مثل تونسي مقلوب، شاف قمحات الغير بزع شعيراته

ه

سمعت الفنان الشاب (اضغط هنا) الذي قضت عليه أحكام النخب الشبيهة والشبيحة وحمق قيادات الحزب الذي اتهم بالانتساب إليه ورأيته يبكي من “الغلب” والقهر.
والجامع بين الأمرين مثل تونسـي صار يفيد ضده: “رأى قمح الغير فبزع شعيراته”.
لم يعد المثل مطابقا للمقابلة “قمح شعير”، بل صار مطابقا للمقابلة صناعة حقيقية وصناعة مغشوشة: بضاعة السوق الموازية.
الأحمق من القيادات السياسية هو من “يبزع” قمحه لظنه أنه شعير طمعا في شعير السوق الموازية لظنه أنه قمح. فما يجري في رؤية هذه القيادات للفنون والعلوم لا يختلف عن رؤيتهم للسياسة: الخضوع للزائف منهما هو عين الخضوع لشروط المافيات السياسية في الساحة.
وقد جعل بعضهم يتفلسف لتبرير ذلك.

لم يعد ما يميز الأشياء بعضها عن البعض قيما ذاتية لها بها تعير، بل مدى حضورها الشللي في بلاتوهات الإعلام الذي لم يجمع إلا أعشار المثقفين الذين يتكلمون في كل شيء لمجرد الكلام المقصور على أمرين كلاهما لا يتجاوز كونه من جنس السلعة المستوردة من الصين أي النسخ الرديئة من الصناعة الأصلية.
والمبدأ في ذلك كله هو أن من يريد أن ينافس تجار السلع المضروبة لا بد أن يتوفر فيها شرطان:

  1. أن يتبنى أخلاق من ينافسهم حتى يعيش معهم
  2. أن تصبح أهدافه من جنس أهدافهم.
    فعلاقة الغايات بالأدوات تنعكس فتصبح الأدوات هي التي تحدد حقيقة الغايات.
    وعندئذ لا يبقى أدنى معنى للكلام باسم الإسلام.

“النصاب” بسلعة الصين المضروبة يمكنه أن “يبرح” بالماركات الممضاة. لكن ما يبيعه حقا هو نسخ مضروبة منها. ولا لوم عليه. اللوم على من يصدق أن البراح يعبر عن الحقيقة.
هذا الشاب المسكين صدق البراح. فاشترى سلعة مضروبة. ولن يكون الوحيد وهو ليس الأول ولن يكون الأخير: ذلك هو سلطان الشبائه.
والبشرى الكبرى هي أن كل البضائع المغشوشة صارت تباع عن طريق من يزيدها نَفاقا في سوق الصناعات الصينية. ويكفي مثالان لفهم القصد:
• فكم من وطي صار وزيرا بالتودد لشرط النَفاق بالنِفاق في وزارات أهم من وزارات السيادة (كالتربية والثقافة)؟
• وكم من صار الحجاب لهن لا يتجاوز الترشح للزواج؟

ومعنى ذلك أن الجاذبية صارت متبادلة: إذا كان الإسلامي يشتري شعير الغير ويبيع قمحه فاللاإسلامي صار يركب الدابة الإسلامية للوصول إلى غايته السياسية.
وهذا تقدم لأن فيه تعارف وتبادل المعروف يقرب الاتجاهين.
والتبادل واضح: اعترف بي ثقافيا واجازيك سياسيا. وكلانا ممثل لسلطان ظاهر فيهما.

وأختم بجملة واحدة لئلا يقال إني أتكلم على تجربتي الشخصية التي قد تقاس على هذه الحادثة.
ما دخلت قط حزبا إسلاميا رغم ميلي إلى الرؤية الإسلامية باعتبارها من شروط النهوض المستقل ولا استقلال ممكن من دون البدء بالمرجعيات الروحية.
دخولي القصير للسياسة كان بهدف المشاركة في تأسيس التواصل بين نخب البلاد السياسية التي أعلم أنها كانت، ولسوء الحظ ما تزال، متبادلة الاستثناء. ولما رأيت استحالة ذلك ابتعدت. ولله الحمد فلست محتاجا لا ماديا ولا معنويا لأحد. الله وحده هو الكافي.

والشاب الذي آلمني حاله ليس ضحية النهضة وحدها ولا ضحية من نسبوه إليها لعزله، بل هو ضحية دولة المافيات التي جعلت كل وظائفها اقطاعيات. وأبرز علامات الإقطاع في هذه الدولة التي ينخرها الفساد وزارة الثقافة رغم أنه لا توجد وزارة ليست جنيسة لها. لكن بروز الظاهرة فيها دليل قاطع على انحطاط الثقافة السياسية والنقابية والإعلامية في البلاد.

وأذكر أني أول مرة التقيت فيها ببعض قيادات النهضة في بريطانيا سنة 2000 جلست مع بعض الشباب من صاروا الآن قيادات فأشرت عليهم إلى أن التركيز على السياسي وإهمال الثقافي دليل قصور في العالم الحديث ونصحت بالعناية بالشباب الذي له ميول إبداعية أيا كان الفن وخاصة الآداب التي تحتاج إلى أكبر مشجع وهو نشر المحاولات الأولى للشباب.

لكن يبدو أن الجماعة في غني عن النصيحة. لذلك يفضلون الاستفادة من الأسماء المشهورة بمنطق الشللية اليسارية التي جعلت سقط المتاع مثقفين ويتغاضون عن المواهب المقهورة من جميع الاتجاهات الفكرية. فيصبح المرحوم أولاد احمد مطلوب ودهم وفي البلاد آلاف من المبدعين فعلا ليس هو من بيدهم يبقون مغمورين. ذلك أن توظيف الإسلام في السياسة ليس بسبب الكياسة ولا من أجل حقيق الرئاسة بل هو غاية التعاسة عندما تصبح السياسة “تياسة”.

لم يعد للمتكلمين باسم الإسلام السياسي ما يميزهم عمن يعارضونهم. الكل بات يفضل الاقتصاد الموازي في السياسي عامة سواء تعلق ببعده الأول أعني بعد ما يسد حاجات الروح أو العلوم والثقافة أو بعد الثاني أعني ما يسد حاجات البدن أو الرعاية والحماية. الكل صار في الهوى سواء.
ولعل خصوم الإسلاميين أكثر حذقا لهذا الفن.
فهم يجعلون من أقزامهم عمالقة. لكن الإسلاميين يعكسون.
إذا كان لهم مواهب قابلة بشيء من الإحاطة الذكية لأن تفي بوعودها قتلوه بالإهمال أو بما لديهم من أقزام ولا يتورعون عن الاستعانة بأقزام خصومهم عليهم. وهذا هو القصد بالمثل المقلوب “شاف قمح الغير بزع شعيراته”. هم توهموا شعير الغير قمحا وقمحهم شعيرا فبزعوا الثاني وباتوا يلهثون وراء الأول.
وهو ما يسمونه “تكتيك”. والأمر ليس مقصورا على تونس.
فنكبة مصر علتها نفس المنطق. ذلك أنه لا يمكن أن يوجد عاقل يمكن أن يعتبر السيسي عسكريا شريفا فضلا عن أن يعتبره أهلا لقيادة جيش. لكن “الدمغة” في جبهته جعلتهم يظنونه أهلا فنالوا ثمرة الغباء. وبمنطق أفلاطون يصح ذلك على التربية.
السيسي وصل لما وصل إليه بمنافقة قيادات الاخوان التكتاكة في مصر. وغيره وصل إلى وزارة التربية بمنافقة قيادات الإخوان الكتاكة في تونس. وقد يصل غيره قريبا لرئاستها إذا تواصل نفس التكتيك. وما كنت لأتكلم في ظاهرة هذا الشاب لو لم تكن علامة صادقة عن مرض عميق وخطير متفش يمكن وصفه باستعارة من سوق السلع المضروبة عند طالبي الإثراء السريع.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي