لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمتممات في مفهوم الدولة ومقوماتها
والآن كيف يرد كل شيء في الوجود الإنساني إلى رمزين: أحدهما هو أساس التبادل والثاني هو اساس التواصل؟ ولماذا يحتاج التبادل والتواصل إلى هذين الرمزين؟ كيف يتحول التبادل بين الإنسان والطبيعة إلى تبادل بين الإنسان والإنسان وكلاهما مشروط بالتواصل الذي يراكم الخبرة المسترمزة؟ فالتبادل المباشر-المقايضة-والتواصل المباشرة -تبادل الإشارات- كلتاهما تفترض محلا خاليا يملأ ذهنيا بتقييم للبضاعة أو الخدمة المتبادلة وللدلالة أو المعنى المتواصل حولها دون أن تكون القيمة والمعنى في التبادل العيني والتواصل الإشاري بحاجة لقيام متعين خارج الاذهان: رمز الفعل وفعل الرمز. ومجال تحديد القيمة هو سوق التبادل المتعلق بالبضائع والخدمات وتحديد المعنى هو سوق التواصل المتعلق بالدلالات والمعاني ومن ثم فكلا السوقين المحددين للعلاقة بين الحاجات ومسداتها سواء كانت الاستعمالية أو التبادلية في الأولى أو الدلالية والمعنوية في الثانية يحتاجان إلى نظام تعيير. ونظام تعيير التبادل (البضائع والخدمات) ونظام تعيير التواصل (الدلالات والمعاني) من جنسين مختلفين: الأول هو علاقة بين مواد التبادل (يحددها أدوات الكيل) ومواد التواصل (يحددها أدوات المنطق) والثاني هو علاقة بين حاجات المتبادلين (استعمالي وتبادلي) والمتواصلين (دلالي ومعنوي). وعلي أن أذكر أن النسبة بين الاستعمالي والتبادلي في التبادل تناظر النسبة بين الدلالي والمعنوي في التواصل. وهذه النسبة لا تدرك إلا عندما نميز بين الدلالة التي لها إحالة على الوجود الخارجي والمعنى الذي يكتفي بنفسه ولا يحتاج للإحالة إلى الوجود الخارجي لأنه يتجاوزه إلى الوجود الذهني. فمن دون القيمة التبادلية أي بالاقتصار على القيمة الاستعمالية يكون الانتاج المادي الاقتصاد منحصرا في سد الحاجة المادية ولا يتطور لحاجات متعالية على الحاجة المادية: لو أخذت أي إنسان ما يزال في البداوة فإنه لن يفهم أن تكون لوحة لبيكاسو أغلى من كل ما يملك لانحصار القيم في المباشر. ومن دون المعنى أي بالاقتصار على الدلالة يكون الانتاج الفكري أو الثقافة منحصرا في الخبرة المتعلقة بالعالم الخارجي المحسوس وعدم تجاوزه إلى ما قد يكون عديم المرجع الخارجي ومنتسبا إلى عالم أسمى هو شرط التعالي على العالم الادنى وطلب ما يجعله على ما هو عليه أو فهم نظامه شرط علمه. ولولا هذين المستويين وراء الاستعمالي في التبادل والمعنوي في التواصل لاستحال أن نميز بين دين العجل ودين الله. ذلك أن التبادلي يتجاوز الاستعمالي فيروحن المادي والمعنوي يتجاوز الدلالي فيكمل الروحة إلى حد البحث عما وراء العالم من متعاليات تضفي المعنى الفلسفي والديني على الوجود. وهذه العناصر الاربعة وأصلها أي العلاقة بين الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها أو بين الطبيعي وما بعده في كيان الإنسان هي مضمون المرجعية التي تنبي عليها حياة الجماعات بوصفها ما يؤسس لمقومي كيان الإنسان بين الأولى والآخرة: الطبيعة والتاريخ وما بعدهما نظرا وعقدا وعملا وشرعا. وانطلاقا من المواقف المختلفة حول تأويل هذه العناصر الخمسة الأربعة مع أصلها تتكون القوى السياسية التي تتنافس على تمثيل إرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها وذلك هو جوهر أفعال الدولة التي هي عين الجماعة وقد صارت ذاتا واعية بنفسها تصنعها وتصونها بالنظر والعقد وبالعمل والشرع. وانطلاقا من هذه العناصر الخمسة تتكون نظريات الحكم ذات المرجعية التي ترد إلى دين العجل الخفي وهي أصل الفتنة الكبرى والباطنية التي تعتبر الدين مجرد ظاهر حقيقته هي إرادة الوسيط والوصي اللذين يدعان العلم المحيط فتدعي الحكم باسم الله: ثيوقراطيا الكنسية في التربية والحق الإلهي في الحكم. كما تتكون انطلاقا منها نظريات الحكم ذات المرجعية التي ترد إلى دين العجل الجلي وهي أصل الفتنة الصغرى والعلمانية التي تعتبر الدين مجرد خداع إيديولوجي (ماركس) وتعوضه بإرادة وسيط ووصي يدعيان العلم المحيط والحكم باسم الإنسان: انثروبوقراطيا الحزب في التربية والحق الطبيعي في الحكم. وبذلك يتبين أن الفتنتين الكبرى والصغرى أو الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا يعودان إلى نفس الظاهرة: إما تأنسي الله في الوسطاء والأوصياء باسم الدين المحرف أو تأليه الإنسان في الوسطاء والأوصياء باسم دين العجل العلني الذي تبرز فيه علل التحريف الخفية كما بينتها آل عمران: حلف الطاغوتين. والأصل متقدم على تحريفيه ومن ثم فلا يعني ما ذكرناه سخافة التوسط بين رذيلتين. فأولا هما نفس الرذيلة ولا تختلفان إلى بالسرية والعلنية وثانيا لا يمكن أن تكون الفضيلة وسطا بين رذيلتين لكن يمكن للرذيلتين أن تكونا تحريفا للفضيلة. هذان التحريفان هما أساس النقد القرآن لتحريف الأديان. أما اعتبار التحريفين نفس التحريف ولا يختلفان إلا بالخفاء والجلاء فمعناه أن العلة واحدة في الحالتين رغم أن ما تعرض عليه في ظهورها يبدوا متناقضا: فالفتنة الكبرى التي ترجع الدين إلى الثيوقراطيا تجعل “الثيو” (الله) مجرد تنكر لإرادة من يعتبره نفسه وسيطا ووصيا باسمه: يخفي تأليه نفسه. وبعبارة أوضح فهو ينقل الإنسان من عبادة ربه إلى عبادة من يقدم نفسه على أنه وسيط بينه وبين ربه في رزقيه الروحي (التربية) والمادي (الحكم) فيلغي حريتيه اللتين هما اساس وجوده كإنسان حر ومكلف ومسؤول عما كان عليه أن يقوم به بنفسه باعتباره ذا علاقة مباشرة بربه وبأمره تعميرا واستخلافا. وهذا الذي يخفيه صاحب الفتنة الكبرى يجليه صاحب الفتنة الصغرى فيدعي أن الدين خرافة ويوهم الإنسان أنه يحرره منها بدين العجل مباشرة: ذلك أن ما يسمى الديموقراطية التي تتنكر للوازع الذاتي وتدعي تحرير الإنسان هي في الواقع تجعله تابعا لبعدي العجل: مادته وخواره وديموقراطية أمريكا دليل. ولا يظنن أحد أن النظام الرأسمالي أقل استعبادا للإنسان من النظام الاشتراكي: الفرق بينهما هو دور القوة اللطيفة عند الأول والقوة العنيفة عند الثاني. وما تعجز عن تحقيقه هذه تحققه تلك ومن ثم فوهم الحرية والملكية في النظام الرأسمالي خدعة لأن الإنسان نفسه مملوك للبنوك ولثقافة التلهية وسواء كان الحكم بيد حزب واحد (الاشتراكية) أو يتداول عليه حزبان (الرأسمالية) فإن الاحزاب والاستبليشمونت الظاهري ليسا هما من يحكم بل من يحكم يوجد في الخفاء لأنه إما مافية روسيا أو لوبيات أمريكا هم في الحالتين أصحاب بعدي العجل: من بيده المال والملاهي للتخدير الدائم. وما هو أبعد غورا من ذلك أيضا هو أن القوى السياسية التي تنشأ مردها إلى هذا المخمس الذي بينت مقوماته: فالأحزاب تتألف من 1. يمين خالص يعتبر الأساس هو بعد الإنتاج المادي ولا يهتم بالتوزيع أي مجرد الاستعمار في الأرض وهو وريث الثيوقراطيا المعلمنة. 2. يسار خالص يركز على توزيع الثروة. وهذا هو وريث الانثروبوقراطيا المأنسنة. لكن الأول يكتشف استحالة تطبيق قواعد اللعبة الديموقراطية بها وحدها لأن ذلك لا يعطيه قاعدة كافية 3. فينتج اليمين المعدل الذي يأخذ بعين الاعتبار البعد الاجتماعي أو توزيع الثروة بقدر ما وهو ما تحقق بعد الأزمة الكبرى في ثلاثينات القرن الماضي. والثاني يكتشف أنه بالتركيز على التوزيع يجد نفسه فاقدا لما يدعي توزيعه. 4. وهو النوع الرابع من الأحزاب فيراجع رؤيته ويصبح يمين اليسار أي يولي أهمية كبرى لشروط الانتاج فيرجع الملكية (بعد التأميم) وربح رأس المال وتصبح الساحة مؤلفة من يمين ويسار اليمين ويسار ويمين اليسار. 5. وهنا يحصل أمر عجب: فالحزب الخامس لن يكون ممثلا للأصل لأن الأحزاب الاربعة ليست ممثلة لفروع منه بل هي ممثلة لفروع من تحريفه. لذلك فلن يكون الحزب الخامس إلى حزب الوسط الذي يمثل الانتهازية السياسية أعني حزب من يميل للأقوى بحسب توقعه في كل انتخابات. ولذلك فليست بنية القوى السياسية اعتباطية بل هي خاضعة لمنطق مستمد من بعدي العجل الذهبي وقلما تتحرر القوى السياسية منهما لأن السياسة ما يغلب عليها هو الاستعمار في الأرض الذي يمكن أن يحصل من دون قيم الاستخلاف في حين هذا لا يمكن من ذاك. وهذا هو خطأ المسلمين. وهو خطأ مضاعف: توهموا الاستخلاف مغنيا عن الاستعمار في الأرض فصاروا عبيد مستعمريها بالمعنى الردي لكلمة الاستعمار ثم هاهم يتصورون أن الاستعمار في الأرض بالطريقة الاستعمارية أو بالرؤية الغربية هو الحل. فيكونوا في المرتين قد جانبوا الصواب: هم ضحايا الفتنتين. الإسلام بريء من هذين الحلين الخاطئين. وقد حاولت بيان دلالة الوصل بين الأولى والأخرى من خلال تحليل مفهوم المعادلة الوجودية التي هي مضمون الرسالة الخاتمة أو التذكير الاخير للإنسانية كلها والتكليف الذي يوجب على المسلمين إن كانوا صادقين أن يكونوا شهداء على العالمين.