لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهمتممات في مفهوم الدولة ومقوماتها
نترك الكلام في المسائل التاريخية العينية ونعود إلى البحث المجرد لنستكمل علاج مسألة الدولة وطبيعة مقوماتها أيا كانت الجماعة التي تنسب إليها الدولة وفي أي عصر ذلك أن العلاج المفهومي يضع بين قوسين ما يتعلق بالعلاج التاريخي ليتكلم على البنية المجردة دون ملئها بالمضمون التاريخي. ولست غافلا عن كون النزعة التاريخانية تعتبر الكلام على البنى المجردة وعلى المقابلة بين المفهومي والتاريخ من بقايا الميتافيزيقا وليست مناسبة لعصر العلم الوضعي. لكن أكثر ميلا لاعتبار هذا الرأي هو الغفلة بعينها لأن العلم الوضعي تجاوزه العلم المدرك لحدوده ولحاجته لما يضفي عليه معنى. لذلك فنسبة العلاج المفهومي للعلاج التاريخي هي عين نسبة البنى الرياضية للمضامين الفيزيائية فيما يظن علما وضعيا. والأولى يمكن اعتبارها مقدرات ذهنية خالية من المضمون عدا منطق النسقية في البناء الرمزي المجرد والثانية تعدلها تعديل المضمون للعبارة عنه باسترماز أو ترجمة رمزية مناظرة. ذلك أن العلم بخلاف الأباديع الفنية ليس متحررا من مرجعية من خارجه تتمثل في أن الأباديع العلمية تختلف عن الأباديع الأدبية فالنظرية تختلف عن الرواية. النظرية رواية مقيدة بمضمون مستقل عن كاتبها والرواية نظرية صاحبها هو الذي يبدعها ويبدع المضمون معها ومن ثم فهو أكثر حرية من العالم. ولكن مهما كان أكثر حرية من العالم لعدم تبعية أبدوعته لموضوع ليس من صنع المبدع ويمكن أن نقيس عليه الرياضي فإنهما مع ذلك خاضعان لما يمكن اعتباره هو بدوره حائلا دون الخلط بين الإبداع والخيال الذي ليس له نظام مفهومي: ومعنى ذلك أن الرياضي والروائي هما بدورهما خاضعان للمفهوم. والمفهوم يتجاوز الحدود الاولية وقوانين تأليفها بداية للإبداع الرياضي أو الروائي وبمجرد وضع هذه الحدود الأولية وقوانين التأليف بينها (شرطا كل اكسيومية) يصبحان مقيدين بما يفرضه المفهوم الذي هو علاقات مطلقة الاستقلال عن تحكم الشخص الذي أبدعهما لأن ما سيترتب عليهما مستقل تماما عنهما. وإذن ففكر الإنسان يوجد بين فكي كماشة: أحدهما يحكم الوجود في الأعيان والاحتكام إليه قانونه هو تجربة الوجود الخارجي والثاني هو الوجود في الأذهان والاحتكام إليه قانونه هو تجربة الوجود الذهني -وهو غير النفسي -إنه الوجود المنطقي أو الرمزي وما يترتب عليه من نظام ونسقية مستقلين تماما. صحيح أن الروائي يبدو وكأنه مطلق الحرية في قص أحداث روايته. لكن هذا القص بخلاف ما يتوهم الكثير ليس مطلق الحرية: فما أن يبدع الروائي شخوص روايته ويحدد صفاتهم الاساسية يصبح خاضعا لتناسق هذه الصفات فيما يعرضه من أحداث تفرض عليه فرضا ولا يستطيع من دون إفساد الحبكة أن يغيرها. وحتى ما يقدم عليه من إفساد للنسق فهو مما يحتمله النسق بمعنى أنه ضمن الإمكانات التي تنتج عن الحدود الأولية وقوانين التأليف التي تنتج عن مفهوماتها وما تبيحه وما تحظره وما يمكن أن يصبح بالإباحة والحظر من مجملات القص أو هكذا تفهم حتى لو لم تكم بقصد من الروائي. ونفس الأمر في العلم. لذلك فأحيانا يكون ما يظن من الاخطاء فتحا في الإبداعين الروائي والرياضي. وبعد هذه المحاولة لتعليل الحاجة إلى ما يجانس هذه العلاقة بين فك الأذهان وفك الأعيان المحيطين بعمل الإبداع علميا كان أو أدبيا أعود إلى موضوعي: نظرية الدولة التي يمكن إبداعها في الأذهان بصرف النظر عن الأعيان. فهذا هو المستوى المفهومي الذي مع المستوى التاريخي يمكن أن يؤطر المستوى العلمي من السياسة: وإذن فما أقدمه له علاقة بنظرية الدولة مفهوميا بالمقابل مع واقع الدولة تاريخيا اساسين للعم الدولة وضعيا. ثلاثة مستويات: المفهوم والتاريخ والعلم الوضعي. والعلم الوضعي ممتنع من دون الآخرين. فيكون العلم دائما مشدودا إلى حدين أحدهما هو الإبداع في الأذهان والثاني هو الحصول في الأعيان وهو محاولة المطابقة بقدر الاستطاعة بين الإبداع في الأذهان والحصول في الأعيان ومن ثم فالعلم وصل بين المفهومي والتاريخي أو بين المنطقي الرياضي والوجودي التجريبي: والآن فلنستكمل مفهوم الدولة. حددت فيما سبق المقومات التي تتألف منها الدولة (صورة العمران بلغة ابن خلدون) بوصها الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها ومبدعة لكيانها وشروط بقائه حماية ورعاية فحصرتها في العناصر التالية: 1. مرجعية 2. قوى سياسية 3. دستور 4. هيئة حاكمة ومعارضة 5. وظائف الحماية والرعاية. وهذه العناصر المقومة الخمسة شرحتها بإفاضة في مستوى التحليل المفهومي وأحيانا في مستوى الحصول التاريخي دون أن أدعي الوصول إلى النظرية العلمية التي تجمع بين التحليل المفهومي والحصول التاريخي لتكون فعلا معرفة وضعية تستخرج قوانين علمية قابلة للامتحان التجريبي في الهندسة السياسية. فتكون العملية الكاملة مؤلفة من: 1. تحليل مفهومي أو وجود في الأذهان 2. وتوصيف تاريخي أو وجود في الأعيان 3. ومن تنظير علمي ووضعي 4. يؤسس لتفعلي عملي في الهندسة السياسة أو في الاستراتيجية السياسية لبناء الدول 5. والجامع بين هذه العناصر هو المعنى التام للسياسة في الفلسفة وفي الدين. فما الذي غاب في المحاولات السابقة وعلينا استكماله؟ لما تكلمت على المرجعية (المقوم الأول) وعلى الوظائف (المقوم الأخير) غاب أهم عناصر أدوات الفعل فيهما وفيما بينهما أعني في القوى السياسية والدستور والهيئة “الحاكمة-المعارضة: أعني الرمزين المقومين للفاعلية الإنسانية عامة. فلا يمكن تصور جماعة فضلا عن الدولة التي هي الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها ومبدعة لكيانها -وهي الوحيدة التي يمكن القول إنها -كاوزا سوي-أي علة وجودها واستمرارها وكذلك علة عدمها وزوالها-من دون الرمزين: رمز الفاعلية أو العملة وفاعلية الرمز أو الكلمة. وحتى لا ننتظر طويلا فلنقل إن هذين الرمزين مجتمعين يمثلان عند فصلهما عن الغايات المتعالية على الدنيا دين العجل الذهبي: العملة هي مادته أو الذهب والكلمة هي صورته أو الخوار. ومن ثم فهذان الرمزان مشتركان بين دين الله إذا وصلت الأولى بالآخرة مستويين متكاملين ودين العجل إذا خلطتا. والخلط بينهما يكون إما برد السياسة إلى الثيوقراطيا أو بردها إلى الانثروبوقراطيا: ففي الأولى الوسيط والوصي يدعي الكلام باسم الله ويلغي الإنسان وفي الثانية يدعي الكلام باسم الإنسان ويلغي الله. ولما كان الإلغاء مستحيلا فالإنسان يتربب سرا في الاولى وجهرا في الثانية: وحدة الفتنتين. وإذن فالعملة رمز الفاعلية والكلمة فاعلية الرمز لا بد منهما في كل دولة والمشكل هو كيف يحال دون أن يصبحا عنصري دين العجل الذهبي ذي الخوار. كل مشكل المرجعية متعلق بهذه الإشكالية. الدولة بوصها ذات الجماعة لا تعمل من دونهما لكنهما يمكن أن يصبحا ممثلين لدين العجل أو لدين الله. وما يرمز إلى هذه الضرورة هو بالأساس ما يجعل وزارة المالية ووزارة الإعلام وزارتي سيادة حتى وإن كانت بنية الحكومات لا تعتبرهما كذلك: لكن ما من حكومة يمكن أن تعمل من دون المالية شرط التبادل ومن دون الإعلام شرط التواصل. لذلك فوزارات السيادة ثمان وليست أربعا. فبالإضافة إلى القضاء والداخلية والخارجية والدفاع لا بد من إضافة المالية والأعلام والاستعلام والبحث العلمي النظري والعملي. فالحماية والرعاية لا تعملان من دون هذه السلط الثمانية: أربع للفاعلية التنفيذية وأربع لشروط العمل على علم في الحماية والرعاية. بذلك تكون الدولة وعي الجماعة. وهذه الإضافة تتعلق بالهيئة الحاكمة-المعارضة (الهيئة مضاعفة لأن أي معارضة جدية لها حكومة ظل تستعد للتداول وهي إذن حاكمة بالقوة والأولى حاكمة بالفعل). لكن ينبغي أن نثبت دور ذلك في المرجعية وفي القوى السياسية وفي الدستور وفي الوظائف العشر التي هي أعضاء فعل الدولة. عبارة “أعضاء فعل الدولة” فيها اضمار أن الدولة كائن حي يعمل بجوارح هي التي تؤدي الوظائف العشر: أي الحماية الداخلية (القضاء والأمن) والحماية الخارجية (الدبلوماسية والدفاع) وجهازها العصبي اي الأعلام والاستعلام حتى يكون عمل الدولة على علم بما يجري في الداخل والخارج. ونفس ما قلناه عن الحماية يصح على الرعاية. فللدولة جوارح تقوم بوظائف الرعاية التي هي رعاية التكوين أو التربية النظامية والعامة ورعاية التموين التي هي الإنتاج الرمزي أو الثقافة بكل ابعادها والإنتاج المادي أو الاقتصاد بكل أبعاده وجهازها العصبي أو البحث والإعلام العلميين. وفي الحقيقة فإن الرمزين مضمران في الجهازين العصبيين: ذلك أن رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة كلاهما تابع للحماية وللرعاية وجود في الداخل (التبادل والتواصل) وشرط إمكان في الخارج. وشرط الإمكان في الخارج دليله شرط الوجود في الداخل: المهابة مبنية على هذه العلاقة.