ما سبيل التحرر من العقمين المادي والرمزي؟

1-كيف نصنف نخب الأمة ونميز بين من هم لها ومن هم عليها بصورة تحرر حكمنا من الاقتصار على المدى القصير في تقويم المواقف بثمراتها المباشرة؟ ها أنا قد فتحت على نفسي كل أبواب البلاء. لكني لا آلو لأن ما أراه حقا جدير بأن أقلو من أجله شلل الرياء.

2-مشكل عويص قد يكون عدم الحسم فيه بصورة موضوعية علة للصراعات الزائفة بين النخب فيمتنع التمييز بين الصديق والعدو فيختلط الحابل بالنابل. وإذ أقدم على علاجه فإني متحمل بوعي مسؤولية ما يترتب عليه من توسيع دائرة المناوئين.

3-مسألتان إذن: أولاهما تتعلق بتصنيف النخب اعتمادا على نظرية في مقومات الجماعة السوية. والثانية تتعلق بمعايير التمييز بين الصديق والعدو منها أي بين من يكون عمله للجماعة أو عليها : لأنها مبنية على افتراض التنافس بين البشر على شروط البقاء مع ما يمكن من الترفع على الإخلاد إلى الأرض (السياسة : صراع مع أخلاق ولو بالحد الأدنى).

4-والمقصود بالحسم الموضوعي –الذي هو شبه مستحيل– هو افتراض منظور يتعالى على موقع الطرف في الصراعات التي تنتج عن تنافس النخب في مجالات الانتخاب : فمن دون هذا الافتراض كل العلوم تسقط لأنها تتحول إلى إيديولوجيا (وبهذا فالعلوم تفترض مثل الأديان ما يشبه المنظور الربوبي للوجود سننا واستقلالا على الذاتيات).

5-ومجالات الانتخاب هي عينها ما به تصنف النخب التي تتألف منها الجماعات السوية بما يصور تعايشها في الداخل وفي الخارج وبما يقيمه أي خلدونيا بصورة العمران ومادته اعتمادا على نظرية الإسلام وتاريخ مؤسساته.

6-فلنفحص مجالات الانتخاب أو مجالات التنافس بين النخب على الدور في الوظائف التي تتحدد بها صورة العمران ومادته والتي تتعين في عمارة الدولة.

7-وعمارة أي دولة أو هيكلها الوظيفي –وهو ما بيناه فكذبنا فرضية حلاق ودعواه استحالة دولة الإسلام معتمدين على مقومات الدولة من حيث هي صورة العمران التي ترعى الجماعة وشروط بقائها حتى في القبائل البدائية– تعود إلى مقومات وظيفتين هما عين مفهوم الدولة: وظيفة الحماية بفروعها الخمسة ووظيفة الرعاية بفروعها الخمسة (ومجموعهما هو مضمون الشرائع سماوية كانت أو وضعية).

8-ففروع الحماية: اثنان للداخل: القضاء والأمن. واثنان للخارج: الدبلوماسية والدفاع. والخامس هو الـجهاز العصبي لها جميعا ولفروع الرعاية في آن : الاستعلام والاعلام السياسي.

9-وفروع الرعاية: اثنان للتكوين: التربية والمجتمع المدني. واثنان للتموين: الانتاج الثقافي والانتاج الاقتصادي.والخامس جهاز عصبي لها جميعا ولفروع الحماية في آن هو الاستعلام والاعلام العلمي.

10-وهذه المجالات العشرة وراءها آليات الانتخاب في مجالات التنافس وآليات التعويض للتداول بين المنتخبين. والآليات تجمع بين المجرى الفعلي والتبرير القولي في آن.

11-والقصد من التمييز بين المجرى الفعلي والتبرير القولي هو جوهر السياسي الجامع بين الفعل الذي قلما يكون أخلاقيا والقول الذي يدعي الأخلاق. وهو ازدواج ملازم للسياسي.

12-مشكل المشاكل في الجماعات البشرية هو معايير الانتخاب التي تعاني من التناقض بين ما يجري بالفعل وما يبرره في القول: وهو مشكل متناسب مع نسب الظلم والعدل الانتخابي فيها.

13-وهذا المشكل لا يقتصر على ما يجري في الجماعة الواحدة بل هو يحكم علاقات الجماعات فيما بينها إنه مشكل السياسة الوطنية والدولية في آن. وأفلاطون بحث له عن حل في النظام التربوي مع افتراض الفيلسوف ملكا أو الملك فيلسوفا.

14-ما يعني أنه حل مبني على فرضية مستحيلة: المحدد هو قانون توازن القوى لا قانون المعقول المثالي. فإذا أضفنا أن الدولي مؤثر في وطني الجماعات التابعة حماية أو رعاية أو بهما معا كان الإنسان ضحية لتطفيفين في الانتخاب للتدخل الاجنبي.

15-بعبارة وجيزة فإن الجاه والظلم وخاصة مفعول الشللية في الانتخاب لم تعد ضمن المجموعة الواحدة بل هي صارت تابعة لمافيات دولية تعين وتفرض حيثما عدمت السيادة.

16-وإذا تدبرت الأمر فإنك يمكن أن تدرك معنى سلطان إسرائيل في الغرب وفي الشرق وإيران في الشرق وغياب قدرة العرب على التاثير حتى في الداخل.

17-وبهذا فقد اشرت إلى بيت القصيد من المحاولة: السعي لفهم علل الشلل الذي أصاب العرب رغم الإمكانات التي لا يستهان بها وقدرة أعدائهم العجيبة.

18-فالفرز النخبوي في الجماعة العربية وفي كل ميادين النشاط التي ذكرنا ليست بيد العرب ليس في ما يجري في الإقليم أو في العالم فحسب بل في دولهم.

19-ذلك هو الداء الذي أريد فهمه وفهم دوره في في ظاهرتين مرضيتين تعاني منهما أمتنا سأصفهما بالاستعارة من الاستمداد العضوي الشارط للبقاء.

20-الأولى سأسميها الرضاعة المقلوبة.الكائنات الحية ترضع الحي أو ما يحيا به الحي جذبا للداخل.العرب رضاعهم يكون طردا للخارج: ينمي الاعداء.

21-الثانية تضيف ما هو أخطر:الاستمداد الطارد من المرضوع المادي (الثروة) ومن الموضوع الرمزي (التراث) يلغي كل مبادئ الديمومة ويعجل بإفنائه.

22-فإذا جمعت بين الظاهرتين وكلتاهما سميناها باستعارة بايولوجية (الرضاعة) وجدت أن النخب العربية في المستويات العشرة انتحارية بالجوهر.

23-النخب العربية –الغالبية التي انتخبت بما وصفنا من آليات– مكلفة بمهمة القضاء على الذات وتنمية الأعداء لأنها في خدمة من انتخبها ونصبها.

24-للأمانة فليس كل من يعمل ذلك يعمله بقصد الإساءة فالبعض منهم يتصور أنه يحسن صنعا: جل الأصوات الأعلى حول الخطاب الديني أو التنوير مثلا.

25-أظن الآن أن القارئ يدرك أهمية المشكل وعسر علاجه. فلنشرع في بيان أصناف النخب وكيفية قيامها بما وصفنا من التخريب بقصد أو بغير قصد.

26-ولنبدأ بنخب الحماية الخمس – ترتيب معكوس: القضاء تابع للأمن والدبلوماسية للدفاع وكلها تابعة لجهاز عصبي استعلامي وإعلامي “اكسترافارتي“.

27-استعملت كلمة أجنبية “اكسترافارتي“بمعنى أنه لا يجذب للداخل بل يطرد للخارج أي إنه ليس في خدمة الأمة والشعب بل في خدمة من يخدمهم الحاكم المنصب.

28-وحتى لا يكون الكلام مجردا: فلينظر القارئ حوله. وليركز على بشار والسيسي وصالح وحتفر وابن علي إلخ. هل نحتاج إلى مزيد شرح؟ في خدمة من هم؟

29-لكن المنصبين يمتد تأثيرهم إلى فروع الرعاية كذلك: التربية تابعة للمجتمع المدني والثقافة تابعة للاقتصاد والكل تابع للبحث العلمي. هذا هو المفروض.

30-لكنهم يفرضون مجتمعا مدنيا تابعا للمستعمر واقتصادا خادما له ولا وجود لبحث علمي بل مجرد تسويق لنماذج مفروضة لا صلة لها بواقع مجتمعاتنا وحاجاته.

31-الجامعات ومعاهد البحث لا تبحث ولا تعلم بل تقوم بمهمة تحضيرية استبدادية تواصل الاستعمار لتهديم ثقافة الشعب باتباع يسمونه إبداعا.

32-ولا نحتاج لأدلة أكثر إقناعا من دليلين: كل ما يحتاجه المجتمع مستورد. وبعد قرن من نشأة الجامعات لايزال الأغنياء يعالجون في الخارج. والتطاول للبنيان مع غياب الإنسان.

33-وإذا سمعت منتفخي الأوداج من المثقفين يدعي الريادة التحديثية فإنك إن كنت مطلعا على ثقافة الغرب تكتشف أنه مستورد “روبافاكيا” يعيش على الموضة.

34-فجلهم مثل الغانيات يتسوقون في الغرب ولا يشاركون في جعل أسواقهم منتجة لما يمكن أن يتسوق فيه غيرهم فضلا عنهم. كما أسلفنا رضاعة معكوسة وبضاعة مغشوشة.

35-فمن لم يفهم أن الاستيراد الذي لا يعدله التصدير على الأقل تصدير للعمل وتوريد للبطالة سواء في الإنتاج المادي أو الرمزي أقل من حمار.

36-خاصة إذا فاخر بالتوازن الكاذب المتمثل في استنفاد الـثروة الطبعيية دون عمل مقابل استيراد الخردة للحماية (الأسلحة) والرعاية (الأغذية) ولا يتبادل العرب إلا الاحتقار والحسد والتحالف مع العدو الألد.

38-فكل العرب فقراء والفرق بين الفقراء حاليا والفقراء مستقبلا هو فرق بين فقر بالفعل وفقر بالقوة والجميع–إن واصلوا–سيكون في الهوى سواء.

39-وقد حاولت أن أبين أهمية الظرفية الحالية التي جعلت الثورتين (التي بدأت من تونس والتي بدأت من السعودية) تلتقيان إذا كان الحزم عزما مثابرا لا نار هشيم.

40-فثورة التحرر من الاستبداد والفساد تعاني من تبعية الرعاية. وثورة التحرير من الاستضعاف والاستتباع تعاني من تبعية الحماية. يمكن أن تتكاملا فتزول التبعية بصنفيها.

41-وتكاملهما يجعل الفقراء يغنون الاغنياء عن الاحتماء بالاجنبي ويجعل الأغنياء يغنون الفقراء عن التسول لدى الأجنبي فتنشأ قوة سنية غير تابعة.

42-بذلك وحده يمكن الكلام على حماية ورعاية ذاتية في كل الوطن إذ يصبح التحرر من الاستبداد والفساد والتحرير من الاستضعاف والاستتباع سياسة.

43-ما يحدث الآن رضاعة معكوسة: الدول العربية ونخبها مثل “مغيثة” الحجام التي تمتص دم الأمة المادي والرمزي لتضخه في جسد الأعداء وتقتلها باستنزاف قواها المادية والروحية.

44-لعل الكثير من القراء يعتبر ما أسلفنا مؤديا إلى التيئيس من الإصلاح ومن ثم إلى الاحباط. لكن الحقيقة هي بخلاف ذلك: فدقة التشخيص شرط العلاج بقطع التسلسل في حلقة الاستبداد والفساد المفرغة.

45-اكتشفنا المناطات الخمسة للعلاج وتسلسل فاعلياتها: جهاز الاستعلام والإعلام السياسي فـجهاز الاستعلام والإعلام العلمي فـجهاز الحكم جهاز مصدره وجهاز مراقبته وتجديده السلمي.

46-ولنرتب علاجنا:أصل الشرعية (كيف يصل الحاكم إلى الحكم) فأصل تجديدها (كيف يتغير الحاكم) فأداة فعلها (منظومة الحكم) فجهازا الحماية والرعاية ففروعهما العشرة.

47-ولما كان الشعب قد ثار لإصلاح أصل الشرعية وأصل تجديدها فإن البقية ستتبع على الأقل في مستوى الحكم الذي سيشرف على إصلاح الأذرع العاملة.

48-إصلاح الأذرع أي فروع الحماية والرعاية يبدأ بإصلاح جهازيهما العصبيين المركزيين أي الاستعلام والإعلام السياسي والعلمي فهما عين الفساد.

49-لماذا هما عين الفساد؟ فجهاز الاستعلام والإعلام السياسي أو المخابرات هي التي تقلب سلسلة السلطة. فـمن تابعة ووسيلـة تتحول إلى متبوع وغاية.

50-وجهاز الاستعلام والإعلام العلمي من بصر وبصيرة تعرف الأمة بشؤونها وتمكنها من إبداع أدوات تحقيق غاياتها تصبح مسوقة للتبعية الحضارية.

51-وقلب وظيفتي جهازي الدولة العصبيين يقلب الترتيب في فروع الحماية وفي فروع الرعاية بجعل قانون القوة بديلا من قوة القانون: هذا وضعنا.

52-معرفة أصل الأدواء هي اكتشاف أصل الدواء: مصدر تكون الشرعية فمصدر تجديدها فجهاز الاستعلام والإعلام السياسي فالجهاز العلمي فالحماية والرعاية.

53-وتلك هي مهمة الثورتين: الثورة على الاستبداد والفساد والثورة على الاستضعاف والاستتباع. فإذا اتحدتا في عمل طويل النفس أصبح العلاج ميسورا.


ما سبيل التحرر من العقمين المادي والرمزي؟ – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي