لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
لاصلاح علوم الملة
– الفصل الرابع –
والخطوة الأخيرة في مدرسة النقد الفلسفية -خصصت لها ضميمة المثالية الألمانية- هي مرحلة ابن خلدون مؤسس علوم الإنسان تأسيس أرسطو لعلوم الطبيعة.
والمشكلة مع ابن خلدون أعسر بكثير من المشكلة حتى مع ابن تيمية: فالحداثيون المزيفون استبعدوا هذا بحجة ظلاميته وأفسدوا الثاني بحجة تنويره.
وتنوير ابن خلدون هو ما تصوروه كونتيا أو ماركسيا فيه وطلب للدور في علاج عقدهم بالبحث عن مثيل لما يعبدون ما أعماهم عن رؤية إبداعه الحقيقي.
وأكبر الأدلة على أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون هو أن من استنوروه لم يكن أفضل حظا ممن استظلموه: فلم يروا الابداع لأنهم يعبدون الاتباع.
ابداع ابن خلدون أعمق من مجرد تأسيس علم الاجتماع القابل للتشكيك.
إبداعه الفلسفي أسس لعلوم الإنسان كلها بدأ بفلسفة العلم العقلي وختما بالنقلي.
ولذلك فهو أرسطو علوم الإنسان.
وما كان ليكون أرسطوها لو لم يتجاوز ابستمولوجية أرسطو: نظرية المطابقة وحصر العلمي في الكلي يخرج التاريخي من العلمي.
وإخراج التاريخي من العلمي علته حصر العلمي في الكلي اللاتاريخي وهو مبدأ صريح في أبستمولوجية أرسطو وكل الموروث الفلسفي لغاية الفكر الوسيط.
لم يستنوروا ابن خلدون بسبب إبداعه بل بسبب ما ظنوا أنهم قد وجدوه فيه من أوغست كونت وماركس.
ولم يستظلموا ابن تيمية لأنه ليس فيه ما يعبدون.
في الحالتين هم لا يطلبون المعرفة ولا الحقيقة بل علاج أمراضهم النفسية: البحث في تراثنا عما في تراث أسيادهم وتأييد أسيادهم بالحط مما لا يرضيهم.
وليس عندي حجة أخرى في وصفهم بكاريكاتور الحداثة غير هذا الموقف الذي هو واحد: التسليم بـ”سردية” تدل على عقد نفسية إزاء من جعلوه معيار تقييم.
وهم بذلك لا يختلفون عمن سميتهم كاريكاتور التأصيل.
كلاهما سلفي بالمعنى السلبي.
هذا يوثن الماضي ماضينا وذاك ماضي الغرب.
فلا يبقى للإبداع محل.
فاعتبار التاريخ علما فلسفيا حقق ثورتين: دحض نظرية أرسطو في نفي العلمية عن التاريخ وتجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة بجعل المعلوم تاريخيا.
المعلوم الفلسفي في الفكر الفلسفي القديم والوسيط لا تاريخي لأنه الكلي ولأنه الانعكاس التام للواقع على الفكر أو المطابقة بين العلم والمعلوم.
لكن الأعمق من ذلك كله هو أن التاريخ لم يعد علما بموضوع بل نقدا لإدراكنا لموضوع.
فهو نقد الأخبار على موضوع جديد لم يكن موجودا في الفلسفة.
وهذا الموضوع الجديد يناظر موضوع الفلسفة ويشمله بل صار هو الاصل البديل منه: العمران البشري والاجتماع الإنساني. التاريخ نقد الأخبار المتعلقة به.
فالفلسفة القديمة والوسيطة علمها الرئيس الميتافيزيقا والفلسفة التي بدأت مع ابن خلدون علمها الرئيس علم العمران البشري والاجتماع الإنساني
ولذلك اضطررت لوضع مفهوم جديد في رئاسة العلوم يتجاوز المفهوم اليوناني: إنه ما بعد الأخلاق بديلا مما بعد الطبيعة.
الاساس الحضارة وليس الطبيعة.
وهذا المنظور ليس فلسفيا بل هو ما تبنته الفلسفة من النظرة الدينية: تاريخ الإنسانية الروحي والخلقي والسياسي والحضاري هو المنطلق لكل ما عداه.
مقدمة ابن خلدون تقبل الرد إلى هذه الثورة وهذا كاف: كيف قلبت تأسيس الفكر الإنسان فجعلت ما بعد الخلقي والتاريخي بديلا مما بعد الطبيعي واللاتاريخي.
وأي قارئ مهما كان غافلا عن تاريخ الفكر الإنساني يلاحظ أن المقدمة بأبوابها الستة تنتظم بتطور علاقة الثقافة بالطبيعة موضوعا للعلم الجديد.
فإذا قرأتها صاعدا من الباب الأول إلى الأخير رأيت تناقص دور الطبيعة وتزايد دور الثقافة وإذا قرأتها نازلا من الاخير إلى الأول رأيت العكس.
والباب الأول يحدد طبيعة العلاقة بينهما. الثالث من الخمسة الباقية أي باب المدينة نهاية البداوة وذروة الحضارة أوضح لقاء بين الطبيعة والثقافة.
فالمدينة هي كل التاريخ الإنساني من أدنى مراحله إلى أعلاها وهي التي تحيط بالطبيعي والثقافي لأنها عين تثقيف الطبيعة وتطبيع الثقافة في حضارة.
فقبل المدينة العمران البدوي والدولة وبعدها الاقتصاد والعلم بشروطهما التي لا تكون إلا بفضل الدولة والمدينة الناقلتين من البداوة إلى الحضارة.
وإذا عكسنا وجدنا أن العلوم (الباب 6) والاقتصاد (الباب 5) هما أداتا العمران الحضري الفاعل في الطبيعة المتعينة في العمران البدوي لتثقيفه.
و”تثقيفه” ينبغي فهمها بمعناها العربي الأصيل أي إزالة ما فيه مما يتنافى مع سلاسة الحضارة وتهذيبها حتى يصبح لها السلطان على الطبيعة بدل العكس.
وبهذا المعنى يمكن القول إن الفلسفة القديمة والوسيطة قبل ثورة ابن خلدون كانت خاضعة لرؤية لم تصل إلى سلطان الإنسان على الطبيعة: تلك ثورته.
بقي علي أن أثبت دعويين قدمتهما دون دليل من المقدمة. لكن المتفحص للإشارات الخلدونية السريعة والعميقة لا يمكن أن يغفل أصل الدعويين ودليلهما.
فأما الدعوى الأولى فهي اعتباري ابن خلدون قد حقق الشرط الذي يجعل الفقه يتجاوز مأزقه بتجاوز آخر حلوله رغم مقارنة عمله به: مقاصد الشريعة.
وأما الدعوى الثانية فتتعلق بما اعتبرته تجاوزا للميتافيزيقا وتعويضها بما أطلقت عليه اسم ما بعد الأخلاق أو ما بعد التاريخ بوصفه عمل الإنسان.
وسأبدأ بهذه لأنها الايسر إثباتا: ففي مقدمة المقدمة تكلم ابن خلدون عن علمه الجديد وعن محاولة تأسيسه وتأصيله معتبرا ذلك خروجا على مبدأ أرسطي.
والمبدأ الارسطي هو أن كل العلوم الجزئية لا تؤسس نفسها بل تتسلم أسسها وتترك مهمة التأسيس لعلم أعلى منها يحيل في النهاية إلى الميتافيزيقا.
وهو في الحقيقة بوعي أو بغير وعي أدرك امرين: هذا العلم لا تؤسسه الميتافيزيقا وهو في الحقيقة بديل منها يؤسس كل العلوم بما فيها الميتافيزيقا.
وإذن فابن خلدون لم يعتدي على قاعدة من الأبستمولوجيا الأرسطية بل هو تجاوزها لأنها لا تؤسس هذا العلم الجديد كعلم رئيس بديل من الميتافيزيقا.
ومن يربط الاعتذار الخلدوني عن تأسيس علمه باعتباره يعتدي على مبدأ أرسطي في بداية الكتاب مع دحض “الفلسفة” في غايته يفهم أن الاعتذار خطابي.
أمر الآن إلى المسألة الثانية: هل المقدمة تؤسس لعلم الشرائع الذي من دونه كان الفقه متبورا؟
هل هي علم للموضوع الذي يعد مجال الشرائع عامة؟
ما القصد بالشرائع؟ هي ما يضيفه الإنسان سواء بإبداعه أو بما ينسبه إلى الله من تشريعات إلى الطبيعة منطلق العمران البشري والاجتماع الإنساني
الفقه المقتصر على استخراج الأحكام عقيم. فحتى بمعناه التقليدي لا بد له من تحقيق مناطها وهو مشروط بكل العلوم الإنسانية اي مضمون المقدمة كله.
إشارة صريحة لوجه شبه بين علم المقاصد (لمعاصره الشاطبي) وعلم العمران البشري والاجتماع الإنساني. لكنه يعطيها معنى أعم من مقاصد الشريعة.
وهذا المعنى الأعم هو مقاصد العمران البشري سواء كانت نابعة من شريعة سماوية أومن عمل الإنسان فكل أعمال الإنسان تشريعات للطبائع نظريا وعمليا.
ويبقى مع ذلك السؤال الجوهري: إذا كان ما قام به الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بالحال التي وصفت فلم انحطت الحضارة الإسلامية وجف ضرع الإبداع؟
فمن اليسير أن يرد على ما قدمته بأن الثورات بثمراتها وما ذكرته لم يثمر ما ينبغي أن يحصل لو كان صحيحا.
وهو اعتراض وجيه ولم يفت ابن خلدون.
فقد أشار إلى أن الخراب الذي عم الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط يقابله نشاط حثيث في العلوم في الضفة الشمالية.
ولهذا تكلم على انقلابة كونية.
بل هو اعتبر كتابه المقدمة -وله حسب رأيه ما يجانسه قبله من قصد التأليف- رصدا لتحول كيفي في التاريخ المديد يكون اساسا لفهم التاريخ القصير.
كان ابن خلدون هو نفسه مدركا لما حل بالحضارة الإسلامية من وهن فعلي وهذا الإدراك دليل وعي بعلله وبشروط تجاوزه وهو ما أتكلم عليه في المحاولة.
والاعتراض على وجاهته بحاجة للتنسيب لأن كل الحضارات قبلنا حصلت لها ظاهرة الومضة الاخيرة التي تمثل غاية إبداعها الذي بقي نظريا ولم يثمر عمليا.
لكن عدم الإثمار في الحضارة الإسلامية قابل للتفسير بعوامل داخلية وخارجية كلها كانت عوامل تخريب حضاري انضاف إليها في عهد ابن خلدون الطاعون.
فالهمجية أحاطت بالحضارة الإسلامية خارجيا من الشرق (المغول) ومن الغرب(الصليبيات) وتلتها حروب الاسترداد مع الحرب الأهلية بين العصبيات الحاكمة.
فخربت مؤسسات العلم وأفني العلماء وهدمت المعالم تقريبا من جنس ما يحدث حاليا في عواصم الوطن العربي الواحدة بعد الأخرى: فتصوملت دار الإسلام.
ولولا علاقة ما جرى بما يجري لما خصصت كل هذا الوقت لاطلاع الشباب على أن المستقبل شروط جعله مجيدا متوفرة: فمن جدوده هؤلاء يمكن أن يتجاوزهم.
الكتيب