لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله مرض العرب الغرق في العاجل لعدم النظر في الآجل
بقي علينا أن نجيب عن السؤال الثاني: كيف تعمل الدولة من حيث هي دولة أيا كانت الجماعة التي تمثلها هذه الدولة بوصفها عين ذاتها العائدة على ذاتها لتجعلها تتحقق بإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ورؤيتها للعالم سواء حصل ذلك حقا أو حصر مافية فاسدة تستحوذ على هذه الوظائف في أدنى حالها؟
ومعنى ذلك أنه حتى في أفسد دولة لا بد من أن تعمل الدولة بمن يمثل الإرادة (الساسة) وحولهم نخبة علم زائف وقدرة وهمية وحياة صبيانية ورؤية بدائية لا علاقة لها بالنظر الذي يهدي العمل في كل عمل إنساني يجري على علم أي بمقتضى استراتيجية شاملة للأنشطة المقومة للدولة كما وصفناها فيما سبق.
وإذا كان منطق عمل الدولة من جنس منطق عمل الكائن الحي حتى وإن لم تكن كائنا حيا لأنها جهاز شبه آلي من حيث البنية المجردة يصبح حيا بمن يشغل خانات البنية فتتعين الدولة كسلطة حكم وتربية في القيمين عليها ويكون الصلاح والفساد في البينة أو في القيمين عليها أو فيهما معا كحالنا.
وقولي كحالنا في الصلاح والفساد المضاعف أي في بنية الجهاز شبه الآلي لوظائف الدولة وفي القيمين عليها فقصدي أن ما يعتقده غالب المسلمين هو أن ذلك كان صلاحا في البداية حتى حدوث الفتنة الكبرى ثم صار فساد بسبب تعطيل الدستورين أو الانتقال إلى الملك العضوض بعد الخلافة.
ورأيي أن هذا التصور ينبغي ان يراجع أو على الأقل أن ينسب. ذلك أن الدولة قبل الفتنة الكبرى لم تتكون أعضاؤها ككيان تام البنية بل هي كانت بصدد التكون فحصلت الفتنة ولما يتكمل بنيانها: الرسول جاء بالمشروع وكون رجالا لتحقيقه فكان تحديد المركز المكاني وتوحيده (الصديق) بحرب الردة.
ثم جاء توحيد المركز الزماني بتأسيس تقويم يعبر عن بداية جديدة للتاريخ (الفاروق) ثم جاء الحسم لإيقاف بداية تمزيق وحدة المرجعية أو التدوين النهائي للقرآن بتوحيد النسخ من خبراء معترف بهم من الجميع وبقانون الشهادة في الإسلام (على الاقل شهادة اثنين عدلين المصحف).
لكن كيان الدولة لم يبن بعد رغم أن مقومات المشروع استكملت لذلك تردد تعيين السلطة الشرعية بين ثلاثة تجارب مختلفة لم يبق منها إلى شكلياتها عندما عطل الدستور: الانتخاب الاول ثم التعيين الثاني ثم الانتخاب من لجنة مضيقة كمقترح يتم في مشاورة اهل الحل والعقد. والشكل الثابت هو الاختيار.
لكنها كانت بداية وبداية فسحب. لذلك فمن يتصور أن عصر الراشدين بلغ الرشد فهو لم يقرأ القرآن القراءة المتأنية التي تبين أن معنى الرسالة الخاتمة هو معنى التذكير الأخير. وهذا التذكير الاخير يعني أن الإنسانية صارت مطالبة بتدبر النقد القرآني لتجارب الإنسانية الروحية والسياسية.
لذلك حدد القرآن الدستورين السياسي حكما وتربية والمعرفي علما ومنهجا واعتبر الإنسان مستعمرا في الارض ومستخلفا في ضوء هذين الدستورين اللذين وقع تحريفهما عندما كما وقع تحريفهما قبلنا تحريفا هو موضوع النقد النسقي في القرآن تحديدا للديني مرجعية وللسياسي استراتيجية لتحقيقهما.
ولما كانت كل علوم الملة قد نشأت وانجزت بعد تعطيل الدستورين وفي عصر الانتقال من هذه المحاولة الاولى التي لم تكتمل فإنها كلها وبلا استثناء سيطر عليها منطق القوانين الاستثنائية لحالة الطوارئ التي صارت عليها الامة منذئذ إلى بداية الربيع العربي الذي بين بشعاراته أنه يريد الحريتين.
والحريتان هما جوهر ثورة الإسلام بالقياس إلى ما كان سائدا في عصره: تحرير الفرد من الوساطة الروحية بينه وبين ربه (لا كنسية في الإسلام) وتحرير الجماعة من الوصاية السياسية (لا حق إلهي في الحكم لأي شخص أو جماعة) بل الجماعة (الغزالي ابن تيمية ابن خلدون إلخ..) تختار باجتهادها من ينوبها.
وهذا الفهم لم تتخل عنه السنة في الاقوال لكنها بمنطق الضرورات تبيح المحظورات قبلت بإضفاء الشرعية على منطق التغلب فصار الفرد فاقدا للحرية الروحية لأن مؤسسة الوساطة تكونت (كنسية غير رسمية) لتكون في خدمة وصاية المتغلب على الأمة التي يمثلها مفهوم الملك العضوض.
ومن ثم فقد عطل الدستور المعرفي (الوساطة) والدستور السياسي (الوصاية) فقلب كل شيء: صار العلم علما بما لا يعلم لأنه لا يمكن للوساطة أن تتوسط إذا لم يكن لها علم متجاوز للعقل لم يبق علما بل أداة ترهيب روحي حتى بات المسلم لا يضع خيطا في سم الخياط من دون فتوى: تخل عن المسؤولية الروحية.
وهذا الفصام بين الأقوال المبدئية والأفعال الخاضعة للضرورة التي تبيح المحظور خاصية سنية لأن التشيع حسم الأمر فاستعاد الوساطة (لهم كنسية) والوصاية (لهم الحق الإلهي في الحكم لآل البيت) مبدئيا وفعليا حتى وإن كان الظرف يقتضي ولاية الفقيه لغياب الإمام (مؤقتا): وكل ذلك مناف للقرآن
كيف تعمل الدولة؟ رأينا مما تتقوم:
مرجعية سواء صيغت دينيا أو فلسفيا
قوى سياسية تنتج عن فهوم تأويلية للمرجعية في ضوء المنتظر من تنظيم الحياة الجماعية المادية والروحية لسد حاجات الإنسان المادية والروحية
دستور مكتوب أو عرفي ينظم التعايش وهو القانون الأسمى
هيئة حاكمة ومعارضة ولا فرق بينهما إلا في أن الحاكمة تحكم بالفعل والتي تعارض تحكم بالقوة لأنها تستعد للتداول سلما أو حربا (وهذا هو الفرق بين نوعي التداول)
واخيرا حضور الدولة الفعلي في حياة الجماعة لأداء وظيفتي الحماية الداخلة والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية وهذه المقومات هي صورة العمران