لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمتممات في مفهوم الدولة ومقوماتها
ها نحن قد وصلنا في الفصل الاخير إلى فشو السرطان في البدن-الميتاستاز-عندما يسيطر دين العجل على الوظائف العشر خمستها المتعلقة بالحماية وخمستها المتعلقة بالرعاية وفيها يجمع بعدا الأزمة فيتبين بأن المرجعية أساس الدولة والوظائف غاية الدولة يلغيان المناعة المادية والحصانة الروحية. فالوظائف العشر تشبه بما يتجلى فيها التجربة بالنسبة إلى النظريات العلمية: ومعنى ذلك أنها “الواقع” الحقيقي الذي يبين دور بعدي العجل مادته وخواره (رمز الفعل وفعل الرمز) في الأخلاق العامة (المرجعية كمزاعم عقدية) والممارسة الفعلية في مؤسسات الدولة التي لها علاقة مباشرة بالجماعة. وفي ذلك تتجلى نظرية ابن خلدون في “فساد معاني الإنسانية”. فالفساد المالي (الرشوة خاصة) والفساد الخلقي (النفاق خاصة) يصبحان الطابع الجوهري لكل وظائف الدولة. ويبدأ الفساد بالجهازين العصبيين جهاز الاستعلام والاعلام أصل وظائف الحماية وجهاز البحث والإعلام العلمي أصل وظائف الرعاية. سلطان العجل الذهبي بمعدنه وبخواره هو السرطان الذي يجعل الدول تفقد وظائف الحماية ووظائف الرعاية فلا يبقى لها مناعة مادية ولا حصانة روحية وتصبح كحال بلداننا قطعة جبن الكل فيها يبيع ويشري في كل شيء ولا يبقى شيئا محظورا على خلقيا ولا وطنيا ولا دينيا بل يزول معنى الكرامة والرجولة. ومن العلامات الدالة عليه أن الوظائف كلها-عشرتها-تصبح مجرد أسماء بدون مسميات: فلا قضاء ولا أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع ولا خاصة الجهاز العصبي لوظائف الحماية-الاستعلام والأعلام-داخلها وخارجها: كلها تصبح أسماء بلا مسمى لأن يصبح خاضعا لمن يدفع أكثر (معدن العجل) ولمن يبرر أكثر(خواره). وما أظن أحدا ينتظر مني أمثلة: فيكفي أن ينظر في تصنيف الدول العربية في قائمات الفساد والاستبداد ولينظر فيما يجري في جل البلاد. ذلك أنك لا يمكن أن تصدق أن بلدا صغيرا مثل تونس يحتاج لمائتي حزب وآلاف منظمات المجتمع المدني لو يكن ذلك قد أصبح تجارة ومداخل الاختراق العدواني. وفي مثل هذه المناخات يسعر أن يلوم أحد أحدا فالكل يغض الطرف عن الكل تماما كما يحصل عندما تسيطر الرذيلة في جماعة فلم أحد يلوم أحدا لأن الجميع يفعل نفس الشي فيتستر على غيره تستره على نفسه: فتعم الفاحشة ولا شيء أفحش من هذا الفشو المرضي للاستبداد والفساد في كل الوظائف. وأخطر ما في الأمر هو تزييف الشهادات العملية نظريها وعمليها حتى إنك لتعجب عندما ترى كم الدالات التي تسبق الأسماء ولما ترى كيف تفكر تدرك أنها ربما لم تحصل حتى على الابتدائية وأنها اشترت الدال بدون مدلول. ونفس الأمر في المراتب الوظيفية في إدارة اجهزة الدولة وخاصة السيادي منها. فمن منا لم يصبه الذهول عندما سمع قضاة القضاء الذي يقال عنه أنه شامخ في محاكمات مصر الاخيرة وفضائح قراءتهم لأوراقهم ناهيك عن جهلهم حتى ببعض آيات القرآن الكريم. ما سمعت في حياتي مستشرقا أكثر فهاهة من قضاة مصر الذين عرضتهم المحاكمات السيساوية. طبعا يوجد أفاضل لكنهم مبعدون. سآخذ الآن وظائف الدولة ذات العلاقة المباشرة مع حياة المواطن اليومية والمتعلقة بالحماية والرعاية الواحدة تلو الأخرى لأبين ما يتجلى فيها من فقدان للمناعة المادية والحصانة الروحية ومن ثم علاقة بين بعدي دين العجل في هذه الامراض التي تجعل المجتمعات خربا أقرب إلى أعجاز النخل الخاوية ولا أستبعد أن يعتبرني الكثير من القراء مبالغا في وصف الظاهرة التي لعلها لا تبرز للعيان إلا في الحالات التي صارت مضرب الأمثال: خذ العراق وخذ سوريا وخذ مصر وقس عليها وهي أكبر بلاد العرب وأكثرها تمثيلا لحضارتهم بوصفها من المراكز الكبرى. وستفهم علة ما يبدوا تعميما ومبالغة. ولا أظن أنه يوجد بلد عربي واحد -حتى من الغني منها في الخليج أو في المغرب العربي-يمكن أن يستثنى من هذا الوصف رغم أن الثراء يمكن أن يخفي هذه الأمراض لأنه لم يصل إلى الحد الذي يصبح أول الادواء التي يعاني منها المواطن لأن السرقة فيها قد لا تصل بالمواطن إلى مخ عظامه قرار آلامه. وحتى نفهم الظاهرة فينبغي أن نفهم معنى الحماية والرعاية كما ينبغي. فمن أهم معاني الحماية ما يتعلق بالغذاء والصحة. وكلاهما يسيطر عليه الغش والإهمال ولا يمكن الاعتماد على رقابة الدولة بسبب رشوة المراقبين وحتى مداخيل الدولة من الجباية فهي لا يصل منها للدولة إلا القليل لنفس السبب. ذلك أن الحماية ليست مقصورة على حماية العباد بعضهم من البعض داخليا وحماية البلاد من العدوان الخارجي وهما مستحيلان بسبب فساد القضاء والامن والاختراق الاجنبي بل حماية الصحة غذاء ودواء وماء وهواء وحماية العناية في التكوين والتموين للأذهان فضلا عنهما للأبدان: تخريب ذاتي نسقي. فتحتار وتكاد ترفع يديك قائلا لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد تقول بلسان تونسي فصيح “من أين تردها؟” فاض الكيل فلا المعلم معلم ولا الطبيب ولا الأمني أمني ولا العسكر عسكري واللاءات لا تكاد تتوقف. وليست بحاجة للأدلة: فالجيوش تهزم في أقل ربع ساعة وكانت لا تفلح إلا في قمع شعوبها. وإذا كان الاستعلام لا يستعلم إلى على ما يمكن من هتك ستر المواطن وقمعه وكان الإعلام لا يهدف إلا إلى تزييف الوعي والكذب على المواطن وكان ذلك لخدمة من يخدم حاميه في البلاد فكيف يمكن عندئذ أن تتكلم على الحماية؟ حماية من ممن؟ حماية المستبد والفاسد من الشعب حتى يخدم من نصبه عليه؟ ولأذكر الوظائف بالترتيب بدءا بوظائف الحماية الخمسة: القضاء والأمن للحماية الداخلية والدبلوماسية والدفاع للحماية الخارجية والجهاز العصبي لوظائف الحماية هذه أي ما يجعلها تؤدي دورها على علم بما تعالجه الدولة ويلتحم معه الشعب: الاستعلام والإعلام. ثم وظائف الرعاية الخمسة كذلك. فهذه تتألف من وظيفتين للتكوين هما نظام التربية النظامية ونظام التربية في المناخ الاجتماعي العام وهو أشمل من الأول وأكثر تأثيرا وخاصة في أخلاق الجماعة العامة. ثم من وظيفتين للتموين هما الإنتاج الرمزي الممون للتكوين الروحي والعلمي والإنتاج المادي الممون للتكوين البدني والصحي. ولهذه الوظائف كذلك جهاز عصبي هو البحث والاعلام العلمي الذي هو مادة التكوين ومصدر إنتاج التموين ومن ثم هو شرط وظائف الرعاية والحماية لأن الحماية بحاجة إلى التكوين والتموين. مثلما أن الجهاز العصبي للحماية يعمل بعكس واجبه فالجهاز العصبي للرعاية معطل تماما ولا يعمل اصلا. فالجامعات العربية عاجزة حتى عن أنتاج ما يسد حاجتها هي فضلا عما يسد حاجات الجماعة. لا توجد جامعة عربية واحدة تنتج أدوات عملها التعليمي العادي (تبليغ الموجود) فضلا عن أن تنتج ما لم يوجد بعد من المعرفة وفضلا عن أن تسد حاجات الوظائف العشر حماية ورعاية. هي بالكاد مراكز لمحو الأمية. ولعل أكبر دليل هو أن إسرائيل أحيت لغة ميتة منذ آلاف السنين وهم قتلوا لغة عالمية حية إلى بداية العصر الحديث. هذا وحده كاف للدلالة على أن الجامعات العربية هي أول أسباب التخلف في بلادنا: فهي سيست إداريا وأدلجت فكريا و”نقبت” اجتماعيا وافقرت اقتصاديا ولم يبق فيها إلا الدالات المشتراة. وأفصح علامتين وأخطر داءين على ما أقول أحدهما يتعلق بالحماية الخارجية أعني انتاج السلاح والاستدفاع والثاني يتعلق بالرعاية الصحية أعني انتاج الدواء والاستشفاء: فبعد قرن من نشأة هذه المحميات التي يسميها أصحابها دولا ما زال أدنى حويكم يتعالم خارج البلاد ويشتري سلاح حاميته من شعبه. والمعلوم أن هذين العلامتين لا جدال في دلالتهما ولا في أهميتهما ولا خاصة في صحة الوصف الذي قلته عنهما. ولا يعني ذلك أن عقولنا عاجزة بل يعني أن سياستنا لا يعنيها تحقيق شروط السيادة التي هي بالأساس الحماية والرعاية بوظائفها العشر. وليس عندي ما يمكن أن أضيفه.