لتحميل المقال أو قراءته في ص-و-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
تنبيه مدير الصفحة:
أستاذنا يحب ابن تيمية لكنه كما قال أرسطو في أفلاطون يحب الحقيقة اكثر. ما بدا دفاعا عن ابن تيمية أمس لا يفهم إلا بعد النظر إلى الصورة كاملة: فبيان قيمة ابن تيمية لا تقتصر على منجزاته بل تتعداه إلى ما جعله ممكنا.
وما جعله ابن تيمية ممكنا بقي بالقوة في سلبيات منجزه من حيث دلالته ليس على فكره فحسب بل على حال الأمة التي كان فكره إحدى تجلياتها التي تتضمن حضور الكل في البعض. وذلك هو موضوع اليوم.
والعمل ليس من جنس التحليل النفسي للجماعات وإن شابهه بل هو من جنس التحليل الوجودي للفاعليات الرمزية التي تحدد مناخ النظر والعمل والتي يمكن استنتاجها مما سماه الاستاذ بما بعد الأخلاق علما رئيسا (ارشيتاكتونيك) بديلا مما بعد الطبيعة.
تكملة لنص “لماذا يكرهون ابن تيمية؟”
1-تكلمنا أمس في كمالات الفكر التيمي المعرفية والخلقية. لكن الكمال لله وحده. فهل في هذا الفكر نقائص خطيرة لعلها سبب هزال الخيال السني؟
2-وهذه الإشكالية من مفارقات الفكر السني عامة والحنبلي منه خاصة: يتهم بالحشوية أي بفهم نصوص القرآن حرفيا ومع ذلك فهو يرفض التخييل الشيعي والتدجيل الصوفي.
3-والمفارقة المقابلة موجودة عند الشيعة فأغلبها مُعطِّلة ومؤولة بالمعنى الاعتزالي وخاصة في صفات الله. لكنها حولت الدين إلى تخييل مطلق.
4-تعارض المفارقتين مما حيرني كثيرا. فالمتهم بالتجسيم جعل الدين تجريدا مطلقا يقتل الخيال والمتهم بالتعطيل جعله خيالا مطلقا يقتل الحقيقة. لماذا؟
5-تعليل المفارقتين ليس يسيرا. فالمتهم بالتعطيل تحكم في الغيب فحصره في السلب المطلق فلم يبق حدا للخيال: عديم الصفات يمكن أن تتخليه كما تريد.
6-والمتهم بالتجسيم يجد نفسه أمام قياس بواقعه المعيش والملموس مصحوبا بالنفي المطلق للمماثلة (ليس كمثله شيء) فيصبح كل تخيل عنده شبيها بالكفر.
7-وعندما يتوقف التخيل أو يبقى مكبوتا في حديث النفس فإن الإبداع يموت أو يكاد فيكون التعبد مجرد ترديد للنص كما هو دون ابتعاد تأويلي: عقم الفقهاء والدعاة تعويضا للفكر المبدع بالعياط والزياط (عند الشيعة بالعياط والزلاط).
8-ذلك هو سبب الضعف الحقيقي للفكر السني في مستوى الإبداع الجمالي والفني والاقتصار على التعبد الجاف والحرب على الخرافة التي هي جوهر الخيال.
9-إذن أنت بين عالم يكاد يقتصر على أجنحة الخرافة (الشيعي) وعالم يكاد يتقصر على كساح الواقع (السني الحنبلي): التجنيح والكساح الفكريين.
10-وهذه العلاقة كانت في آن معبرة عن علاقة سلطانية في الحياة الدنيا: لما كانت الشيعة معارضة دائمة بلا دولة والسنة دولة دائمة بلا معارضة.
11-كان التقابل بعبارة علم النفس التحليلي بين عالم يحكمه مبدأ اللذة الخيالية وعالم يحكمه مبدأ الواقع الفعلي. وطبعا فكلا النوعين مرض حضاري.
12-كيف ذلك؟ السني الذي يحكمه مبدأ الواقع نوعان: استهتار المستبد وافتقار الشعب. فيكون الشعب بين الثورة الدائمة ومخدر ببالوعة الحاجة المادية.
13-أما الشيعي فقبل أن يصبح ذا دولة كان الجميع يسبح في خيال الانتظار انتظار المهدي والحلم بمدينة الله في الأرض مع الغرق في مآتم التاريخ ومنادبه.
14-ولما تكونت الدولة وصالت عاد الشيعي إلى وضع شبيه بوضع السني مع فارق مهم: ما يزال لديه الخيال المجنح الذي يجعله أكثر خضوعا للاعبين به.
15-وهذا في الظاهر عامل قوة لأنه يقوي اللحمة في الجماعة بما يضفيه من شرعية على المستبدين بأمرها. وهذا الشرعية غائبة في الاستبداد السني.
16-الاستبداد واحد والفرق يتعلق بالشرعية: الشيعي يعتبر الحكم حقا إلهيا فيضفي شرعية على الاستبداد والسني يعتبره اختيارا فينفي عنه الشرعية.
17-ولما كان السني في مناخ روحي يلغي دور الخيال فإن نفي الشرعية يصبح ثورة إما صامتة أو دامية. ومن ثم فالنظام السني لم يصل بعد إلى توازنه.
18-وهو لن يصل إليه إلا إذا استعاد القدرة على التخيل في مستويات الوجود المعبرة عن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود السوي (معان نُعرِّفها لاحقا).
19-والنظام الشيعي لا توازن له إلا متى كان الاستبداد فيه يٌظهر عكس ما يُبطن: اعتمادا على مناخ الخيال يصبح المستبد رئيس جوقة التنويم الشعبي.
20-ولا يمكن لهذا التنويم العام أن يحافظ على مفعوله إلا بشرطين: المهدي المنتظر الذي هو على الأبواب والتآمر الدائم على عدو تاريخي: السنة.
21فحتى إذا لم يوجد العدو التاريخي -لأن الحكم السني كما وصفه هيجل غرق في الملاذ الدنيوية ولم يعد له حضور في التاريخ- فإن الشيعة تصنعه صنعا.
22-ذلك أن العدو السني ضرورة عقدية قبل وجود الدولة الشيعية وهو ضرورة استراتيجية بعد وجودها: لا بد لها منه مع المهدي المنتظر شرط اللحمة.
23-ذلك أن اللحمة الخيالية لا يمكن أن تصمد إمام صدمات الواقع الممزق لكل خيال: فدولة الملالي لن تبقى بمجرد انتظار المهدي لا بد من عدو خارجي.
24-وينبغي أن يكون هذا العدو الخارجي مضاعفا: واحد حقيقي والثاني تنكري. فحتى تخرب عدوك الحقيقي ينبغي أن تفتك منه مبدأ لحمته بالعدو الوهمي.
25-وهذه فكرة غامضة فلأشرحها: حتى تُفقِد الحكم السني سلطانه على شعوبه اقنع شعوبَه بأنك تحارب عدوهم بدلا منه وأنه حليف للعدو الذي تحاربه أنت.
26-بهذا الدهاء صدق الناس أن حزب الله وإيران يحاربان العدو الصهيوني وسيحرران القدس. وهم في الحقيقة يسعون إلى استرداد امبراطورية فارس.
27-واسترداد امبراطورية فارس يعني الثأر من العرب وليس من إسرائيل ولا من أمريكا. لكن ما الحيلة مع الغباء المصحوب بفقدان الخيال لدى السنة؟
28-طبعا سيقال ما علاقة هذا بنقائص الفهم التيمي للعلاقة بين الحقيقة والخيال وبين التفسير والتأويل؟ هذا مما أُتَّهم به من تعقيد: أين أذنك؟
29-تلك هي المشكلة: “أين اذنك”. الفكر الفاقد للخيال لا يرى البعائد ويقتصر على القرائب. لا يدرك أن أقصر الطرق في الوجود ليست الخطوط المستقيمة والغايات المباشرة.
30-الوجود متعرج ومتقطع ومتنطع عناصره شديدة التوالج والتشاجن والتشابك وهو عديم المباشرة إلا في الوعي الغفل. ذلك أنه كان من المفروض أن يجيب ابن تيمية وغيره على أهم سؤال قرآني.
31-كيف نفهم العلاقة بين الأسلوب القرآني الذي هو تشبيهي حتى لكأن الله كما قال ابن رشد في ذهن العامة إنسان مطلق بكل ما في الإنسان من صفات؟
32-في صلة مع قوله إنه ليس كمثله شيء؟ أو كيف نفهم وصف البعث حسابا وعقابا جنة ونارا من جنس لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر؟
33-هل نفهمه كالمستبدين يحرقون ويعذبون معارضيهم بجنهم ليعيشوا هم في الجنة في الدنيا لكأن اجرام المستبدين يقاس بالعدل الإلهي يوم الدين؟
34-أم إن”ليس كمثله شيء” تعني أن ما في القرآن من كلام على الله وصفاته وخاصة على حكمه العادل غاية لا تدرك والمعتبر هو إبداع ما يقربنا منها؟
35-تلك هي المعضلة التي أصابت السنة بالكساح الفكري والعقم الإبداعي خيرا وشرا: العبادة صارت بالتدريج كلاما فاقدا للدلالة إذ الحياة تخالفها بالنفاق بما يقرب من الإطلاق.
36-بمنطق المجاهدات: في المناخ الخلقي العام لا وجود للتقوى إلا في الظاهر أما الاستقامة فهي منعدمة تماما. ولا خلاف أنه يوجد بعض الزهاد.
37-لكن الزهد في الإسلام مناقض لطبيعة الرسالة: هي استعمار للإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف. الزهد كأخلاق فردية مهم. لكن الأخلاق العامة نضال.
38-والنضال إبداع رمزي وفعلي. فإذا عطلنا الإبداع الرمزي لم يبق الا الفعلي. والفعلي من دون الرمزي بدائي دائما لأنه عديم الأداة والمنهج.
39-وهنا يأتي الدور السلبي الذي أنسبه إلى ابن تيمية ومن ماثله: الوعي بأخطار الخيال والإبداع الرمزي بدلا من إصلاحهما أدى إلى موقف الاستغناء عنهما بفقه سد الذرائع.
40-صحيح أن الفلسفة والتصوف والكلام يمكن أن تنحرف فتصبح معادية للدين والحياة. لكن دينا وحياة من دونهما صحراء لا تنبت زرعا ولا تدر ضرعا.
41-ذلك هو العقم الذي كان ينبغي ألا ينجر عن ثورة ابن تيمية لو صحبتها عودة على الذات سيعا للبناء: أما سد الذرائع فبتر للأجنحة الإبداعية في العلم والعمل والجمال والجلال.
42-ذلك ما نحاول تداركه للبناء على ثورة ابن تيمية النظرية وثورة ابن خلدون العملية. فالأول نقد فلسفة النظر. والثاني فلسفة العمل دون البديل.
43-ما جعل الفكر السني تشبثا بدائيا بدعوى الكمال النظري والعملي دون سعي لتحقيق حصوله بالفعل: الإسلام صالح لكل زمان ومكان دعوى بلا دليل. وواجب الأمة تقديمه بعملها الحضاري وسلوكها الخلقي.
44-مهمة الفكر والخيال المبدع هو نقل هذه الدعوى إلى الحقيقة بإبداع الشروط والأدوات التي تحقق الغايات خاصة والقرآن عيَّن الكثير من مبادئ تحقيقها.
45-ذلك ما نطمح إليه. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تحرير الخيال المبدع مع حروز تحول دونه والمرض الشيعي الذي يحتاج إلى المهدي والعدو التاريخي.
46-وبذلك فالمذهبان يخلوان من الخيال المبدع الموجب: نسج الخيال الخرافي ليس إبداعا مثمرا بل هو للتنويم. والواقعية الجافة ليست عملا فعليا بحق.
47-لذلك فكلا المذهبين لا ينتج مناخا للإبداع الجمالي والعلمي ومن ثم فهما لا يزالان في طور العقل الذي لم يعد على ذاته ليتجاوزها بإبداعه: العقل البدائي.
48-ومن ثم فالشباب بجنسيه متردد بين الإلحاد والعنف في غياب البديلين: التأله الإبداعي لصنع الأشياء (العلوم) أو لصنع المعاني (الفنون).
49-ذلك هو حسب رأيي المأزق الذي يعاني منه مذهبا الإسلام الرئيسيين الذي صدق بحرفه إلى الغاية شرط جنوح الواقع (السنة) والذي كذب بحرفه إلى الغاية شرط جموح الخيال (الشيعة). والجنوح والجموح كلاهما مرض يؤسس للفساد والاستبداد.
50-والتصديق والتكذيب بالحرف ليس فهما لروح الإسلام التي هي استراتيجية استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف أي امتحانا لجدارته به.
51-والإنسان لا يكون جديرا بالاستخلاف إلا بالسعي للتخلق بأخلاق القرآن بنزر من صفات الله الذاتية: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.
51-والأولى سياسة. والثانية علم. والثالثة اقتصاد. والرابعة فنون. والأخيرة رؤى وجودية تحقق شروط المقام والقيام في الدنيا بوصفها مطية الآخرة.
52-وهذه الصفات تتعين في الفرد بأقدار مختلفة. لكنها كلها ضرورية له مهما كان سهمه منها ضئيلا ليكون الوجود الإنساني سويا فيسهم في الحياة الجماعية.
53-أما حياة الجماعة فتكون فيها هذه الصفات فرض كفاية: نخب تمثل إرادتها ونخب تمثل علمها ونخب تمثل قدرتها ونخب تمثل حياتها ونخب تمثل وجودها.
54-وبذلك فقد وصلنا إلى الأسئلة التي جوابها يحدد طبيعة أزمة الأمة وحربها الأهلية التي لم تنقطع منذ الفتنة الكبرى إلى الآن: هذا التمثيل.
55-فهل إرادة الأمة تمثلها بحق النخبة السياسية؟ وهل علم الأمة تمثله بحق النخبة العلمية؟ وهل قدرة الأمة تمثلها بحق النخبة الاقتصادية؟
56-وهل حياة الأمة تمثلها النخبة الفنية؟ وهل وجود الأمة -أي رؤاها الوجودية- تمثلها النخبة الدينية والفلسفية؟ من يجيب بنعم يواصل التغرير. لا واحدة من هذه النخب تمثل ما ينبغي أن تمثله على فرض أنها موجودة أصلا.
57-ولا أقول ذلك تشكيكا في الذمم ولا في الهمم بل لأن حال الأمة يبين العكس تماما حتى لدى الشيعة رغم عنتريات حرس الثورة الأفسد من جيش مصر.
58-كيف؟ الجواب: هل العراقي والمصري والتونسي والإيراني يتكلم باسم الأمة بحق أم هو يمثل جمعا تابعا بين ما تقدم على تاريخها وما يتصوره ناسخا له بعده: نخب تابعة ويائسة من الأمة ومرجعيتها.
59-قد يوجد بينهم من يريد أن يمثل الأمة. لكن التيار الغالب هو تمثيل ما ذكرت: القوميون كلهم عربا وعجما همهم ماتقدم على الإسلام تأصيلا وما تأخر عنه تحديثا مزعومين.
60-لذلك فأنا أفهم الشباب بجنسيه إذ يتمرد بإرهاب الحداثة بصنفيه: الرمزي والمادي وكلاهما أفيون. والأول يهدم الحضارة الذاتية زاعما التحديث والثاني كل حضارة زاعما التأصيل. ذلك ما نرى بالعين المجردة.
61-و”أفهم” لا تعني أني من مبرري الأفيونين أو من مؤيديهما بل معناه أنهما من أعراض مرض لا يمكن التصدي لهما من دون علاجه: غياب شروط الحياة السوية كالتالي.
62-فالحياة غير السوية تتعين في اللجوء إلى أحد الأفيونين: أفيون الدنيا الملغية للأخرى وأفيون الأخرى الملغية للدنيا. وهما مصدر الإرهابين.
63-فالإرهاب الرمزي يلغي الآخرة فيكون تهديما لكل ما يذكِّره بها. والإرهاب المادي يلغي الدنيا فيكون تهديما لكل ما يذكِّره بها. كلاهما مخدَّر بخيال مريض.
64-خيال الإرهابي الرمزي مريض فيظن الإنسان يمكن أن تغنيه الدنيا عن الأخرى. خيال الإرهابي المادي مريض فيظن العكس الآخرة تغني عن الدنيا: كلاهما مبتور الوجدان.
65-ما ينقص الفكر الذي نقده ابن تيمية وما ينقص نقده هو تصوره أن الإلغاء وسد الذرائع علاج وهو في الحقيقة عاهة فقهية: الحياة السوية تقتضي وجود تمثيل سوي لإرادة الأمة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها أي نخب مبدعة في هذه المجالات كلها حتى تصبح بحق ذات قيام ذاتي مستقلٍ حمايةً وغيرَ تابعٍ رعايةً.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/