الطابع الكاريكاتوري للحداثيين الذين يأخذونها مقلوبة نتائج دون مقدمات أي متعها دون جهدها وثوراتها الخمسة التي تطلبت أكثر من خمسة قرون (الدينية والفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية) فإني اكتفيت بالتلميح وانشغلت ببيان الطابع الكاريكاتوري للتأصيليين.
وبذلك صارت الامة عاجزة عن علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة لتحقيق شروط الاستعمار في الارض وعلاج العلاقة الأفقية مع التاريخ لعلاج الاستخلاف وأصبحت الأمة عزلاء في مجالي الحماية والرعاية وهو ما أدى إلى حياة مآلها فساد معاني الإنسانية بعلوم زائفة تعلل الموجود وتلغي طموح المنشود.
أما عواقب تعطيل الدستور السياسي فقد بدا منذ أن حصل الفصام بين الأمر الواجب والامر الواقع في حكم السنة. الشيعة لم تلغ الوساطة ولا الوصاية بل هي مبنية عليهما. لكن السنة حافظت على تحرير الإسلام للإنسان منهما في الاقوال وعوضت الوساطة بخرافة ورثة الانبياء والوصاية بشرعنة التغلب.
وهبنا سلمنا بأن العلماء ورثة الأنبياء فالمفروض ألا يرثوا إلا ما يملكه النبي من علم. والنبي لم يدع علم الغيب وبينت أن كلامه على غيب المستقبل ينبغي أن يفهم بشرطه وهو “إن لم تحترموا ما جاء في التذكير الاخير أو الرسالة الخاتمة سيكون كذا وكذا”. أخذ سيكون كذا وكذا دون شرطه كذب عليه.
فهو يردد دائما انه لا يعلم الغيب ومن ثم فكلامه على المستقبل ليس توقعا غير مشروط بل هو يضمر أن الامة سيكون لها ما كان لغيرها من الأمم التي لم تحترم الرسالة ناهيك عن المسلمين الذين تلقوا الرسالة الخاتمة والتذكير الاخير. كل حديث الرسول حول المستقبل شرطي بهذا المعنى.
ادعاء وراثة النبي والرسوخ في العلم بمعنى عطف الورثة على علم الله المشروط في تأويل المتشابه هو الداء الدوي الذي آل بالأمة إلى ترك عالم الشهادة مجهولا والانشغال بعالم الغيب الذي لا يمكن ان يعلم لأنه بالجوهر محجوب حتى على الرسل ناهيك عن ورثته المزعومين.
ينسبون إليه ما لم يدعه ثم يرثونه فيما لا يملك ويرثونه بعقوق تماما كحال كل الورثة الذي يفرطون فيما ورثوه في خصومات هي التي فتت روح الامة ودارها وتاريخها وثورتها التي حررت الإنسان من الوساطة الروحية (الكنسية)والوصاية السياسية (الحق الإلهي أو التغلب). فأفسدوا معاني الإنسانية.
ولذلك فقد ترجمت عبارة “لحم العلماء مسموم ” بخطاب مثل هذا العلم هو السم الذي قضى على قدرة الأمة على تحقيق شروط الاستعمار في الارض بعلاج العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة وشرط الاستخلاف فيها بعلاج العلاقة الافقية بين الجماعة والتاريخ. فصرنا بلا سلطان على الطبيعة والتاريخ.
وقلبت كل قيم الإسلام: ففروضه كلها تقتضي على الأقل الحصول على النصاب في الزكاة وعلى شروط النظافة في الصلاة وعلى شروط الصحة في الصوم وعلى الاستطاعة في الحج أي إن أربعة من الفروض الخمسة تقتضي أن يكون الفقر كفرا لأنه يلغي شروط العبادات ولا يبقي إلى على الشهادة.
وتم الخلط بين الفقر إلى الله وهو لا يكون موجودا كوعي خلقي وروحي إلا عند من تحرر من الفقر إلى الطبيعة وإلى المسيطرين عليها والفقر الذي هو في النهاية مصدر عبادة العباد بدل عبادة رب العباد. وبذلك فقلب قيم القرآن آل إلى الكفر بها مع وهم تمثيلها. تلك هي حال الجهل الذي يدعي العلم.
وقد كتب هيجل في فلسفة التاريخ أن المسلمين لا يولون أهمية للاقتصاد ويفضلون الفقر فاضطررت لكتابة فصل أبين فيه أن ذلك ليس من الإسلام بل هو من قلب قيمه عند الأميين ممن يدعون العلم به وخاصة من زيف كلام المتصوفة الذين يعيشون متطفلين على العاملين بدعوى العزوف عما لا يملكون.
لا يستطيع أن يتكلم على الزهد من لا يملك ما يزهد فيه. الزهد فضيلة ليس في ذلك شك لكنه فضيلة مشروطة بالزهد فيما تملك بل وفي أغلى ما تملك. فإذا كنت معدما فلا تسمى كسلك وعدم سعيك زهدا بل هو كفر بما أمدك الله به من شروط الاستعمار في الأرض وقيم الاستخلاف لتزهد حقا فلا تعبد سواه.
ماذا أصاب الأمة حتى قلبت كل القيم التي حررها بها القرآن من الوساطة والوصاية فصارت كما وصفها ابن خلدون عيالا بحاجة إلى وسيط روحي ووصي سياسي بحيث إن كل تاريخ الامة صار محكوما بتخريف هذه العلوم الزائفة بالمرتزقة التي تأتي من خارج الأمة لتحكمها وهي تغط في هذيان “الراسخين في العلم”
والأدهى أنها اليوم غارقة في هذيان نوعين من الرسوخ السخيف في الإيديولوجيا: هذا الذي وصفت ثم هذيان أدعياء الحداثة التي ردت إلى إيديولوجيا استعمارية تعامل الشعوب كأنديجان تتصور أنها تحضرها عندما تسلخها من كيانها الحضاري باسم العلمنة واللبرلة عند من هم في أدنى مستويات البداوة.
وهؤلاء الأميون صاروا اليوم يعبدون قشور الحداثة متصورين أنها ما يرونه في الفترينات وفي الافلام وليس العلاج العلمي الصبور للعلاقتين منذ قرون في حضارات تؤمن بالعمل ولا تعيش على بيع خاماتها وعلى تهريث ثرواتها وعلى التطبيل للاستبداد والفساد وحمد الله على المكرمات رشاوي للإسكات.
مرة أخرى لا تفسير لما يجري عندنا إلا ما سماه ابن خلدون فساد معاني الانسانية: فالإنسان من حيث هو إنسان هدفه عملي لكنه ولأنه هدف فهو مسبوق بما يصل بين بداية الوعي بالهدف وغاية الوعي بالشروط الوسيلية للبلوغ إليه. كل فعل إذا كان هدافا هو إنجاز لخطة تحققه: ذلك هو معنى الفكر.
وحتى من فسدت فيه معاني الإنسانية فإنه يبقى إنسانا مفكرا. لكنه لا يفكر في انتخاب الهدف بعيد المدى والآجل بل يرتد إلى خبث المتحيل الذي يريد المباشر بأقل كلفة وجهد حتى ولو أدى ذلك إلى افساد شروط الحياة كلها. لذلك فمثل هذه الجماعات تصبح ذاتية التخريب: الكل يخرب الكل لغايته المباشرة.
وبلغة ابن خلدون الكل من جنس بني هلال: مستعد لقطح منبر المسجد حتى يطهو الشاي. وقد حصل ذلك في تونس لما فرض عليها إيديولوجي متفاقه نظرية التعاضد والملكية الاشتراكية. فكانت النتيجة أن العامل ينتقل لشراء سيجارة بجرار مسافات طويلة ويستهلك الطاقة لذلك ولا يعنيه خسارة التعاضدية.
وفي الحقيقة فإن الملكية التي تحرر ليست بالضرورة الملكية العينية لأن أمريكا بهذا المعنى أقل ملكية حتى من الاتحاد السوفياتي بل الشعور بها وأمل الحصول عليها وهي ليست عينية بل سهمية في رأس المال ومن ثم فهي جامعة للملكية الخاصة والعامة وأكثر سيولة وأقدر على الحركة المبدعة.
ولو كان الفقهاء يفهمون دلالة الطابع الكسري للفرائض لحرروا الملكية في الإسلام من التفتيت الذي ينتج عنها أنها بدلا من دورها في حفظ وحدة الأسرة لما تتحول إلى شركات مساهمة بمقدار حظ كل وارث جعلوها بعد وفاة الموروث تتحول إلى سبب الاقتتال بين الاخوة لأنهم ينتهون إلى تفتيتها.