لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
لاصلاح علوم الملة
– الفصل الثاني –
أحد الأغبياء ممن يتطفلون على الفلسفة ادعى لأني قولي بأن جل علوم الملة لم تعد صالحة قد أتيت بدعا متصورا نفسه أعلم بها من فلاسفة النقد الثلاثة.
وطبيعي فمن يتوهم حلاق أدرى بفلسفة السياسة الإسلامية منهم لا يمكنه أن يفهم دلالة هذا القول ولا أي قول لأن الفلسفة ليست لعبة أطفال وأي دجال.
ولنبدأ فنبين كيف أن الغزالي في احياء علوم الدين-وقد سميته فضائح الظاهرية قياسا على كتابه فضائح الباطنية- أثبت أنها فقدت الصلة بالدين والدنيا.
فأي علم بالمنظور القرآني إذا لم يكن عين الصلة بما بينهما من صلة لا يعد علما بأي منهما: فلا هو أداة لتعمير الدنيا ولا هو مرقاة للتعالي عليها.
وحتى يفهم القارئ هذه العلاقة فليشبهها بالثروة: هي ضرورية للوجود الدنيوي والأخروي. ففاقدها يصبح عبدا لها وواجدها إن ملكها حقا تعالى عليها.
فالإنسان لا يدرك الفقر الوجودي أي ما في الإنسان من فناء واشرئباب للبقاء إلّا إذا تجاوز الفقر المادي. من يغرق في الفقر المادي عبد للحاجات الدنيا.
وبهذا اميز بين الزهد الحق والتصوف الذي هو زهد زائف. فمن يعاني من الفقر المادي ليس له ما يزهد فيه. يزهد من يتعالى على ما يملك فلا يُملك.
المتصوف في زهده الكاذب من جنس العنين في عفته الكاذبة.
لذلك فهو ليس عبدا للدنيا فحسب بل هو عبد لمن يستبعده بالدنيا يبرر استبداده وفساده.
ولذلك كانوا يستعبدون العامة بالكرامات الكاذبة -مثل خفة الأصابع- فيجعلوهم عبيد الأوثان وأكبرها من يسمونهم ولاة الامر معتبرين أفعالهم قضاء وقدر.
لذلك كانت حركة النهضة في القرنين الماضيين في حرب مع الاستعمار ومع هذه الوثنية التي جعلت الشعوب مستسلمة لما يعد وكأنه قضاء الله وقدره.
والآن تفهمون لماذا يراد استعادة سلطان هؤلاء الدجالين من جنس دجال اليمن -الجفري- الذي يقود جوقة الشيشان وكل المخرفين في خدمة الصفوية والصهيونية.
وقد سمعت آخرة أكاذيبه حول إخراج الرسول الخاتم يده ليرد على تحية أحد الدجالين من أمثاله. ومن جنسهم دجل الدعاة البكائين وقصصهم المدعومة بكثرة القسم.
أعود إلى الغزالي و”فضائح الظاهرية”.
لا يعنيني ما في الكتاب من مضمونات موجبة يعدها الغزالي بديلا مما ينقد.
ما يعنيني هو ما ينقد ولماذا ينقده.
ينقد ما تكلمت عليه في الفصل الأول أي الفقهاء والمتكلمين.
وهو يركز على أخلاقهم ودوافعهم وخاصة ما يترتب عليهما من ضرر بالأمة وفصل بين الدارين.
فأما الدوافع فهي دنيوية خالصة: خدمة الحكام (الفقهاء) أو خدمة العجب بالنفس والطابع الخصامي (المتكلمون) ومن ثم فليست الحقيقة والعلم قصدهما.
والغريب أن ابن خلدون في سيرته الذاتية يقرب من هذا الرأي وخاصة في الفقهاء.
الاستثناء موجود فهما فقيهان والفضل موجود في غيرهما.
ولست اتكلم على الفقهاء والمتصوفين من فراغ.
فبيئتي مليئة بهم.
وكان والدي رحمه الله وهو مقدم في القادرية يحدثني كثيرا عن أكاذيب القبوريين من أهل الطرق.
ولست أجهل أن كبار المقاومين كانوا من قيادات صادقة منتسبة إلى الصوفية السنية مثل الأمير بعد القادر وأبطال ليبيا (المختار والسنوسي) والسودان ومن قاوموا الاستعمار.
وما يعنيني هو تحريف الاجتهاد والجهاد تحريفهما الراجع إلى تحريف علوم الملة وخاصة الفقه والكلام حول علاقة القانون بالأخلاق والإيمان بالعلم.
فعلاقة القانون بالأخلاق هي الوصلة بين الدارين في الشرائع
وعلاقة العلم بالإيمان هي الوصل بين الدارين في العقائد:
فلسفة التاريخ وفلسفة الدين.
فهل يعقل أن يكون الفقيه فقيها إذا فصل بين القانون والأخلاق؟
كيف يكون القانون بيد من لا أخلاق له أي المستبد الفاسد ويبقى ذا صلة بالأخلاق؟
وهل يعقل أن يكون المتكلم في العقائد مؤمنا بها حقا إذا فصل العلم عن الإيمان؟
الكلام بحكم آل عمران 7 مرض قلب وابتغاء فتنة وليس علما متصل بإيمان.
لذلك فكل الفتن علتها علم الكلام.
فهو مصدر النحل التي بالتدريج تتحول إلى صيغ عقدية متنافية هي أصل الطائفية في كل الاديان والحروب الأهلية.
وقد كان الغزالي حكما عدلا: وصف الفقهاء بما فيهم خدمة الحكام والدافع طبعا طمع في الدنيا. كشعراء الكدية.
هؤلاء يضحون بالفن وأولئك بالأخلاق.
ووصف المتكلمين بما فيهم من طبع منحرف: حب الخصومات والزعامات والخطابيات دون طلب للحقيقة. فالتبكيت والبروز في المجالس يشبع انتفاخ شخصيتهم.
لكأنه طبق عليهم ما تقوله سابعة آل عمران: مرض القلوب وابتغاء الفتنة.
فظنهم أن كلامهم أبلغ وأوضح وأتم مما جاء في القرآن وتفسير النبي له جعلهم كاذبين في الجمع بين العلم والإيمان. ودعواهم الدفاع عن الاسلام كذب.
هل معنى ذلك أني أحرم الفقه والكلام؟
أولا أنا لست فقيها فأقدم أحكام الفعل الشرعية حرامها وحلالها بدرجتي التحريم والتحليل. موضوعي العلمية.
وأقصد ما الذي يجعل الفقه والكلام علميين فلا يبقيان مزيفين؟
لا علم فيما يتجاوز الشاهد ولا علم فيما يغفل الشاهد من موضوعه.
وفيهما العيبان.
الفقه يتصوره قابلا للفصل عن الشرعية السياسية فلا يصله به.
والكلام يتكلم في الغيب ويهمل الشاهد رغم أنه يجعله مصدر أساس قيسه للأول عليه.
ومن ثم فلا يمكن تصور فقه من دون فلسفة سياسية وفلسفة شرائع قانونية وخلقية بها ينتظم العمران حتى يحقق شروط كرامة الإنسان وسعادته في الدارين.
ولا يمكن تصور علم كلام في العقائد من دون نظرية في الوجود والطبائع تحرر الإنسان من عبادة غير الله فيعمر الأرض بعلم الطبائع ويستأهل الاستخلاف.
ترك الكلام الشاهد جانبا واهتم بالغيب وكل التخريف متجاوزا سابعة آل عمران ومتوهما أن الرسوخ في العلم يجعله مثل الله قادرا على تأويل الغيب.
فكان بذلك مصدر كل الفتن التي حولت الدين من رحمة إلى نقمة لأنه صار زيت الحروب الأهلية بين الفرق والطوائف بزعامة مرضى القلوب ومبتغي الفتنة.
وبهذا الكلام يكون الغزالي قد أعد أرضية البديل الذي هو محاولة البحث في علاقة الدارين من خلال علاقة فلسفتين هما فلسفة الدين وفلسفة التاريخ.
والأولى هي مجال إبداع ابن تيمية والثانية هي مجال إبداع ابن خلدون.
فيكون ثالوثنا من مدرسة النقد الفلسفية قد حاول علاج تحريف علوم الملة.
والسؤال هو لماذا لم يثمر علاجهم فلم تخرج الأمة من المآزق التي أدت إلى الانحطاط في المهمتين اللتين تحددان حقيقة الإنسان في الرؤية القرآنية؟
فالأمة فقدت القدرة على تحقيق شروط تعمير الارض المادية والمعرفية
والأمة فقدت شروط الاستخلاف لأنها بالانحطاط نكصت إلى قيم الجاهلية دون شك.
أعتقد أن دوري لا يتجاوز أمرين:
بيان ما حققه فلاسفة النقد الثلاثة وهو ليس بالقليل
ثم تدارك المفقود في سعيهما وما فيه من علل الفشل الثابت.
وذلك ما أحاوله منذ بدأت تفسير القرآن الكريم.
صحيح أني قدمت على ذلك محاولة لفهم الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لكنه كان عملا أكاديميا خالصا.
لم يكن هدفي منه الانتقال إلى ثمراته العملية.
لكن الأحداث وضرورة وصلها بما يفسر مجراها ويدل على مرساها فرض أن أضيف الكلام فيها للوصل بينهما.
فلا ثورة حقيقية من دون أعماق نظرية تضرب بعروقها في رؤية فلسفية مستمدة من أصول الحضارة الإسلامية وخاصة من رؤيتها لذاتها بصوغ كبار مفكريها.
الكتيب