****،
كتبت فصلا في المهادنة الدبلوماسية ودلالتها التي تحددها توازنات القوة بين أطراف أي نزاع في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية. ولا أريد أن أعود إلى هذه الاشكالية في عمومها.
ودافعي اليوم من موقفي هو ما لاحظته من تعليقات المدح المبالغ فيه لخطاب الشيخ راشد.
وهو مدح يبدو لي أقرب إلى السم في الدسم عن جهل أو عن خداع الله وحده يعلم بالسرائر.
وعلى كل فهو عندي ليس تشجيعا أو نصحا لصالحه ولا لصالح الحركة ولا خاصة لصالح الثورة ولا أخيرا لصالح تونس.
ففي اللحظة التي يجيش اعداء الثورة مليشياتهم للهجوم على منجزات الثورة ما يقتضيه الوضع هو تقوية الجبهة الداخلية وتحليل المخاطر وليس سلوك النعام وترك الدمل يتعفن في الحركة بدلا من التعجيل بفقعه حتى تندمل الجروح فتستعيد عنفوانها.
فخطاب البارحة خطاب فات أوانه ولم يبق صالحا خاصة وما تلاه من ضرورة التغيير في الحكومة ليس في متناوله بسبب سيف دموقليس الذي بيد دمية قرطاج.
وسأكتفي بإعلان صريح وبين من حوار الشيخ راشد الغنوشي ليلة البارحة لأني من عادتي ألا أخشى في ما أعتقده حقا لومة لائم.
وما سأقوله ليس رايا جديدا بل هو تكرار إلى حد الملل لمواقف سابقة بعضها كان نصائح غير علنية لكنها كانت صيحة في واد.
لكن جلها صار علنيا بالتدريج -بعد أن تحررت من واجب التحفظ رغم أني لست من الحزب لكني من الرؤية- في مقالات ومحاضرات بل وحتى قبل ذلك إذ أعلنت عن بعضها في الحملة الانتخابية الألى التي شاركت فيها: مثل الدعوة إلى المصالحة بين فرعي الحركة الوطنية.
وما الجديد اليوم إلا المزيد من العلنية والصراحة لان الوضع يقتضيه. ولا أبالي بما قد يظن خروجا عن مساندة الحركة. فالتحليل الجذري هو العلاج الوحيد المفيد للمرض عندما يكاد يصبح ميتاستاز سرطانية تتآكل الرؤية فيه باسم التكتيك السياسوي.
فكلام الشيخ يبدو كلاما جميلا وخطابا سياسا توحيديا. لكنه كلام فات أوانه. فمثل هذا الكلام كان يمكن أن يحول دون تونس واهدار عقد كامل لو جاء مباشرة بعد انتخابات 2011.
فالتعالي على الحزبيات والنظرة الوطنية الشاملة هي ما كان ينبغي أن يحصل لما كان ذلك من جنس العفو عند المقدرة.
لكن الفرصة ضاعت.
ومفعول هذا الخطاب قد يكون عكسيا: فهو يوهم اعداء الثورة بأنه اعتراف بالضعف والهزيمة ويخذل شباب الثورة لأن الشباب يفقد الأمل كلما فقد الحماسة للقضية التي يقبل التنازل من قبل صفها إذا كان في موقع قوة لكنه يحبطه لما يشعره بأنه صادر عن موقف ضعف يواصل تجاهل الحقيقة.
والتمييز بين الموقفين لا يفوت حتى من ليس له خبرة سياسية ومعرفة بعلم نفس الجماهير. فهي ترد المواقف دائما إلى ما وراءها من علامات القوة والضعف فتعيرها بها. فتنازل القوي يسمونه تواضعا وتفضلا. أما تنازل الضعيف فيسمونه ضعة وتسولا.
ولذلك فقد طالبت مباشرة بعد وفاة السبسي بضرورة وقفة تأمل لاستجماع القوة واستعادة القاعدة التي فقدت ثلثيها.
فالمعركة التي توقعتها هي ما نراه حاليا أي الحرب الضروس على الإسلاميين في تونس لأنهم هم الوحيدون الذين بسقوطهم تربح الثورة المضادة المعركة. وهي ليست محلية ولا إقليمية فحسب بل هي دولية.
فشتان بين حزب اعطاه الشعب ما يشبه التفويض لتحقيق أهداف الثورة والاستفادة من فرصة تحديد مناخ الثورة ومستقبلها بأغلبية حاسمة في لحظات كانت الثورة فيها في أوج قوتها وكان العالم كله مشدودا إليها وبين محاولة ذلك الآن بعد الفشل الذريع وبعد أن تحول العالم الغربي إلى حرب عليها ومساندة الثورة المضادة.
فلا يمكن لحزب خسر ثلثي قاعدته أن يتدارك أخطاءه الاستراتيجية بنفس المنهج التكتيكي الذي يغطي بالأقوال على فشل الافعال فلا يبدأ بالنقد الذاتي وتنظيم شأنه الداخلي استعدادا لمعارك في مناخ مختلف تماما وبقوة تآكلت وعليه استعادتها بالتشبيب ووضع استراتيجية تحرر قياداته من التكتيك قصير النظر.
فاليوم الحرب على الثورة لم تعد محلية ولا حتى إقليمية بل هي صارت دولية.
وقد يعود الإقليم إلى صراع المحورين بين قطبين الروس نفسهم فيه لاعب ثانوي وخاصة بعد كورونا.
فسيترتب عليها احتدام الصراع بين الصين وأمريكا ومحاولات أوروبا تعويض خسائرها بتقوية دورها في مستعمراتها السابقة للمزيد من نهب ثرواتها. وعندئذ حتى تركيا تحاول الانحياز لما يخدم مصلحتها المباشرة وتترك العرب لفوضاهم لئلا تغرق معاهم في نكوصهم إلى الجاهلية والقبلية والأنظمة العسكرية.
والاستراتيجيا تقتضي حتى عند الاضطرار إلى المهادنة الدبلوماسية أعادة النظر في “القيادة التي لا تتجاوز رؤيتها أنفها” لتقوية الجبهة الداخلية في قوى الثورة وليس الخوض في معارك ثانوية.
فهي لا تحلق عاليا لأنها ترد إلى تسجيل نقاط حول الكراسي في حكومة مآلها الفشل في كل الاحوال ولن تنقذ شيئا لأن التحجج بـ”الاكراهات السياسية” لم تعد مقنعة إذ هي الحقيقة ليست إكراهات ناتجة عن طبيعة السياسة بل عن أخطاء الساسة الاستراتيجية.
فما حصل في الانتخابات الأخيرة هو الذي يفسر النتائج الهزيلة لقيادات النهضة ودورها في تصعيد أعداء الثورة. فهي التي جعلتهم قادرين على الحكم منذ أن وقعت في خطأ انقلاب الشاهد على السبسي.
وتوهم التفاهمات معه بقيت سارية المفعول من اللاوعي السياسي رغم أن أي مبتدئ في السياسة يعلم أن المناخ العام كان سيتغير مباشرة بعد وفاة السبسي التي لا تفاجئ إلا فاقدي البصيرة: أعني أن التسابق على وراثته في جماعته ومنهم الشاهد يلغي كل التفاهمات السابقة.
ولعل ترشح الشيخ للنيابية من أكبر الاخطاء الاستراتيجية التي هي من ألاعيب المعركة الداخلية في الحزب ولا علاقة لها بمصلحته فضلا عن علاقتها بالمصلحة الوطنية ولا حتى بمصلحة الشيخ نفسه لأنه فقد ما كان يتمتع به من دور على الساحة الدولية.
فقد بات مقيدا بخطته في المجلس وهي لا تسمن ولا تغني من جوع خاصة مع رئيس وحكومة معاديان للسلطة التشريعية ولا يسلمون بالشرعية الانتخابية ما لم تكن لصالحهما: فخسر أهم أوراقه ربما لأنه لا يؤمن بتقدم السلطان الرمزي على السلطان المادي.
لذلك فإن ما أدى إلى استتباع الحزبين الأولين لجماعة صفر افصل بعد الانتخابات الأخيرة هو بالأساس التكتيك الذي قرر أصحابه مساندة من يعلم كل من له ذرة من عقل أنه سيكون العدو الأعنف ضد الثورة لأن من الحمق تأييد شخص لأعلى خطة في النظام مع الجهل بماضيه وبإمكانياته العقلية وتوجهاته العقدية.
فهذا التكتيك الذي أدى إلى الرقص مع الشاهد في تشويه من كان له دور في افشال أول مؤامرة لأسقاط الثورة ولو بحمام دم جعل الحلف معه بعد الانتخابات شبه مستحيل وأنتج خرافة حكومة الثورة.
ما زلت إلى الآن لم أفهم كيف صار حزب البراميل وحزب البسكلات من الثورة في حين أن الأول حليف ألد أعدائها في كل الاقليم والثاني أقرب إلى الد أعدائها أي المستعمر الذي ما يزال له مقيم عام في تونس.
ولا أحد يجهل أن ما يحاك اليوم ضد ما بقي من الثورة هو تكرار لنفس المسعى أي اعتصام باردو الأول. ولذلك هم يسمونه اعتصام باردو 2.
لكن الفرق شاسع بين الاعتصامين.
الأول كان داخليا ومحليا.
والثاني المزمع يسانده من جعلته قيادات النهضة رئيس الدولة بتخريب حملة مورو أولا وبمشاركة الشاهد في تشويه القروي ثانيا.
والأخطر من ذلك كله هو أن “زعيمة” البورقيبية المزعومة في تونس خلقتها قيادة النهضة. فهي التي أهدتها لعبير بحربها الكلامية على بورقيبة واهمال كل البورقيبيين الذين عبروا عن الاستعداد للتعاون مع الثورة.
لكن قيادات النهضة وقعوا ضحية لمزايدات اليسار والقوميين-وحتى من حليفيهم- المزايدات التي تهدف إلى منع الصلح بين فرعي حركة التحرير الوطنية أي البورقيبية والثعالبية. وإذن فقصر النظر والوقوع في أفخاخ اليسار والقوميين أنتج ظاهرة عبير.
أما محاولة الخطاب الذي يتظاهر بتقديم الوطن على الحزب فهي بدورها فات أوانها.
فالوطن كان ينبغي أن يكون من البداية سفينة للجميع لما كانت الثورة في ذروة قوتها وليس بعد أن فقدت عنفوانها بسبب إيصال أعدائها إلى رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة.
فهم الممسكون بكل الوزارات والإدارات المؤثرة في أوضاع البلد كلها ما يجعل الوزراء الآخرين كمبارس وهو ما سيؤدي إلى نكوص تونس بسبب سيطرتهم على أدوات العنف الشرعي وتشكيكهم في شرعية كل ما أنجزته الثورة أي المؤسسات وخاصة الدستور والتوجه إلى استعادة النظام الرئاسوي.
خطاب المصالحة في حالة الضعف هروب من الاستعداد للمواجهة وليس حكمة سياسية. وتبرير الموقف من ليبيا بالمصالح قصيرة النظر يعني أن الفكر ما يزال دون حقيقة المعركة.
فخصوم النهضة سواء الأحزاب التي نادت بحكومة الرئيس أو الرئيس أو حتى عبير أقرب لحقيقة الوضع أي كلام التمهيد للصدام الحاسم. ذلك أنهم لا يفخون تقديم الولاء للثورة المضادة العربية بفرعيها التابع لإيران وروسيا والتابع لإسرائيل وأمريكا مع تطفل فرنسا عليهما معا.
وكل ما يريد العودة إلى نظام ابن علي اصطف الآن معهم وهم أقرب إلى حقيقة الوضع الإقليمي والدولي وخاصة ما سيترتب على الازمة الاقتصادية التي تلي كورونا من الخطاب التصالحي في غير وقته ومن ثم الفاقد لكل فاعلية لأن أوانه قد فات: فهو كان يكون فاعلا لو كان من جنس العفو عند المقدرة.
أما اليوم فهو كلام فاقد لكل فاعلية موجبة لأنه يثبط عزيمة الثوار محليا واقليميا ودوليا ويجلها وكأنها منطوية على المنافع القريبة ومهملة لجوهر المعركة التي ينبغي الاستعداد لها.
فقد تكون تونس مقدمة على ما يشبه اللحظة التي تعفنت فيها حالها في آخر أيام حكم بورقيبة ما يعد المناخ الشعبي العام إلى انتظار “منقذ” بالمعنى الذي جعله يرحب بابن علي سنة 1987. والمعلوم أن الازمة الاجتماعية أعمق مما كانت عليه في بداية الثورة ما سيجعل التخريب النقابي أشد وأخطر.
وأختم بالقول إني كنت سأرجح هذا المآل المأساوي لو لم يبق عندي أمل وتفاؤل بأن النصر الليبي بفضل حزم شبابها والسند التركي بفضل استراتيجية بعيدة المدى قد يحول دون هذا المآل المزري الذي نتج عن التكتيك.
وتلك هي حال كل تكتيك لا تقوده استراتيجية بعيدة النظر والتي تحاول بالأقوال تزيين الأفعال التي آلت إلى تآكل قاعدة القوة السياسية الوحيدة التي ما تزال مساندة لأهداف الثورة مع بعض النخب المخلصة للمصلحة العليا للوطن.
لذلك فالأمل الوحيد الذي يجعلني لم أفقد تفاؤلي هو انتصار الثورة في ليبيا وفي سوريا وفهم امريكا ما بعد كورونا أنه من مصلحتها التخلي عن مساندة الثورة المضادة وإلا فالأيام السوداء تلوح في الأفق خاصة والنظام الجزائري الحالي يعاني من هشاشة تجعله مترددا ولا يستعد للزلزال القادم.
فإذا عاد الإقليم إلى وضعية تشبه ما حدث خلال الحرب الباردة والاضطرار للخيار بين بين القطبين الجديدين (بعد السوفيات والولايات المتحدة) أي الصين والولايات المتحدة فإن شعوبنا قد تخسر قرنا آخر من التبعية ولن تقوم لهم قائمة وسيكون مآل الربيع من جنس مآل ما كان يعتبر ثورات بعد هزيمة 48 ثم صار تبعيات لأحد القطبين.