ه
ظرفية تونس الحالية توجب الكلام في معنى “المرشح التوافقي” لرئاسة الدولة وفي دلالة مفهوم التوافق معيارا لاختيار أحد المرشحين من القوى السياسية التي ستتوافق على تزكيته للترشح أولا ولضمان نجاحه بقدر من الشرعية يجعله يعبر عن هذا التوافق تعبيرا هو “مدى شرعيته” التي بمقتضاها سيؤدي واجبه من حيث هو رئيس يؤدي وظيفته في رعاية أمن البلاد وسيادتها.
وسأبدأ بالمعنى السلبي للتوافقية التي اعتبرت معيار الاختيار لأن القصد بها توافق بين حزبين هما النهضة وبقايا حزب النداء أو ما تفرع عنه بعد تفتته. فهي أولا تنفي أن تكون العلاقة مباشرة بين من سيكون رئيسا والشعب بل تجعل القوى السياسية النافذة وصية عليه تختار له ما عليه أن يختاره. وهذا يسمى في فقه السياسة حكم الأحزاب وليس حكم الشعب حتى وإن لم أشكك في أن الأحزاب منه. وهو تصور غير مقبول حتى في الشأن السياسي وحده ناهيك عن الرهانات التي تواجه البلاد وهي أعمق من السياسي العادي.
لذلك فالأخطر هو غياب معايير التوافق وخاصة موضوعه بل وعدم الكلام فيه باعتباره مسألة تهم الشعب ليفهم طبيعة التحديات التي ينبغي علاجها. فإذا أخذناه كما يتجلى في تونس في حديه الأقصيين هذين فهو ذو دلالة متقابلة تمام التقابل ولا يتعلق بالسياسة في بلد متحد الهوية بل هو يتعلق بمعركة هوية فيجعل التوافق حول ما يضمن عدم تحول الصدام الحضاري في الجماعة إلى حرب أهلية.
فهل يوجد هذا الشخص الذي يضمن ذلك؟
هل السبسي مثلا كان ضامنا له ضمانا يحقق فعلا تجاوز صدام الحضارات الذي بدأ منذ انشقاق بورقيبة على الثعالبي انشقاقا لعله كان في البداية متعلقا بالمنهج السياسي في التعامل مع الحامي -تونس محمية كانت وهي لا تزال-لكنه صار في الأخير صداما حضاريا داخليا بسبب ما سنرى من مليشة أجهزة الدولة حتى لو بقي الجيش الوطني بمعزل عنها لعلل ليس هذا محل البحث فيها رغم أني بدأت أخشى من أن يصبح من أجندات هذه الحلول المرتجلة؟
والصدام الحضاري الداخلي الذي علامته النزعة الاستئصالية باستعمال قوة الدولة ضد ثقافة المجتمع أي مواصلة الاستعمار بأيد من أبناء الشعب وهم في الغالب أدعياء التحديث العلماني سواء كان ليبراليا او ماركسيا باستعمال أدوات شوكة الدولة أي الاستعلامات والأمن والجيش والإدارة ضد ثقافة الشعب.
وكان الغالب في تاريخ المسلمين الحديث قد بدأ بتبني فكرتين: الدولة “القومية” و”العلمانية”. ولعل النموذج التطبيقي قد بدأ مع أتاتورك رغم أن الفكرتين سابقتان على نزعته التي بدأت الحرب على ثقافة الشعب وتكليف الجيش بحماية ما يسميه دولة وهو أداة فرض رؤيته على ثقافة الشعر ورغم أن البداية الفعلية على ثقافة الشعوب بدأت في روسيا مع ثورة 2017 وفرض ماركسية ستالينية.
ومنذئذ لم تعد الدولة دولة بل أصبحت أداة بيد إحدى القوى السياسية تستعملها لهندسة المجتمع انطلاقا من ايديولوجيا-الفاشيات اليمينية أو اليسارية-بمعنى أن الدولة لم تعد على صورة المجتمع كما ينبغي أن تكون بل المجتمع هو الذي صار على صورة من بيده أدوات الشوكة كما لا ينبغي أن يكون. فأصبح الجيش والأمن مليشيات حزبية وليست أدوات دولة الشعب.
صحيح أن تونس لم تصل إلى هذا المستوى في عهد بورقيبة أولا لأنه حيد الجيش وثانيا لأن الداخلية تمت مضاعفتها بما يشبه نظام مخابرات حزبي “للكنترول العام” وللمرحوم محمد الصياح في ذلك دور أساسي -وهو من مدرسة يسارية- “تبرقب” مثل كل المنتسبين إلى الوطد منذ عهد ابن علي فصار من أدوات النظام فمليشه بل وساعد في مليشة الإسلاميين للتصدي لليسار الذي كان منه. وقد واصل ابن علي هذه السياسة وعممها أكثر.
وبالمناسبة فتعريب الفلسفة كان بنفس القصد. ولم يكن المرحوم محمد مزالي هو من عربها ولا بقصد التعريف في رؤيته بل عربها ادريس قيقة لأن بورقيبة اقتنع أن خصومه من اليسار كانوا يستغلون دروس الفلسفة لمركسة الشباب فتوهموا أن المركسة لا تكون إلا بالفرنسية مثل العلمنة التي كان يسعى إليها بورقيبة فعربوها متوهمين أن العربية ستؤدي دور الحد من المد اليساري مثل ميلشة الجامعة بالإسلاميين واليساريين. وإلى اليوم ما زالت تونس تعاني من هذه المليشة المضاعفة التي قضت على الجامعة والسياسة في آن بحرب المراهقين الذين “تمومأوا” في مراهقتهم إلى الآن ومنهم عملاء ابن علي وصبابته من الوطد.
لذلك فأي رئيس توافقي بهذا المعنى قد يكون جنيسا لوعود ابن علي بالأقوال ولنتائجه في الأفعال. فيعد بالإنقاذ والديموقراطية لكنه سيواصل نفس سياسة النظام القديم ويضفي عليها أكثر نسقية تماما كما فعل ابن علي وحاول السبسي في مدتي حكمه قبل انتخابات 11 وبعد 14 مواصلة نفس السياسة حتى وإن صار الكثير إما لعدم الفهم أو للنفاق يزعم أنه أصبح ديموقراطيا رغم أنه يقول دائما إنه لا يحكم إلى وحده.
فما حصل في مدتيه كان هدنة لتوازن القوى وليس تجاوزا لصدام الحضارات. وما حدث خلال عقد الثورة كان رفضا قاطعا من قادة صدام الحضارات لتجاوزها بحيث إن “الحرب” ظلت جارية وكانت ضحيتها البلاد التي هدم اقتصادها واستقرارها وعمت الفوضى في إدارتها وخدماتها إذ توقفت البلديات والإنتاج وكانت الأداة نفس أدوات النظام السابق -أي المليشيات اليسارية والقومية والاتحاد والمليشيات الحزبية-وأرادت الاستحواذ التام على ما بقي من الدولة.
والسبسي استعمل هذه الأدوات لكنه كان يخشاها لعلمه بتغلغلها في كل وظائف الدولة التي تميلشت. فكان ما يسمى توافقا مع النهضة ليس توافقا معها بل هروبا مما كان يخشاه ممن استعملهم وكان يعلم- لكونه يعرفهم جيد المعرفة -أنهم يريدون استعماله لتحقيق ما يمكن القول إنهم لم يتخلوا عنه أبدا: صدام الحضارات بمليشيات تريد أن تصبح هي النظام.
ولا بد من الاعتراف بأنهم لم يخفوا ذلك: فيكفي ما شهد به صاحب نسمة بخصوص الاستعداد للتضحية بـ20 الف تونسي من أجل استئصال الإسلام السياسي في تونس. وكانت من نتائج هذه السياسة ضحيتان ليس لأنهما ضد الاستئصال بل لحاجة الاستئصاليين لتقديم ضحايا لتجميع الصفوف. فمن يمكن ان يكون هؤلاء الاستئصاليون؟
والجواب كان يكون سهلا لو لم تختلط الأمور بين:
- طالبيه للمحافظة على مصالح المستعمر الذي كنا نتوهم أنه ذهب مع الجلاء.
- وطالبيه ممن يحاربون ما اعتبرناه ثورة الشعب من اجل الحرية والكرامة. والجامع بين الأمرين هو طبيعة المطالب المشتركة بينهما: إنها تجتمع في الحرب على ثقافة الشعب بتنكر.
والتنكر مضاعف كذلك:
• فالاستعماري لم يعد يخفي أن حربه هي على الإسلام ليس في بلده فحسب بل في مستعمراته التي تسعى باسم هويتها الإسلامية للتحرر من مواصلته استعبادها واستغلال ثرواتها وشعوبها
• وأعداء الثورة من عربان الخليج يخفون ذلك بدعوى البحث عن الإسلام الوسطي والتحديث السريع ضد “الظلامية” لكأن الحمقى من أمرائهم فلاسفة التنوير.
لذلك فالمتكلمون على التوافق هل يقصدون أنهم سيجدون مترشحا قادرا على تحقيق التوافق الدولي حول إخراج تونس من صدام الحضارات هذا ومنع من يتوهمون القدرة على الحسم بالسلاح كما يحدث في ليبيا ومصر وسوريا من استعماله وقد عبروا عن استعدادهم للتضحية ب20 ألف ممن دمهم ليس أحمرا؟
من يسمعني يظن أني ضد التوافق عامة. لكني أقوله لأني أريده توافقا داريا صاحبه بموضوعه الفعلي إذا نظر إليه من حيث هو توافق يحسم صراع الحضارات في البلاد بين التحديثي والتأصيلي ثم يمر إلى ما يتعلق به الفعل السياسي في دولة تكون في خدمة شعبها وليس في خدمة المستقوين باعدائه.
وحينئذ إذا وجد من يستطيع ذلك فلا يكون رئيسا لدولة الأحزاب بل لدولة الشعب. وحينها يمكن أن نتكلم على الكسور الخمسة التي يجب السعي لجبرها حتى يستعيد الشعب عافيته فيصبح قادرا على التداول السياسي السوي: - الكسر الأول هو كسر الجهوية التي نتجت عن استعمال موارد الدولة لخدمة جهة على حساب البقية وهو كسر عميق. فمن يتجول في مدن الساحل يجد الفترينة ومن يتجول في بقية البلاد يجد حقيقة تونس التي لا تقبل المقارنة مع أي بلد استقل في نفس الوقت معها دون أن يكون له أكثر منها موارد. وهذا أمر عاينته بنفسي لما درست في ماليزيا التي استقلت في نفس التاريخ مع تونس وانطلقت من مستوى سابق لا يقبل المقارنة معها لأنها كانت بلدا شبه بدائي في حين أن تونس كانت مهد حضارات.
- والكسر الثاني هو كسر الطبقية التي تستمد تغذيتها من استغلال الدولة وليست من جهد أصحابها. فبرجوازية تونس وكل البلاد العربية ليست ثمرة عمل بل هي ثمرة نهب عن طريق السياسة والجاه. ذلك أن ثروة البلاد تتقاسمها مافيات الاستعمار مع مافيات تونسية معلومة. وهي نوعان:
• واحدة تعمل مع الاستعمار مباشرة
• والثانية تنافسها بالتهريب والاقتصاد الموازي. ثم اجتمعت واتحدتا للسيطرة على كل موارد الدولة المباشرة والموازية وعلى إدارتها العلنية والخفية. - والكسر الثالث هو كسر “ميلشة” الدولة النسقية من الجامعة إلى أدنى وظيفة في المجتمع التونسي. و”الميلشة” هي تحويل الدولة إلى إقطاعيات لكل منها مليشيا تدعي النخبوية المافياوية فتتنافس الاقطاعيات بمليشياتها في سحب الغطاء كل لصالح جماعته وعروا بقية الشعب ثم تقاسموا “بالتوافق” كل خيرات البلاد وللاتحاد في ذلك الدور الرئيس في كل وظائف الدولة والمجتمع كما في التعليم الإدارة.
وما يصح على إدارة وظائف الدولة التي صارت اقطاعيات يصح على كل الخدمات والقطاعات الاقتصادية التي صارت هي بدورها اقطاعيات لا يعمل فيها إلا ورثة الإقطاعيين وبقية الشعب ينتهي أبناؤها إلى البطالة حتى لو كانوا عباقرة عصرهم إذ إن التوظيف صار وراثيا خاص بأبناء الاقطاعيين الحكم والاتحاد. وبذلك نصل إلى القطب الثاني بعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي قطب الثقافي والكسر الرابع يتعلق به. - الكسر الرابع هو كسر الهوية الزائف لأن الحرب الجارية كلها ليس لها أصل في ثقافة الشعب بل ينبغي فهمها على أنها “حماية” للثقافة الفرنسية التي تريد توطيد وجودها في تونس بعد أن ثبت فشل الفرنسة التي فرضت على بورقيبة في اتفاقية الاستقلال وصمود العربية لأن مصيرها أعم من تونس.
وهذا المشكل مطروح اليوم بنفس الحدة في الجزائر وفي المغرب. وهو الرهان الفرنسي ليس حبا في الثقافة ولا في اللغة بل لأن التحرر من هيمنة الثقافة الفرنسية هو نهاية النهب النسقي لثروات هذه الأقطار نهبها الذي ما كان ليحصل لو لم يكن عملاء ثقافة فرنسا هم الذين يمثلون أدواته ودماه فيها.
وبذلك يتبين أن صدام الحضارات الداخلي ليس داخليا إلا في الظاهر. إنما هو في الحقيقة صدام بين ثقافة الشعب وعملاء الاستعمار الفرنسي حتى وإن ظن بعضهم أنهم فعلا يمثلون التقدمية والحداثة والتنوير وهم أجهل خلق الله. ولم أعد بحاجة لإثبات ذلك: يكفي أن ترى من يعانقهم ماكرون والسفير الفرنسي في تونس.
وقد ذهبت الوقاحة بماكرون في حضوره في مراسم تأبين الرئيس أن يتدخل مباشرة في الشأن الداخلي وأن يجلب معه رمز العمالة ليس في أدنى شيء بل في أقدس المقدسات أعني استعمال الدين الإسلامي للتطبيع الحقير من أحقر من عرفت البشرية هذا الكلب الذي هو من المدينة التي اقطن فيها منزل بورقيبة. - الكسر الخامس والأصلي الذي تتفرع عنه الكسور الأربعة وهو الذي يمكن الكلام بمناسبته على رئيس توافقي إن توفر فيه شرط الإعلان في برنامجه عن التصدي الصريح له: فهل يوجد مترشح له الوزن الكافي للتصدي إلى هذه الكسور وأصلها جميعا أعني التبعية للاستعمار الفرنسي وبرمجة مراجل استكمال شروط الاستقلال؟
هل يوجد مرشح له وزن سياسي أي له وراءه قوة سياسية ممثلة للشعب كله وليس لصراع بين قوتين على كراسي الحكم قوة مستعدة للتوافق على ما بدأت الجزائر تتوافق عليه أعني استكمال معركة التحرير التي تبين أنها هي التي تحول دون نجاح معركة التحرر؟
إني انتظر اعلان المرشحين عن استراتيجية هذا التحرير الشارط للتحرر ومدى تمثيلية القوة السياسة التي تسندهم للشعب وليس لمليشيات حزب معين.