مبادرة الرئيس، تخل بالنظامين الاقتصادي والأسري، المباشر والتعاقدي

**** مبادرة الرئيس تخل بالنظامين الاقتصادي الأسري المباشر والتعاقدي

لما تكلمت على أمية أعضاء اللجنة التي عينها الرئيس من لون واحد، ليس بمعنى الانتساب إلى العلمانية، بل وكذلك من فهم واحد للعلمانية مقصورا على اليعقوبية الفرنسية، ظن الكثير أني أبالغ. لكني بينت أمس في الكلام على النظامين القانوني والسياسي، ما قد يترتب عليه من فوضى فيهما معا. اليوم أبين الأمية في مجال أخطر، لأنه سيؤدي إلى أهم علل الفوضى في شروط القيام المادي للجماعة أعني في الاقتصاد لما قد ينجر عن المساواة بين الأخ والاخت في توزيع تركة الأب أو الأم، أعني تركة الأسرة، لأن الاقتصاد في المجتمعات التي لم تصل إلى آخر مستويات الرأسمالية ما تزال أسرية. ومرحلة الاقتصاد المعتمد على الملكية الأسرية نوعان: • ملكية شبه مشاعية في الأسرة لأنها لم تضبط بعقد شراكة • وملكية على شكل الشركات محدودة المسؤولية وهي بالجوهر أسرية.

والنوع الثاني من جنس الاول لكنه أرقى لأنه يحول دون تفتيت الملكية بعد وفاة الأب أو الأم اللذين هما الأساس.

والشكل الأول هو المسيطر على ملكية الارض والزراعة. والثاني لا يكاد يوجد فيها، بل هو غالبا في الصناعات الصغرى وفي الخدمات. والمهم في الامر هو أن كلا النوعين مصحوبان بثقافة معينة هي بالأساس الثقافة الأسرية، لأن غالب الشركات محدودة المسؤولية هي لتوظيف الأبناء في أزمة البطالة.

وما في هذا التقرير دليل الجهل التام بهذين الأمرين، أو التجاهل. وكلاهما جريمة نحو الأساس الاقتصادي الذي تنبني عليه إعالة الجماعة، إذ حتى أرقى ما أنتجه الاقتصاد التونسي الذي يدعي أصحابه الحداثة، أعني خدمات السياحة، فهي أسرية بالأساس وتلازمها ثقافة الأسرة وليس ثقافة الفرد. وإذا كان الطابع الأسري للزراعة لا يحتاج إلى دليل، فإن الدليل على الطابع الأسري للشركات ذات المسؤولية المحدودية له علامتان لا تكذبان، ولا أعتقد أنه يوجد من يشكك فيهما: فهذه خاصية صفاقسية وجربية. فالاقتصاد في هاتين المدينتين أساسه وعلة متانته ثقافة اسرية، من يشكك فيها فليثبت العكس.

والأهم من ذلك، هو أن الذهاب إلى هذا الشكل المتجاوز للمشاعية الأسرية نحو الشراكة محدودة المسؤولية في إطار ثقافة الأسرة، أدى إلى توسيعها بنحو يمكن تسميته “عصبية” بالمعنى النبيل لكلمة صفاقسية وجربية، تجعل علية القوم فيهما وكأنهم أسرة واحدة توسيعا للتزاوج الداخلي وحدا من تفتيت الملكية.

لذلك فالحمار الذي فكر في المساواة بين الاخ والاخت سيوقف هذا المسار حتما، لأن توسيع التزاوج في هذه الحالة سيتوقف إذا كانت الأسرة المالكة ستصبح متساوية مع اسرة النسيب الذي سيدخل في الشراكة ندا وليس بسهم لا يلغي أولوية الأسرة المالكة التي منها البنت والتركة.

ومن ثمّ، فما سيحصل حتما أحد أمرين: • إما مضاعفة العنوسة لئلا تتفتت الملكية • أو تفتت الشركات الأسرية لأن الصهر الذي سيصبح مساويا لصهره في رأس المال – في مثال أخ واخت ورثا أب – فيفضل أن يشارك أخوته بدل مشاركة صهره، فينفرط عقد الأسرة لأن زوجته تريد العكس وتزداد الخلافات.

وهذا أحد الامثلة الممكنة ومثلها ما لا يحصى، بحيث إن النظام الذي بني عليه اقتصاد صفاقس وجربة مثالين من ذروة ما بلغ إليه الاقتصاد التونسي في علاقة بثقافة الاسرة، سينهار، والمعلوم أن هذا الشكل هو الحل الذي مكّن من تجاوز سخافة التفتيت الناتج عن عدم فهم الطبيعة الكسرية لقسمة التركات. فلو كان للفقهاء فهم في السياسة الاقتصادية، لعلموا أن تفتيت الملكية يؤدي حتما إلى القضاء على أهم عامل للإنتاج المادي ورعاية الجماعة، ولفهموا أن الانتقال من التفتيت إلى التجميع هو الغاية من الطابع الكسري، بحيث يتراكم رأس المال بالتجميع والشراكة التعاقدية بدلا من التلاشي بالتفتيت.

قوة صفاقس وجربة أن أهلهما فهموا هذا الحل، وهو حل وسط بين التفتيت الغبي للتوزيع بدل التجميع في الفهم الفقهي للمواريث – والقرآن بريء من ذلك كما بينا لأنه يحقق الحل الوسط بين الحاجة العضوية للتجاوز الخارجي وعدم حرمان النساء من الملكية – والفهم اليهودي حيث الوراثة للذكور دون الإناث. ولهذه العلة، فصفاقس وجربة تمثلان قوتين اقتصاديتين في تونس، أو على الأقل ما تزال فيهما ثقافة الأسرة والنظام التعاقدي للإبقاء على الرأسمال الموحد الذي هو شرط كل اقتصاد متين. أما ثقافة الشركات خفية الاسم، فلا يزال حابيا في بلادنا حتى في صفاقس وجربة، لأنه مبني على ثقافة الفرد خاصة. والشيء الثابت أن المرحلة الموصلة إليه، والتي ما تزال متحكمة فيه حتى في الغرب، هي ثقافة التحالف بين الأسر المالكة الكبرى، وهي خطة معلومة عند كبار الملاك للثروات في الغرب، وغالبا ما تكون هذه يهودية أو متأثرة بثقافتهم، لأن يهود العالم قبيلة واحدة بمقتضى حصر دينهم فيهم وتلك علة قلتهم.

وحتى أيسر فهم ما أتكلم فيه الآن، فلأسمه قياسا على النظامين القانوني والسياسي في المحاولة السابقة، • فلأُسم الأول “نظام الاقتصاد الأسري المباشر” كما عند المزارعين عامة • والثاني “نظام الاقتصاد الأسري التعاقدي” كما عند الصناعيين والخدماتيين في الشركات محدودة المسؤولية. فيكون ما أشرت إليه بأمية لجنة التسعة متعلقا بالأنظمة الأربعة: • القانوني • والسياسي • والاقتصادي الأسري بشكليه جهلا أو تجاهلا • والجامع بين نظام النظم الذي هو النظام الحضاري ومرحلته الذاتية. فمحاولة فرض نظام حضاري آخر مختلف بذاته وبمراحل التكوين، هو جريمة هذه المبادرة.

وأريد أن أختم بأمر قد يعجب له الكثير وهو شبيه بما قلته حول معركة غطاء رأس المرأة. فقد بينت أن وظائف الحجاب هي التي ستفرضه وليس المعتقدات: فبتعليل اقتصادي وزماني، يستحيل ألا يربح الحجاب المعركة ضد معارضيه. فكلفة تعرية الرأس كبيرة اقتصاديا وزمانيا على النساء. هذا سلبا بمعنى أن المرأة التي تعري راسها لا بد لها من الحلاقة اسبوعيا ومن العناية بالشعر قبل كل خروج من البيت. لكن غطاء الرأس يغنيها عن ذلك. ثم إنه يحقق المساواة بين النساء، ففضلا عن الكلفة، ليست كل النساء جميلات الشعر والغطاء يخفي ذلك والكلفة بغطاء جميل وغير مكلف. في مثالنا: سخافة المساواة وكذبة التحرر ستجعل النساء أكثر من الرجال عداوة لهذا الجهل بالبعائد. ذلك أن العنوسة وكثرة الطلاق الناتجين عنهما ستجعل النساء يفهمن أن العملية كلها متاجرة بهن وبسعادتهن. وجل النائحات منهن على هذه السخافات هن من الفاشلات في حياتهن العاطفية. والنساء ككل البشر، لا يجهلن أن الحياة العاطفية لا تنبني على البعد الأدنى من التواصل بين الجنسين، بل لا بد فيها – وهي تعاقدية – من تنازلات متبادلة يتقدم فيها أحد الجنسين على الثاني بالتداول حتى تحصل المستويات الثلاثة التي يذكرها القرآن كما أبرزها الد. عبد الحميد زيدان بعبارة رياضية. فالأسرة يحيط بها ثلاث دوائر: • السكن • والمودة • والرحمة ووضع للأولى (السكن) ++ وللثانية (المودة) ++   ثم وضع للأخيرة (الرحمة) +-  وانتهي إلى المقابلة بين خمسة + وواحدة – بمعنى أن الاسرة يغلب عليها السكن والمودة، وفي حالة حصول خلاف يتغاضى أحد الزوجين على خطأ الثاني بمنطق الرحمة.

ويوم يفهم المشرع، الذي يتصور أن التشريع الوضعي أكثر حكمة، أن حكمة الإنسان اجتهادية، وهي تفقد عقلانيتها إذا أطلقت، ومن ثم فلا بد من فهم الخفي في التشريع السماوي الذي فيه رعاية لما يغيب عنا لأن علمنا ليس محيطا. فالتوازن بين الملكية وخطر التزاوج الداخلي مثلا، من أسرار الحكمة الإلهية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي